الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
قصـــة قصيــــــــرة
بقلم رشا فوزي الحــاج

السقوط من الطابق العاشر

عادل سمــــارة.

هذا الاسم كان أشهر اسم مر على مدرستنا خلال أكثر من ربع قرن من الزمان .....

كان زميلنا فى الدراسة ، ولكنه كان متميّزاً عن جميع التلاميذ ، فلقد كان والده أغنى من فى مدينتنا ، وكان الناظر والمدرسون يتقربون إليه من خلال التقرب إلى ابنه عادل ..ومن الحق أن عادل كان وسيماً ، وكانت الثياب الفخمة التى يلبسها تناسبه تماماُ ، ومن أجل هذه الفخامة والأبهة، منع مدرس الفصل أيّاً منّا ـ نحن الصعاليك ـ من الجلوس بجوار عادل ، واستقل صاحبنا بالمقعد الذى يتسع لتلميذين !!!
كما أذكر أن عادل كان الوحيد فى المدرسة وربما فى البلد ، الذى يحمل شنطة مصنوعة من الجلد ...فقد كنا جميعاً نحمل شنطاً مصنوعة من القماش الردئ، كانت تصنعها أمهاتنا من مخلفات الملابس بعد أن تفشل فى إضافة رقع جديدة إليها ، ثم تضيف إليها حبلاً طويلاً ، كى نعلق هذه الشنطة فى الرقبة ، لذا كنا نطالب أهلنا بشراء شنطة جلدية كشنطة عادل ، ونحن نعلم تمام العلم أنهم لن يفعلوا ذلك ، ولكن كنا نشعر بمتعة ممزوجة بالمرارة ونحن نصف هذه الشنطة الجلدية ، وكنا نشعر بسعادة لأن أهلينا لم يسمعوا بوجود شنطة من هذا النوع من قبل !!!!

وبالطبع لم يجرؤ أحد من المدرسين على ضرب عادل كما كانوا يفعلون معنا أو حتى توجيه الأسئلة إليه ، السؤال الوحيد الذى سألوه له باستمرار : كيف حال صحة الوالد ؟؟؟؟

وكان المدرسون يتزاحمون من أجل الذهاب إلى القصر - كما كنا نسمى بيت عادل سمارة - وذلك من أجل أن يشرحوا له الدروس فى البيت، وبعدها يخرجون ليتحدثوا عن أشياء رأوها داخل القصر وأكلات أكلوها ، وكانت هذه القصص تختلط لدينا بقصص ألف ليلة وليلة ..إلى أن جاء يوم ودخلت هذا القصر بنفسى ، وكان ذلك حدثاً كبيراً فى حياتى ، فلقد كلفنا المدرس بواجب بيتىّ قبيل إجازة منتصف العام وأشرك كل اثنين معاً لحل هذا الواجب ، وكان عادل سمارة شريكى فى هذا الواجب ، أو أننى كنت شريك عادل فى ذلك ، فلقد كان من حسن طالعى أن اسمى - عبد الحميد -يأتى بعد اسمه فى الترتيب الأبجدى ، وكان هذا من دواعى فخرى ، لذا أشركنى المدرس مع عادل فى هذا الواجب ، وقال لى وهو يفرك أذنى بين أصابعه : لا تُتعب عادل معك ..أجب أنت الأسئلة ثم انسخها فى دفتر عادل ...

لم أشعر بالألم ، ولكنى شعرت بسعادة أننى - أنا عبد الحميد - سأكون شريكاً لعادل سمارة فى الواجب البيتىّ ، وهكذا طلب منى عادل أن أحضر إلى بيته لكى نقوم بحل بالواجب " معاً " ...
دفعنى ذلك لأن أبكى لأمى أكثر من ساعة كى تُخرج ملابس العيد التى لا تخرج من الصندوق إلا فى المناسبات شديدة الخطورة ، لم تقتنع أمى ولكنها وافقت تحت الحاحى الشديد ، وأخذت تصلح من شأن هذه الملابس التى لبسها أخى الأكبر فى الأعياد والمناسبات ، ولما ضاقت عليه لبسها أخى الثانى ، ولما ضاقت عليه هو أيضاً صارت خاصة بى أنا وحدى ألبسها فى الأعياد والمناسبات الخطيرة مثل دخول " القصر " ....

دخلت القصر وأنا أكاد أتعثر فى حذاء أخى الواسع ، ورأيت فيه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر بقلب بشر فى بلدتنا ، بل اننى اعتقدت يومها أن " القصر " أفضل بيت فى العالم ، وعندما سمعت الراديو -الذى رأيته لأول مرة هو والتلفاز فى القصر - سمعته يتحدث عن البيت الأبيض بتوقير كبير ، شعرت أن هذا المذيع لو دخل بيت عادل سمارة لما تحدث بكل هذا الاحترام عن البيت الأبيض !!!
لم أستطع يومها أن أكتب كلمة واحدة من الواجب البيتىّ ، بل كنت مندهشاً من كل شئ ، رأيت التلفاز ورأيت فيه أشخاصاً صغاراً ، وعجبت كيف دخلوا هذا الصندوق الصغير وكيف يأكلون ويشربون ، ولم أفق من صدمة التلفاز حتى رأيت الراديو وسمعت صوتاً هادراً يصدر منه ويتحدث هذا الصوت المجلجل عن حرب قادمة ، وأننا سننتصر عليهم ، ولم يشغلنى أمر هذه الحرب ، ولا مَن سينتصر على مَن ، كل ما شغلنى إن كانت هذه الأشياء هى العفاريت التى أكثرت أمى من الحديث عنها أم لا ؟؟؟!

هذه الدهشة أضاعت منى طعم اللحوم والفواكه التى طالما حلمت بها ، لكن لم أشعر لها بطعم خاص وسط هذا الانبهار ..الكلمة الوحيدة التى وعيتها كانت كلمة السيدة الفاضلة أم عادل سمارة التى قالت له : العب مع عبد الحميد يا عادل ، ولا تلعب مع الأشرار الفاسدين .....
نزلت كلمة السيدة الأم برداً وسلاماً على قلبى ، فلقد أتاحت لى دخول القصر مرات عديدة ، وكنت فى كل مرة انبهر و أدهش من كل شئ أراه ، وكنت فى كل مرة أعود إلى بيتي ساخطاً ثائراً على الحياة البائسة التى نحياها ، وفى كل ثورة من ثوراتى كنت أُواجه بالضرب حتى تهدأ ثورتى ويحل محلها شعور غريب هو مزيج من الألم والسخط والسعادة والتمرد الخفى .....

ولا بد لى من الاعتراف أنه برغم كل هذه السنين ، وبرغم دخولى منازلاً وقصوراً أفخم من ذلك" القصر" بمئات المرات ، إلا أننى لا زلت أرى ذلك القصر فى كثير من أحلامى ، وارتجف وأنا أقترب من البوابة الضخمة ، ويظل طيفه مسيطراً علىّ بقية النهار .....

رسب عادل سمارة أكثر من مرة بينما نجحت أنا ، وعمل هذا على التباعد بيننا ، وفترت العلاقة ، ولكننى لم أنسَ مطلقاً روعة ذلك القصر ، والأشياء الكثيرة التى تذكرنى بالأشباح داخل هذا القصر ......
ظل ذلك كذلك حتى تفرقت بنا السبل ، ولم أعد أرى عادل سمارة أو أسمع شيئاً من أخباره ، سافرت للدراسة الجامعية ، وكنت أعود لزيارة قصيرة فى الإجازات الدراسية ، ولم يصدف أن التقيت به ، وكل ما عرفته فى هذه الفترة أن والده قد مات ، حزنت من أجله قليلاً ونويت أن أذهب لتعزية عادل ، لكن أموراً كثيرة حالت بينى وبين هذا الواجب ، لعل أهمها احساسي بأن عادل أصبح وريثاً لكل هذه الثروة ، ولا أدرى كيف سأتعامل معه ..

أنهيت دراستى الجامعية وسافرت إلى الكويت ، وعملت فى هذا البلد الشقيق ، وكنت سعيداً اننى أساهم فى دفع هذا البلد إلى الحضارة والتقدم ...

تزوجت وأنجبت الأطفال ، وظللت أخدم في الكويت ،وقد شعرت أن رسالتي الأساسية في الحياة هي خدمة هذا البلد ،ورفع شأنه ،وكنت وزملائي نشعر أن الكويت هو بلدنا الثاني ، لذا كانت المفاجأة الضخمة أن الكويت عندما تعرض لأول محنة تمثلت في غزو العراق له ، بحث عن كبش الفداء وكنا نحن هذا الكبش ، طردونا شر طردة ! لا لشئ إلا لأنهم لم يجدوا فئة أخرى أو هدفاً آخر يوجهون نحوه رغبتهم فى الانتقام ، وعللوا أنفسهم فى فعلتهم ضدنا بأن بعضا ًمن الفلسطينين ساندوا الاحتلال العراقى .....

عدت إلى قطاع غزة وسط احساس حاد بخيبة الأمل ، فلقد طُردنا من البلد الذي خدمناه بأمانة وإخلاص سنين طويلة ، وحُرمنا من كثير من أموالنا ومستحقاتنا ، وصادفنا فى القطاع وضعاً جديداً غاية فى الصعوبة والتعقيد ،
و الأهم من هذا وذاك أن فرص العمل كانت معدومة ، لذا ظللت فريسة للمعاناة ، ونهباً للوساوس والأفكار.. وبينما كنت أتجول ذات مرة على غير هدى فى محاولة للهرب من أسئلة زوجتى وأولادى التى لا أجد لها جواباً ، بل والهرب من نفسى ، مدّ أحد المتسولين يده نحوى فى ضراعة يستجدى قليلاً من القروش ...كان حطام إنسان ..طال شعره ولحيته دون انتظام ، وتمزقت ملابسه بشكل يلفت النظر ، والأهم من ذلك أنه يحمل من الذل والألم أكثر مما يستطيعه إنسان واحد...
بالرغم من موقفي الرافض للمتسولين ولمهنتهم التى يجدها البعض أفضل المهن وأسهلها ، فلقد وقفت أمام هذا الشحاذ وأخرجت من جيبي بعض النقود ودفعتها إليه وهو يحيطني بالأدعية ، وعندما نظرت في عينيه آلمني كل هذا الذل وكل هذا الانكسار ، ولكن شيئاً أليفاً ظل ينطق من بقايا ملامحه ، ومن بريق عينيه ..مضيت وأنا أشعر أنني قد رأيت هذا الرجل في حلم ما ، أو في مكان ما ، وربما قام ممثل بارع بمثل هذا الدور في السينما ، وظل في ذهني بعض من هذه الشخصية ...حاولت التخلص من إلحاح شخصية هذا المتسول على ذهني ولم أستطع ، أخذت أطوّف فإذا بي أمام هذا الرجل وجهاً لوجه ، وإذا بي أضع يدي فى جيبي لأعطيه بعض القروش على مهل كى أعطى نفسي فرصة النظر إليه ، وتذكُّر أين رأيت هذا الرجل .....
ووسط هذا اليأس من تذكُّر أىّ شئ ، استدرت لأمضى فى حال سبيلى ، ولكنى استدرت ثانية كالملدوغ وأنا أهتف بصوت خرج كالفحيح :

 عادل سمارة ؟؟؟؟!!!!
أطرق الرجل برأسه وحاول أن ينسحب من المكان ، لكنى أمسكت ذراعه ، وبذلت جهداً خارقاً كى يخرج صوتى الذى حبسته المفاجأة :
 انت عادل سمارة ؟؟!!
دفعنى الرجل بما بقى له من قوة وغلظة قائلاً :
 ماذا تريد منى ؟؟ خذ فلوسك واتركنى لشأنى ....
لويت رأس الرجل وأزحت أذنه ونظرت ..إنه هو ..عادل سمارة ..فالشامة السوداء التى كانت خلف أذنه موجودة ..كانت تنبت له شعرة سوداء قوية فى هذه الشامة فيطلب منى نزعها ، وعندما أقوم بنزعها يؤلمه ذلك فيظل يشتمنى ويدفعنى بكلتا يديه وأنا سعيد أننى قريب إلى هذا الحد من عادل سمارة ومن القصر ..ومن الطبقة العليا ....
إنه هو ..عادل سمارة ......
 أنا عبد الحميد ...
قلت وأنا أتودد إليه وسط حالة الذهول التى اعترتنى ...
 عبد الحميد أبو دان ...
 طز ...
قالها وهو يحاول التخلص منى ، ولكن هذه المفاجأة التى أخرجتنى من" آلامى القومية " لا يمكن أن أتركها بسهولة ، وذلك الاعجاب المفتون بعادل سمارة الذى استمر معى سنين طويلة بدأ يصحو ولكن فى ثوب آخر لم أستطع تسميته حتى الآن ...
كان منظرنا يلفت نظر المارة ، فهو فى حالة تهرب وأنا أتشبث به ، ولكنهم كانوا يمطون شفاههم ويمضون فماذا عسى يرجو " أفندى محترم " مثلى من متسول فقير مثل هذا الرجل .. أخرجت علبة سجائرى وأشعلت سيجارتين واحدة لعادل سمارة والثانية لى ، ناولته السيجارة فأخذ نفساً عميقاً وأسند ظهره ورأسه إلى الحائط ونفث الدخان .. انتابته نوبة من السعال ...قال بصوت ضعيف :
 أرجوك أن تتركنى وشأنى...
 بعد أن نتناول طعام الغداء ..
قلت وأنا أسحبه لأقرب مطعم ، كان يسير بصعوبة ، أشبه بالسكران دون خمر ، قال ونظراته زائغة :
 من أنت ؟؟ وماذا تريد منى ؟؟؟!!
قلت بتودد ونحن نجلس حول إحدى موائد المطعم :
 أنا عبد الحميد ...صديق الطفولة والصبا ..أما ماذا أريد ، فإن لك ولأسرتك أفضالاً كبيرة علىّ ، وكنت فى حيرة من أمرى منذ الطفولة ؛ كيف أسدد بعض هذه الديون ...واعتقد أنه جاء الوقت كى أقوم بشئ ما مقابل أفضالكم السابقة ....
تنهد بألم ، كادت روحه أن تخرج مع أنفاسه ، بدا فى السبعين من العمر وهو لم يتجاوز الأربعين بعد ، كانت الدموع تترقرق فى عينيه ، قال وهو يجاهد لمنع دموعه من السقوط :
منذ خمس سنين لم يذكر أحد هذا الماضى ، أو بالأحرى لم يعترف به أحد ، وكلما تجرأت وتحدثت به أمام أحد ما سخر منى وظننى مخبولاً اختلق الحكايات كى استدر عطفه بها ......
 لكن ما الذى أدى بك إلى هذه الحال بعد ذلك الغنى والجاه ؟؟؟ لقد ترك لك والدك ثروة كبيرة ، وتصورت أنك ستستغلها فى المشاريع التى تعود بالفائدة عليك وعلى المجتمع .....!
 لعن الله هذه الأموال فهى سبب هذه المصائب جميعاً ....
 ولكن كيف ؟؟!
 لقد قتل المال كل حافز لدىّ للتعليم فلم أكمل دراستى ، حتى الثانوية العامة لم أحصل عليها ...فى حين درستم..أنتم الفقراء ...وحصلتم على الشهادات العليا ...أطباء ..مهندسين..صيادلة..مدرسين...وبنيتم أسراً أما أنا فهدمت أسرتى ...
جاء النادل بالطعام وأخذ يغمرنا بنظرات الاستغراب ، وكان فى شك من أمرى إذ ليس من المألوف دعوة متسول إلى مطعم يعتبر فى بلادنا راقياً ...
أكمل عادل سمارة حكايته ، وهو يبتلع الطعام بصعوبة ..
 خرجت من المدرسة ..ومات أبى دون أن يحقق حلم حياته ، وهو أن يرانى طبيباً أو مهندساً أو أى شئ آخر لكن ناجح ..لكننى لم أكن شيئاً ...تجمع حولى رفاق السوء ..وبدأت القصة التقليدية بشرب سيجارة ..كانت هذه السيجارة مفتاحاً لكل الأشياء بعدها ...كانت السجائر فى البداية عادية ..ثم أدخل الرفاق تعديلاً على جلسات "المزاج" كما كنا نسميها ، واحضروا حشيشاً ، وكنت أنا بالطبع الممول لهذه الجلسات ، وتبع ذلك كل الموبقات ، وكان أخطرها لعب القمار ...إذ كنت دائماً أخسر ..حاولت أمى -رحمها الله -أن تبعدنى عن هذه الطريق مئات المرات ..ولكنى كنت أخيّب أملها بخشونة فى كل مرة ، إلى أن ماتت بحسرتها ، أو قل قتلتها أنا ...قتلتها بمجونى واستهتارى وعربدتى ...لقد رهنت القصر عندما قلّت مواردى كى أغطى جلسات" المزاج" ولعب القمار...

وزوّجت أختى الصغيرة لأول متقدم لخطبتها كى لا تطلب نصيبها من الميراث ، وأخذها زوجها ولم أرها بعد ذلك ..لم تحتمل أمى ذلك..ماتت ..
أطرق عادل سمارة قليلاً ..لم أستطع خدش لحظات الصمت القدسية هذه ..بل وامتنعت عن مضغ الطعام وأنا أقدّر لهذا الرجل المهدم كل هذا العذاب ..انتظرته حتى عاد من محراب الصمت المقدس ..
 لو ذهب المال والقصر وبقيت أمى وأختى لهان الأمر ..لكن ذهب كل شئ ..خسرت كل أموالى وخسرت القصر وقتلت أمى وضيّعت أختى ...ولم أجد حتى ثمن الحشيش الذى يساعدنى فى الهروب من مصيبتى ...
لم يستطع أن يكمل ...أخفى وجهه بين يديه وأجهش بالبكاء ...
شعرت كما لو أن عزيزاً علىّ يسقط من الطابق العاشر على الأسفلت فيتهشم أمامى ، وأنا عاجز عن المساعدة ....
ناولته الماء وأنا أحاول التخفيف عنه ، ولكن لم أجد كلمة تناسب هذا الموقف ...شرب جرعة من الماء وقال مواسياً نفسه :

 لعن الله المال هو سبب كل هذه المصائب ....
ولكنى لم أترك له هذه المتعة الوحيدة ، متعة البحث عن شماعة لتعليق الأخطاء عليها ، قلت :
 ولكن هناك الآلاف من الأثرياء ولم يفعلوا بأنفسهم وبأسرهم ما فعلت أنت ، بل على العكس كانوا ناجحين وازدادوا غنىً ، ونفعوا أوطانهم ، فالمشكلة ليست فى المال اذن ، ولكن فى طريقة استخدام هذا المال ...
شعرت أننى أُثقل عليه بكلامى هذا ، وقفت وأنا أتناول يده وخرجنا من المطعم ، قلت له بشكل حاسم :
 من الآن فصاعداً يجب أن تنسى التسول ..وما دام لديك نفس يتردد فى صدرك فيجب أن تبدأمن جديد..
قال بيأس :
 أخشى أنه قد فات الأوان ...
 لا تقل ذلك ...
وأخذت أحدثه عن تجربتنا في الكويت ...وكيف خدمنا هذا البلد بعلمنا وعرقنا وجهدنا ، صحيح أننا كنا نعمل مقابل مرتب ، ولكن أى مال هذا الذى يساوى ذلك الحب الذي قدمنا به عملنا ... وعلينا الآن أن نبدأ من جديد .

لم يعلق عادل سمارة شيئا على قصتى عن تجربة الكويت ، واستمع اليها كما يستمع الى قصة تتكرر كل يوم ، شيعته الى الغرفة المهجورة التى يقطنها ، ووضعت فى جيبه عشرين دينار اً كانت معى ساعتها ، ووعدته أن أعمل المستحيل من أجل أن يبدأ حياة جديدة سليمة .
تركته وذهبت الى بيتى وأنا أفكر فى الوسائل التى استطيع بها مساعدته .. إنه لايتقن أى عمل وتعليمه محدود ... وصحته مهدودة ، لعل خير السبل أن أجد له عملاً بسيطاً سهلاً كى ينال راتباً عنه، وأقوم بمساعدته دون أن يشعر فى بناء بيت جديد ....

آويت إلى فراشى وأنا سعيد بما توصلت إليه من أفكار تجاه عادل سمارة ، ولو أن طعم المفاجأة ظل يلازمنى حتى صباح اليوم التالى ، رويت لزوجتى الحكاية كلها وكانت تعلق على أقوالي ببعض الحكم المحفوظة عن الأيام التى لا تترك أحداً ، وما شابه ، لبست ملابسي على عجل وذهبت إلى حيث غرفة عادل سمارة ، وهناك هالنى تجمع بعض الجيران فى وجوم ، اقتربت منهم وأنا متوجس خيفة ، سألتهم عن الأمر فأشاروا إلى جهة الغرفة ، توجهت إلى الغرفة مسرعاً ، وهناك رأيت عادل سمارة جثة هامدة !!!!!

حملناه إلى المستشفى ففحصه الأطباء وقرروا أن الوفاة نتجت عن تناول جرعة كبيرة من المخدر ....
إذن فلقد استغل المبلغ الذى أعطيته له فى شراء المخدر وابتلاعه ....
للمرة الأخيرة سوء استخدام المال ....

تعاون أهل البر والمعروف على عملية غسله ودفنه ، وعندما أَهَلنا فوقه التراب، وعدنا كلُّ إلى بيته كانت المقارنة التى تشغل ذهني بين بيت عادل سمارة " القصر " كما عرفناه قديماً ، وبين هذا البيت الجديد الذي وضعناه فيه والذي لا يزيد عن نصف متر في مترين .............


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى