السبت ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم جميل حمداوي

الـــدراما الإيهامية في مسرح الطفل

توطئــــــة:

تعد الدراما الإيهامية من أهم التقنيات الدراماتورجية التي يمكن الالتجاء إليها لتحضير عرض مسرحي خاص بالطفل، ولاسيما في مرحلة الحضانة ومرحلة التعليم الأولي. وهذه التقنية قريبة من عالم الأطفال على المستوى الذهني والشعوري والحسي الحركي. كما أن هذه التقنية المسرحية تساعدهم على إغناء مخيالهم الحسي القائم على التجسيد والاستعارة والأنسنة. وبهذه التقنية ينتقل الطفل من عالم حسي مادي ملموس إلى عالم خيالي مجنح قائم على الإيحاء والإيهام بالواقعية.

ومن هنا، فمن الضروري أن نشجع الأطفال على توليد فرجات إيهامية شخصية وذاتية لتفريغ طاقتهم الزائدة، وبناء شخصياتهم الشعورية واللاشعورية، والرفع من طاقة الخيال عبر الانتقال من عالم الواقع إلى عالم الخيال والفانطاستيك.

إذا، ما مفهوم الدراما الإيهامية؟ وماهي مقوماتها الفنية والجمالية؟ وماهي وظائفها؟ وكيف يمكن تطبيق الدراما الإيهامية عمليا وتربويا وواقعيا من أجل إغناء فرجات الطفل؟

1- مفهوم الدراما الإيهامية:

نتحدث عن الدراما الإيهامية حينما نعد ما هو خيالي واقعا وحقيقة، فنحول العالم الممكن إلى عالم كائن ومجسد بالفعل عن طريق التخييل الاستعاري والتصوير البلاغي. أي نبدع عالما فنيا خارقا بواسطة الكلمات والصور الحلمية والاستعارات المجازية. بيد أن هذا العالم الطفولي الخيالي يحمل في طياته دلالات مرجعية وآثارا حسية تدل على واقعيته الحقيقية. علاوة على ذلك، فإن الدراما الإيهامية هي فرجات درامية أو شبه مسرحية أو لنقل: مسرحية، يقلد فيها الصغار الكبار عبر اللعب الإيهامي ولعب تبادل الأدوار، عن طريق تمثل أفعالهم وأقوالهم. فالولد يقلد أباه في البيت، وفي الشارع، وفي العمل. ويحاكيه في حركاته وإشاراته جلوسا ووقوفا. فيقود السيارة كما يفعل أبوه، ويقرأ الكتاب كما يفعل معلمه، ويقلد صديقه ساخرا منه، ويقلد الحيوانات التي تكون قريبة منه. كما يقلد الأبطال الذين يراهم في التلفزة أو في القنوات الفضائية كالسندباد البحري، وعلي بابا، وعلاء الدين، وسوبرمان، وباطمان، وزورو، وطرزان، وجاكي شان، أو يقرأ قصصهم في الكتب والمجلات. ومن ثم، يحاول الطفل خلق فرجات درامية سواء أكان فضاؤها الركحي هو البيت أم الشارع أم الفصل الدراسي أم الخشبة المسرحية العمومية. وتتسم الدراما الإيهامية لدى الطفل بكثرة المغامرات الملحمية والبطولات الخارقة. ويرد هذا الطفل اللاعب دائما في صورة فارس الأحلام في دراما العروس والعريس.

أما إذا تحدثنا عن البنت في الدراما الإيهامية، فإنها تقلد أمها في البيت. فتسترجع مجموعة من الصور المترسبة في ذاكرتها، كحركات أمها في المطبخ، واستدعاء حواراتها مع زوجها، ورعايتها لأطفالها، وتدبير وقتها في الخياطة وتصريف شؤون البيت، واستحضار سهرها الدائم والمستمر من أجل الحفاظ على سعادة الأسرة بصفة عامة وسعادة زوجها بصفة خاصة. لذا، نجد البنت تفعل مثل أمها، تعتني بدماها وعرائسها، فتخيط لهن الثياب الأنيقة. ثم، تعد لهن الأكل والشراب. كما تشارك كثيرا في حفلات الزفاف مع صديقاتها وأصدقائها، فتحضر دائما بصورة عروس جميلة وزوجة وفية.

وللتوضيح أكثر: فالدراما الإيهامية ممارسة لعبية معروفة لدى الطفل، حيث يحول الأشياء والنباتات والجماد والعصي والدمى والعرائس إلى كائنات إحيائية مؤنسنة عن طريق الاستعارة والمجاز. فيتخيل الطفل عبر الحركات والإشارات والإيماءات، وعبر لغته الصاخبة المجهورة وسلوكه الصريح، أنه يقود الطائرة، أو يقود الباخرة، أو يقود السيارة، أو يركب حصانا وهو يمتطي عصا. وتتحول الأشياء إلى ذوات إنسانية تفصح وتعبر وتتكلم وتشعر، أي يحولها هذا الطفل اللاعب إلى كائنات خارقة فانطاستيكية تتأرجح بين الواقع واللاواقع، وتتراوح بين المألوف والغريب.

2- مقومات الدراما الإيهامية:

تتكئ الدراما الايهامية على أنسنة مجموعة من الألعاب وتحويلها إلى أشكال إحيائية إنسانية وتخييلية قائمة على التوهيم والتشخيص المجازي والاستعاري الإنساني. كما تستند هذه الدراما إلى التقليد والمحاكاة، والتشخيص، واللعب، وتحويل الخارق والممكن والمستحيل إلى واقع فني وجمالي ومجازي عن طريق التخييل والفعل الحلمي.

ومن المعلوم أن هذه الدراما الإيهامية محبوبة جدا ومقبولة بتلقائية وطواعية من قبل الأطفال في سنواتهم العمرية الأولى أومن قبل أطفال الحضانة والتعليم الأولي. ويقول جيرسيلد في هذا الصدد: " إن تمثيل الشخصيات عند الطفل يبدأ من حوالي سن العام الواحد، حيث يتعلم الأطفال الكثير في لعبهم الإيهامي من الأطفال الأكبر سنا منهم. كما أن التمثيل الإيهامي يعتبر مثله مثل التمثيل الملحمي الذي نادى به بيرتولد بريخت".

ومن مظاهر الدراما الإيهامية تحويل الطفل لعصاه إلى حصان، وبنائه لمنزل رملي على شاطئ البحر، يجعله يعتقد أنه يبني منزلا حقيقيا...أي إنه يضفي صفات شخصية على كل العوالم والأشياء التي يجدها قريبة منه في الواقع، ويحاول أنسنتها وتشخيصها دراميا كالأشياء والنباتات والحيوانات والأشجار، وبعض مظاهر الطبيعة الصامتة والحية. ويحاول الأطفال تطويع هذه الوسائل مسرحة وتشخيصا، واستنطاقها دراميا والحوار معها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

3- وظائف الدراما الإيهامية:

يمكن الحديث عن مجموعة من الوظائف التي تحققها الدراما الإيهامية في إطار مسرح الأطفال. فهي تبني شخصية الطفل عن طريق تقليد الآخرين ومحاكاتهم في أفعالهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم. كما أن هذه الدراما تولد طاقة التخييل لدى الطفل حينما يحول الصور الخيالية الممكنة أو المستحيلة إلى صور واقعية مادية ومحسوسة. ومن هنا، يتولد المخيال الحسي والتجريدي والفانطاستيكي والخارق لدى الطفل اللاعب أو المقلد. زد على ذلك، أن هناك الكثير من الأشياء والأفعال محرومة ومستحيلة على الطفل واقعيا، ولكنها عن طريق التخييل والتشخيص الحسي تصبح ممكنة وسهلة المنال والتحقيق. وبالتالي، تصبح الدراما الإيهامية طريقة علاجية للطفل، تحقق توازنه النفسي، وتلبي رغباته الشعورية واللاشعورية، وتشبع ميولاته العقلية والوجدانية والنفسية والحسية الحركية، وتعزز ذكاءه العاطفي والأسري والاجتماعي.

هذا، وإن أهم ماتقوم به الدراما الإيهامية أنها تحرر الأطفال من عقدهم النفسية الصريحة والمضمرة، وتخلصهم من مكبوتاتهم المترسبة في اللاوعي من شدة ضغوطات الوعي وسلطة المجتمع والأنا الأعلى. وبصفة عامة، " فإن كل عصر يبتكر طرقه الإيهامية. ثم إن البحث عن الإيهام مرتبط، كما أوضح فرويد، بالبحث عن اللذة، وبنفي مزدوج:إننا نغرف بأن هذه الشخصية ليست هي نحن، ولكن في الوقت ذاته، إنها كانت نحن. إن المسرح هو مكان عودة الكبت، ولذلك يرتبط باللاشعور."

ويمكن الحديث عن وظائف أخرى للدراما الإيهامية يمكن حصرها في الوظيفة البيداغوجية والوظيفة الديداكتيكية؛ لأن الطفل من خلال هذه الفرجة الإيهامية يستثمر مهارة التعبير اللفظي والحركي من خلال حواراته الداخلية ومناجاته الصارخة وصخبه البطولي، وعبر ترداد منولوجات انسيابية ارتجالية تعبر عن أفكاره الذهنية وأحاسيسه ومشاعره الوجدانية، وتشغيل طاقته الحسية الحركية باستعمال الكوريغرافيا البدنية الحركية أو الحركات الراقصة لتجسيد مجموعة من المشاهد المسرحية التي تثير الصغار والكبار على حد سواء.

وتستدعي هذه الدراما الإيهامية كذلك تقنيات التشخيص المسرحي، وتقنيات التعبير اللفظي والحركي والميمي، وتستحضر فنيا وجماليا طرائق التقليد والمحاكاة واللعب من أجل إفادة الآخرين وإمتاعهم ترفيها وتسلية.

وعليه، فالهدف العام من هذه الدراما الإيهامية هو رغبة الطفل في تجاوز الواقع نحو الخيال، وهروبه من سلطة الكبار، والتخلص من فظاعة الواقع نحو عوالم فنطاستيكية أكثر رحابة وبراءة ومثالية، والتعبير عن مكبوتاته الشعورية واللاشعورية تنفيسا وتعويضا وتداعيا وتساميا، وتحقيق رغباته السيكولوجية والبيولوجية تطهيرا وتعويضا، وتخليص ذاته من الانفعالات السلبية، وتحريرها من الغرائز السيئة والشريرة كالغضب والضيق والسخط، ثم تجنب الظروف التي تقيده قهرا وجبرا، وتمنعه من الحركة والتحرر والانطلاق، والتي تتحكم فيه تقييدا وسلبا.

4- كيف نوظف الدراما الإيهامية في مسرح الطفل؟

لايمكن الحديث عن مسرح الطفل إطلاقا إلا إذا كان غنيا ودسما وزاخرا بالفرجات الدرامية المتنوعة على غرار مسرح الكبار. ويعني هذا أن يكون هذا المسرح عبارة عن لوحات مركبة من مجموعة من الفرجات والمشاهد والفصول والمناظر الإبداعية التي تتعلق بحياة الطفل ولعبه. ومن هنا، يمكن استثمار الدراما الإيهامية داخل العرض المسرحي الطفلي بتشغيل مهارة تقليد الآخرين، ومهارة لعب الأدوار " وأهم ما يتميز به هذا النوع من اللعب عند الأطفال هو تقمصهم لشخصيات الكبار أو الأشخاص الآخرين حسب أنماط سلوكهم وأساليبهم المميزة في الحياة، والتي يدركها الطفل عيانيا، وينفعل بها وجدانيا، حيث يعكس الطفل في هذه الألعاب نماذج الحياة الإنسانية المادية المحيطة به. وبذلك مضمون لعبه، أي إن هذا النوع من اللعب ينشأ استجابة لانطباعات انفعالية قوية يتأثر فيها بنماذج من الحياة والوسط المحيط به.

وهذه الألعاب تنطوي على الكثير من الخيال عند الطفل، لهذا نجدها تنحو به منحى إبداعيا.....لأن الكثير مما يتعلمه الطفل وينمي قوة الابتكار لديه يقوم على الخيال والتخمين والتساؤلات والاستفسارات والتنقيب والاستكشاف، وهو ما نجده منعكسا في أدوار اللعب التي يعيشها بالخيال."
ومن الأسس الأخرى للدراما الإيهامية نجد: مهارة الارتجال التلقائي العفوي، ومهارة اللعب الإيهامي الذي يفسح المجال لخيال الطفل، ويقوم " بتنمية قدرته على المعرفة الصحيحة للأشياء التي يقوم بها، والتي رأينا- يقول الباحث المغربي سالم كويندي- أن الطفل يبدع في إطارها".

ومن المعروف أن اللعب من أهم المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها الدراما الإيهامية إلى جانب التقليد، وتبادل الأدوار، والتحويل الفانطاستيكي، والأنسنة الاستعارية والمجازية. فاللعب بكل أنواعه: " يعمل على نمو الذاكرة والتفكير والإدراك والتخيل والكلام، والانفعالات، والإرادة والخصال الخلقية، وهو الشيء الذي يقوم عليه التمثيل إلا أن هذا الأخير يحتاج إلى مراس يتمثل في التداريب والإعداد للعمل المسرحي حيث تتجلى هذه القدرات لدى الممثل حتى يمكنه من التحول من المهنة إلى الفن وهو ما يتيسر لدى الأطفال باللعب، وما التربية إلا لرعاية مثل هذه الخصال والتقدم بها حتى تكون في مستوى الشخصية المبتغاة من تنشئة الأطفال لاقتدارهم على ممارسة التغيير، ونحن هنا نعتبر هذا النمو مرغوب فيه ويجب أن يوضع في أولويات العمل التمثيلي للطفل."

وعلى أي حال، حينما نريد إخراج مسرحية طفلية، فيمكن لنا أن نوظف الدراما الإيهامية عبر تشغيل تقنية التشخيص الإيهامي، أي يتحدث الطفل الممثل مع أشيائه، فيستنطقها، ويؤنسنها، ويسميها، ويتحاور معها حضورا وغيابا، فيحول المخلوقات الجامدة إلى كائنات إنسانية حية. ويمكن للطفل فوق خشبة الركح أن يوهمنا بأنه يشرب ماء، حينما يتصور بطريقة خيالية أنه يحمل كأسا، وذلك بممارسة التخييل والإيحاء. أو يستعمل يديه ويلوح بها في الفضاء ليبين لنا بأنه يسافر عبر الطائرة. ويمكن أن يستعمل أيضا مواقف إيهامية أخرى عديدة ليوهم المشاهدين ببناء المنزل، أو بالنزول فوق القمر، أو بقيادة دراجة متحركة أو سيارة السباق بسرعة كبيرة تقليدا وتمثيلا وتشخيصا ومحاكاة.

ومن هنا، يمكن أن ينتقل الطفل من مرحلة التمثيل الإيهامي إلى مرحلة التمثيل الواقعي والإبداعي. ولا يعني هذا أن الطفل في مرحلة الدراما الإبداعية أو الإيهامية يقف عند حدود التقليد وتكرار ما لدى الآخرين، بل يبدع الجديد، ويضيف أشياء كثيرة نابعة من ذاته الشخصية، وواقعه الموضوعي، ومخياله الحسي المجرد.

وعليه، فإن هذا اللعب الإيهامي يعتبر" مرآة للثقافة السائدة في مجتمع الأطفال لأنهم لايعكسون بلعبهم إلا الأحداث الجارية في حياتهم اليومية، حيث لايقوم الطفل في لعبه إلا بتكرار ومحاكاة كل مايراه ويسمعه.
كما يعبر هذا اللعب على روح العصر الذي يوجد فيه الطفل، وهنا نستحضر توجه الأطفال للألعاب التي تمثل نماذج من معطيات هذا العصر كغزو الفضاء..."

وعلى العموم، فالدراما الإيهامية تقنية مسرحية لها نتائج إيجابية ومثمرة من أجل إخراج عملي مسرحي طفلي ناجح، مادمنا نركز فيه على استحضار ألعاب الأطفال الإيهامية المبنية على الأنسنة المجازية، والإحياء الفانطاستيكي، والإيحاء الرمزي، والتعويض السيكولوجي.

خاتمة:

ونستنتج، مما سبق، أن الدراما الإيهامية هي تقنية مسرحية تعتمد على مجموعة من المهارات التشخيصية والتمثيلية كتشغيل التقليد والمحاكاة، والاستعانة بالارتجال الطوعي التلقائي، والاعتماد على اللعب الإيهامي أو تبادل الأدوار، واستنطاق الأشياء الجامدة من نباتات وجماد وحيوانات ودمى وعرائس بأنسنتها وتشخيصها وإحيائها تعبيرا وحركة وإشارة وميما.
ومن هنا، فالدراما الإيهامية لها أدوار إيجابية عدة، إذ تساعد الطفل على تقليد الآخرين إبداعا وتخييلا واستكشافا، كما تعينه على بناء ذاته الشخصية، وتنمية ذكائه العاطفي والاجتماعي، ومساعدته أيضا على إنجاز مجموعة من الأدوار الفردية والاجتماعية، اعتمادا على تبادل الأدوار الفعلية والمدركة على أساس التنفيس والتعويض وإثبات الذات، عبر وسائط درامية كالمحاكاة والتشخيص الإحيائي وأنسنة الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية.

 [1]


[1

- سالم كويندي: المسرح المدرسي،مطبعة نجم الجديدة، الجديدة، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:80؛
- أحمد بلخيري: معجم المصطلحات المسرحية، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2005م، ص:28؛
- سالم كويندي: المسرح المدرسي،مطبعة نجم الجديدة، الجديدة، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:80؛
- سالم كويندي: المسرح المدرسي،مطبعة نجم الجديدة، الجديدة، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:82؛
- سالم كويندي: المسرح المدرسي،مطبعة نجم الجديدة، الجديدة، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:82؛
- سالم كويندي: نفس المرجع السابق، ص:81.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى