السبت ١٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم محمد يحيى قاسمي

الانطباعية في النقد المغربي الحديث

2 – التجريح:

نوع قديم كذلك من النقد، وهو في أبسط مظاهره استهجان النصوص الشعرية دون الإتيان بأدنى استحسان فيها. ومن صفاته أن يصب الناقد جام غضبه على النص الشعري أو صاحبه دون حجة أو برهان.

وهذا الجانب كثير في كتابات المغاربة ومنه استهجان أحد كتاب مجلة (رسالة الأديب) قصيدة لعبد المجيد بنجلون عنوانها (عودة محمد الخامس) فيقول:" فالحق في رأيي أنها أبرد ما قرأت.. وإذا استثنينا بضعة أبيات من هذه القصيدة لم يبق فيها إلا كلام عادي أو دون".

ويهاجم عبد الكريم غلاب الشاعر علي الصقلي دون أن يحلل أو يدرس قصيدة (تحية) المنشورة بدعوة الحق، وعلى العكس من ذلك يدعو الشاعر إلى كتابة القصيدة نثرا فيعفي القراء من قراءتها. وهي دعوة تكشف عن طبيعة هذا النقد الجارح.

وحين يصل الناقد إلى مرحلة الانطباع مكتفيا بأن يقول: (ما أبرد هذا الشعر، أو هذه القصيدة لا تستحق القراءة) فإنه في الحقيقة لا يعتبر عندنا نقدا على الإطلاق، بل هو استهتار وحط من قيمة ما يقوله الشعراء.

ويمتزج النقد أحيانا بالتهكم والتحقير مثل ما نلمسه في قول ابن عباد يخاطب القراء في شأن شاعر قال قصيدة يمدح فيها السلطان، فقال ضمنها: (نحن أمة كلاب)، فيعقب الناقد قائلا: "فليتصور القارئ شاعرا قيل إنه شاعر أمة يحاول نظم قصيدة في غرض مدح صاحب الجلالة، ويهيئ لها سلسلة معاني مختارة ومن ضمنها أن يقول: (نحن كما علمت كلاب..)،وربما يأتي وقت نقرأ فيه لهذا الشاعر قصائد؛ لا بيتا واحدا؛ بمثل هذا المعنى أو أحط، ولا يتحرج من وصف المغرب بأمة الحمير والبغال والقطط والسلاحف والحشرات. وما يدريك أنها ستكون في نظره استقبالا حجارة أو حديدا ".

ومثل هذا التهكم اللاذع كثير في نصوص ابن عباد، لا يقتصر على شاعر دون غيره، فهو يسخر من محمد البيضاوي الشنقيطي الذي تغزل في قصيدة له، فيقول:" وفي بقية أبيات نسيبه لا يزال يحن ويئن، ومضى يشكو التصبر حتى كاد يقتله. فاسألوا عنه النجوم والليل، واسألوا المهللين والسحر فإن كبده انشقت وانفطرت وكادت تذوب".

ويشتد أسلوب ابن عباد أحيانا حنقا تصل درجته إلى السخط والشتم ممزوجين بصورة ساخرة وهزلية مثل أن يقول في رده على الشاعر الشنقيطي: "وهذا الشنقيطي يعلن في رده أنه لا يتحول عن التقليد ودون تحويله خرط القتاد، كأن الله جعل له عينيه خلف رأسه ولسانه في قفاه لا ينظر إلا من وراء ".
ويضطر الشنقيطي إلى الرد على القباج فيكتب مقالا بعنوان (ليس هذا بعشك فادرجي) هو أعنف في لهجته من أسلوب منتقده لأنه يصل إلى درجة اتهام الناقد بالجهل، وهو منتهى التجريح، يقول:" وأما ما يحض عليه الناقد من تقليد أهل العصر في كتابتهم وشعرهم فأنا أعتقد أنه مخطئ فيه لأنه أجهل من عرفنا في التاريخ باللغة العربية على الإجمال ".

والقباج جاهل – في نظر الشنقيطي– لأنه لم يتتلمذ على يد الشيوخ ؛ والشاعر واحد منهم؛ بدليل قوله: "ويظهر أن الناقد ممن لم يأخذوا العلم عن الشيوخ، فهو يلتقط ما يجده في الكتب والصحائف من غير تمييز بين الخطأ والصواب ".

ولعل في اللمزة الأخيرة ما يفوق اتهام الناقد بالجهل لأنه يصور هذا الأخير تصويرا أقرب إلى الحيوانات التي تلتقط فتات الموائد دون أن تميز بين القبيح والحسن.

ويسخر القباج من الشاعر عبد الرحمن بن زيدان، فينتقد بيتا من أبياته قائلا: "أما البيت الثالث ففيه لفظة السعود والسعود، والقافية كما في علمك من حرف العين، وفي السعد سين وعين، فصار الكل عيونا حفظك الله".

ويسخر الناقد نفسه من قصيدة للشاعر المطبوع قائلا: " ألست تراها كدعوات الأضرحة والقبور وتوسلات المتوسلين التي تسمعها صباح مساء بين الشوارع، وفي كل مزدحم وسوق. ويمكنك أن تلخص معناها في جملة صغيرة بدون هذا التطويل الممل وهي كما أقول أنا وأنت وجميع الناس في موقف الشكر: جزيتم خيرا ".

ويتهكم من الشاعر نفسه قائلا: "وقصيدته في المولد وما عهده ببعيد لا تقل عن هذه سخافة، ولو أردنا عرضها وقربنا لك معانيها لظهر لك العجز البادي في أجلى مظاهره والكلفة المتناهية في كل بيت من أبياتها، ولو سألت عجوزا من النساء لأعطتك من أوصاف الذكرى أحسن وأبين وأوفى بما تمس الحاجة إليه من هذا الموضوع".

وحين يضطر الناقد إلى تقويم شعر عبد الله القباج يقول ساخرا:" أما الآن فنحن نصارحه صراحة لا محاباة فيها..أن شعره قد هرم كما يهرم الشيخ الكبير".

ويشارك القباج في سخريته كثير من النقاد، فهذا سعيد حجي يسخر من الشعراء الشيوخ فيقول: " فهؤلاء المنتجون يخيلون إلي كأنما هي جثث تتحرك وتسير، وهي تغط في نومها، لا تشعر بقيمة لوجودها، ولا تسعى إلى غاية أسمى مما هي فيه".

ويسخر عبد الله كنون من الشاعر زكي مبارك فيعتبر بعض أخطائه في اللغة مثل تعابير عرب أمريكا.

و كتب عبد الله العمراني مقالا نقديا بعنوان (النثر أسبق من الشعر) رد فيه على العقاد وطه حسين اللذين يحاولان التفرقة بين الكلام وبين النثر إيهاما للقارئ بصحة الرأي القائم على قاعدة (خالف تعرف)، فلم يستسغ محمد بن تاويت هذا التأويل، فكتب ردا يدافع فيه عن الأديبين المصريين، ساخرا من العمراني قائلا: "سبحان الله! أكبر عقل في العالم العربي وأعظم عميد في أدبه، يجريان – كان الله في عونهما – مجرى (خالف تعرف)، ماذا نقول – نحن الضعفاء المغمورين– إذا أردنا أن نعرف؟ لا بد أننا سنيأس، ولا بد أننا سنعلق في عنقنا ما نصحت به الأعرابية ابنها ليعلقه في عنقه، إذا لم تكن هناك حيلة ليعرف، وبئس ما به نعرف".

ويقابل عبد الله العمراني سخرية ابن تاويت بسخرية ألذغ منها فيقول:" وها أنذا آخذ في مناقشة آراء الكاتب القائلة، مما يكشف للقارئ الكريم عن مدى علم الذي رمى الناس بالجهل، فانطبق عليه المثل القائل (رمتني بدائها وانسلت)، ولكني في انتقادي له ومناقشتي آراءه لا أدري أي آرائه آتي وأيها أدع؟ فأفكاره أمام قلمي بمثابة رأس الأقرع:أينما ضربت سال الدم!".

وفي رد العمراني على محمد بن تاويت كثير من السخرية والاستهزاء، فحين جاء هذا الأخير بفكرة أن " الشعر سائر في طريق الاندثار بينما النثر صاعد في رقي.. لأن العقل يربو برقي الإنسان والخيال يخبو برقي الإنسان "،استغل العمراني هذه الفكرة، ضاحكا من صاحبها، قائلا: " لك الله يا شعر! إنك تحتضر فليس بينك وبين الفناء غير خطوات ستخطوها مرغما وسريعا لأن الأستاذ الأديب حكم عليك بهذا، وإن يكن لك مجال في القول فهو أن توصي بثلث ما تملك لأنه درسك دراسة دقيقة متقنة خولت له الحكم عليك هكذا".

ولا يقف العمراني عند هذا الحد، بل يستمر في تهكمه من ابن تاويت، مخاطبا الشعراء: "وأنتم أيها الشعراء في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل العصور ومختلف الأمم، لقد أتعبتم أنفسكم فيما لا يسمن ولا يغني من جوع.. فإن شعركم لميت، وإنكم لميتون بقنبلة تشبه القنبلة الهيدروجينية اخترعها لكم مخترع مغربي لأنكم لا تستحقون الحياة ما دمتم تجرون وراء عواطفكم، وتنظرون إلى الحياة نظرة عاطفية مجردة (في رأيه)، يجب عليكم أن تهجروا الشعر إن أردتم البقاء، ويجب– إن شئتم الخلود – أن تتخذوا العقل فقط مرشدا، والفكر وحده رائدا ".

وقد تتخلل الأسلوب الساخر بعض الألفاظ المحلية ؛ وهي بعيدة عن اللغة الفصيحة، أتى بها الناقد للتفكه والاستهزاء والسخرية، مثل أن يقول ابن عباد في رده على أحد المدافعين عن الشعراء الشيوخ: " وحبذا لو بين في رده عيوب مقالنا الأول لنستفيد من علمه كما استفدنا في العام المنسلخ من أبحاثه في (الزعبول) أو (كرموس النصارى)، ومقالاته في طوابع البريد البالية المختصة به والمقتصرة عليه ".

إن مثل هذا النقد هو نقد هجومي، ولا يحمل أي قيمة توجيهية. فعوض أن يعمل النقاد على توجيه الشعراء وتصحيح أخطائهم في شيء من النزاهة وشرف المقصد يذهبون كل مذهب في السخرية والتهكم. وقد يدفعهم الغرور إلى تجريد الشعراء حتى من فهم بعض المعاني.

وقد تنبه كثير من الأدباء إلى خطورة هذا النوع من النقد، فهذا ناقد رمز لاسمه بحرف الميم يعترف بخلو حركتنا الأدبية من النقد النزيه " الذي يلقي خيوط أشعته الوضاءة على سبل الإنتاج الصحيح وزوايا الإبداع الفني، وعلى نواحي الوحي الخيالي الرائع فيكوّن الأذواق السليمة التي تكشف عن قيم الأفكار وزائفها، ويجلي الغشاوة عن المعاني التي كانت محتجبة عن الأفهام، ويزيل الأستار عن السفسطة الفارغة التي يعتبرها الجمهور كأفكار محترمة، وهذا النوع من النقد ليس لنا منه شيء إلا ما كان من نزر يسير لا يذكر ".

ويجمع النقاد على أن ما آل إليه وضع النقد يرجع إلى التسرع في إصدار الأحكام، فهذا إبراهيم الإلغي يقول: " وأنا أتتبع بكل اهتمام ما ينشر من الإنتاج الأدبي، ومن تعرض النقاد له.. بالتزييف، فكنت ألاحظ عند البعض طابع السرعة، وعند البعض الآخر حالة الاكتفاء بما حضر.. وتكرر هذا مرارا.. مما أدى بمعظم المنتجين إلى البقاء في وضعهم العادي..".

ويعزى التجريح – في نظر محمد الآمري المصمودي – إلى التسرع في الحكم، فلو أن الناقد سمح لنفسه قبل أن يصدر أحكامه المبتسرة بقسط من الوقت ليدرس ما سبق نشره من شعرنا الحديث في الصحف والمجلات المغربية وغيرها، وما أصدرته المطابع من دواوين على قلتها، لو أنه فعل ذلك لكان بوسعه أن يصدر أحكاما متعقلة مهما قست، لأنها تكون مدعمة بالأدلة التي قد لا تدع المجال للجدال، نزيهة لأنها خالية من كل هوى أو تأثير خارجي. وهي بين هذا وذاك تلتمس الأسباب والعلل، وتتعمق البواعث والمثبطات، ولا تتغاضى عن مواطن الإبداع عند شعرائنا..".

 [1]


[1

- الحركة الأدبية المغربية في شهر – رسالة الأديب – ع 1 – س 1 – يناير 1958 – ص: 35.
- العدد الماضي في الميزان – دعوة الحق – ع 1 – س 2 – ربيع الأول 1378 -شتنبر 1958 – ص: 73.
- ليس هذا بعشك فادرجي – مجلة المغرب – ع 5 – س 3 – أكتوبر 1934 – ص: 9.
- الشنقيطي – مجلة المغرب – ع 6 – شعبان 1353 - نونبر 1934 - ص: 7.
- نفسه.
- ليس هذا بعشك فادرجي – مجلة المغرب – ع 7 – س 3 – 1934 – ص: 8.
- نفسه.
- هل يسمع شعراؤنا – مجلة المغرب – ع 3 – ربيع الثاني 1353 -يوليوز 1934 – ص: 12.
- ليس هذا بعشك فادرجي – مجلة المغرب – ( مقال سابق ).
- نفسه.
- نفسه.
- خواطر في النقد – مجلة المغرب – ع 6 – شعبان 1353 - نونبر 1934 - ص: 11.
- ديوان زكي مبارك – السلام – ج 5 – شوال 1352 – فبراير 1934 – ص: 41.
- النثر أسبق وجودا من الشعر – الأنوار – ع 19 – يوليوز - غشت 1950 – ص: 1.
- الشعر قبل النثر – الأنيس – ع 45 – ذو الحجة 1369 - أكتوبر 1950 – ص 2.
- بين القذى والخشبة – الأنوار - ع 22 – مارس - أبريل 1950 – ص: 1.
- الشعر قبل النثر – الأنيس – ع 45 – أكتوبر 1950 – ص: 3.
- بين القذى والخشبة – الأنوار – ص: 2.
- بين القذى والخشبة – الأنوار – ع 22 – 1950 – ص: 2 – 3.
- ليس هذا بعشك فادرجي – مقال سابق.
- النقد النزيه – التقدم – ع 133 – 1 جمادى الثانية 1363 - 24 مايو 1944 – ص: 1.
- قرأت في العدد السابق الشعر – دعوة الحق – ع 2 – س 3 – ربيع الثاني 1379 - نونبر 1959 – ص:87.
- في شعرنا المعاصر ( 1 ) – دعوة الحق – ع 4 – س 2 – رجب 1378 – يناير 1959 – ص: 79.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى