الثلاثاء ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٩

ثنائيات إدوارد عويس وقاموسه الشعري

بقلم: نزيه أبو نضال

لو أردت أن ألخص أديبنا إدوارد عويس بكلمة واحدة لقلت "إنه نقطة تلاقي وانصهار ثنائيات لا حد لها، كما يكشف ذلك بوضوح منجزه الأدبي وقاموسه الشعري".. فهو شاعر مبدع وعالم عروض بل هو صاحب نظرية العروض اللوني الموازنة لنظرية العروض الصوتي للخليل بن احمد الفراهيدي، وله إسهامات ومخطوطات في الفلسفة وعلوم اللغة والخط العربي.

وكما غرف إدوارد عويس شعره الجزل من أبحر الخليل ومن فحول الشعر العربي تراه يذوب رقة مع شعر التفعيلة وحداثة اللغة المعاصرة، لنستمع إلى ما يشبه بائية أبي تمام في صرخة امرأة عمورية: "السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب"
يقول شاعرنا:

القُدسُ في حَبسِها المشؤُومِ نازفَـةٌ
تَهفو للُقيا الذُّرى والدَّمـعُ مُنسَكِبُ
مَرْمَى العَصا حَبْسُها والحَشْدُ مُلتَئِمٌ
في قَلبِ يَعْـرُبَ والـتَّاريخُ مُرْتَقِبُ
إِنَّـا نُـريدُ دواءً يُستَـطَبُّ بـهِ
قِوامُهُ الـعَزم والـنِّيرانُ والغَضَبُ

ثم لنستمع إلى حديث شعره:

كسيحةَ أحلامُنا
مطفأةَ مشاعلُ المساء..
لا أسر يحشد الخطى
على طريق المقصلة

من جمّع الحجارة السوداء في حقول القمح..؟!

وادوارد يكتب المسرح الشعري والحواريات الشعرية، كما يكتب الأغنية وقصائد الأطفال، ويحلق في الشعر الشعبي كما في القصيد الفصيح.. وهو يقدم إلى جانب كل ما أبدعه من شعر نوعا من الأناشيد التعليمية التي قرر بعضها في المناهج المدرسية كي تربى الناشئة من خلال معانيها الوطنية الملتزمة وصياغاتها البسيطة المباشرة مثل: نشيد المرشدات الأردنيات "نحن الاردن" والهلال الأحمر ونشيد المدارس الريادية "ريادة العلا" ونشيد مدرسة راهبات الكاثوليك "روضة الزهر".. الخ.. ولا شك أن في توظيف عويس شعره وأناشيده في حقول التربية والتعليم للكبار والصغار جعله يتنازل عن الكثير من الشعرية من أجل سهولة الوصول للناشئة والعامة ولذوي الثقافة البسيطة ونحن نعلم أن الكثير من هذه القصائد منشورة في الكتب المدرسية، وبأن أطفال الأردن يحفظونها ويغنونها.

وعدا ذلك نراه في معظم كتاباته يحلق عاليا إلى جانب الكبار من شعراء الأمة، بل هو يذهب في حوارات معهم، كما مع أبي تمام وشوقي وطوقان وعرار وأبي سلمى، بل هو يحاور الغناء التراثي الشعبي في تنويعات جديدة، كما في أغنية عاليادي وأغنية يا بحرية هيلا هيلا.

عند الحديث عن ثنائيات إدوارد عويس نراه شاعر الذات والعاطفة كما شاعر الهم العام والقضايا الكبرى، بل إن قارئ شعره لا يكاد يستبين أحيانا الحد الفاصل بين الحبيبة والقضية:

مسفوحةٌ أشواقُ "كنعانَ "على مسارحِ المساءْ
مصلوبةٌ ضلوعُهُ
مقلوبةٌ قُلوعُهُ
وعشقُ كنعانيةٍ يبوحُ في مفازةِ النحيبْ
وشوقُ كنعانيةٍ ينوحُ في متاهةِ الغروبْ
مَنْ أطلقَ الرياحَ والشَّرَرْ؟!
مَنْ أيقظَ النُّواحَ والسَّفَرْ؟!
مَنْ أَوْقَدَ النيرانَ في مضاجعِ الشتاءْ؟!!!

وفي ثنائياته نرى إدوارد شاعر الوطن كما شاعر الأمة.. فالأردن في شعره هو الوجه الآخر لفلسطين والعراق ولبنان والشام، ومصر وتونس وفاس وعدن وصنعاء والخليج، وهو حين يتنقل بين أرجاء الوطن العربي لا يتوقف عند الأقطار بل يذهب إل المدن والمناطق والمخيمات والأحياء فنراه، مثل عرار، يغنى لعجلون وقلعة الربض واربد والرمثا وجرش وسوف واشتفينا والبتراء وعمان وضاحية الرشيد والزرقاء ومادبا ومعان والكرك والعقبة والبلقاء والسلط وجلعاد ودابوق، وفي فلسطين يغنى للقدس وباب العمود ونابلس والخليل والحرم الابراهيمي وبيسان والدوايمة وسجن نفحة.. وفي لبنان يغنى لبيروت والأرز ولمخيم صبرا وشاتيلا ولمرج الزهور وعين المريسة، كما يغنى للنيل والأهرام والكرنك وأسوان وسيناء والصعيد والكنانة، وفي العراق ينشد لبغداد والفرات والنخيل.

وادوارد عويس ابن عجلون حين يغني للأمة أو لفلسطين فإنه لا يراها عن بعد بل هي في نسيج جسده والروح فيتوحد المهاجرون بالأنصار:

في القدس في عمان تنطلق الرؤى
فتحيل وجـد عذابـها أزهارا
وعلى ضفاف النهـر شعبَ واحدّ
خبر الصراع مع البلاء وثارا
كعنـاق مكـة والمـدينة مهـدوا
سبل الوصال وخلدوا التذكارا
لا فـرق إن آنستـهُم وخبرتهم
أمهـاجرين رأيت أم أنصارا

وهو يستحضر من التاريخ كنعان والكنعانيات وصرخة عمورية ومجد صلاح الدين وعظمة خوفو وعمرو بن العاص والمعز لتلاقي استغاثات المقدسيات ودماء علي فودة وأحلام عرار وضياع مجد أم الدنيا في زمن كامب ديفيد:

يا أمّـَنا يا مصـر قَـضَّ الَمضْجَعُ
وانهدَّ قلبُكِ والصروحُ تَصـدَّعُ
وأطـلَّ"خوفو"يجتلي عذبَ الرؤى
فإذا الحضارةُ في صعيدكِ تُقْمَعُ
يا أمّنـا يا مصر فاض بنا الأسى
والليلُ داج ٍ والصوابُ مضـيَّعُ
أين الفتى المـغوارُ يزحف بالمنى
ورماحُ يوليو في الضفافِ تَضَوَّعُ
يرفع إدوارد القرآن بيد والإنجيل باليد الأخرى.. يستحضر قايين ودماء هابيل وقميص عثمان وابراهيم ودير ياسين وقبية وفيتنام ليشهدهم على جرائم هولاكو أميركا واسرائيل وصمم العالم.. يغني للانتفاضة فتعانق حجارتُها حجارةً من سجيل.

وكما إدوارد مسكون بهموم الأمة وقضاياها الكبرى تراه مجبولا بالتفاصيل الصغيرة التي تصنع الوطن: الزعتر البري وخبز الأم وقهوة الصباح والفستان والدفتر والورد والريحان والدحنون والنرجس والغار والعنب والتفاح وغابة البطم والبلوط والصنوبر والبستان والفأس والنُّـقْلْ وحقول القمح وخوابي الزيت ومزامير الرعيان ومواويل الحصّاد.

ثم إنه لا يتوقف عند حدود الأمة وتاريخها في عمورية واشبيلية والفتوحات العربية الكبرى بل يأخذنا إلى العالم الإنساني الرحب في إفريقيا لومومبا وثورة الفولغا الروسية وغضبة الأمازون وانتصارات فيتنام.

عند الحديث عن ثنائيات إدوارد عويس سنلحظ في شعره هذا الجدل والحضور البهي لعرار، فقد عدّه نموذجا أعلى في الإبداع وفي الموقف، رغم مفترقات التكوين والشخصية والسلوك، هكذا فعل حين تابع خطى عرار في السلط بعد أن التقى هناك بحسناء قالت له " منذ رحل عرار شاعر الأردن والعيون الجميلة تنتظر من يتغنى بها" فأنشد:

يا لعينين تعتبان على الشعر
فأصلي بالعتب جمرا ونارا
صوّحت دوحةُ القصيد زمانا
في هجير الفلاة تبكي عرارا

فيكون أن يتقدم الوريثُ ليحمل الراية:

سوف أزجي عرائس الشعر سكرى بعيون المها وأطفئ أوارا
ثم نراه يقول في الاحتفال بذكرى ميلاد عرار وكأنه يسجل انتماءه إلى ذات الموقف والرؤية والمدرسة الشعرية:

عرار "ردّ النقـا" شابـت قوافيـنا
واستوطن الوهْن في نجوى ليالينا
مِنْ بَعْدِكَ الشِّعرُ أضحى لا انتماءَ لهُ
يستنطقُ الوهمَ يستجدي أفانيـنا
من بعدك الشعر لا جمـرَ ولا حممَ
وراح ينحـت ألغـازا وتبطيـنا
يا شاعر الشعب هل تهدي لنا رمقا
من نبض شعـرك يشفينا ويهدينا

في إبداع إدوارد الشعري وثنائياته نرى التراث بكل مكوناته التاريخية والدينية ورموزه وشخصياته يتوحد ويتجادل مع مفردات العصر وقضاياه الحية بيسر تام، ذلك أنه يغرف من نبع ثقافي عربي واحد يتدفق متصلا عبر الزمن.

إن شاعرا تنصهر في شعره وتتوحد كلُّ هذه العوالم، ويحتشد بكل هذه التفاصيل والمفردات لا يذهب إلى تهاويم الشعر، وإلى تجريد اللغة، وإلى معاناة الذات المعزولة عن هموم الناس، بل يكون قد وهب شعره لقضايا أمته، ووقف فيها شاهدا وحاديا ومحرضا ومبشرا، كما يليق بالرائد، والرائد لا يكذب أهله، ولهذا نراه يعلن منذ وقت مبكر:

لَمْ تَسْقُطْ بَغْدادُ
وَلَمْ يَفْزَعْ
أَحَدٌ
مِنْ بَطْشِ "هولاكو "..!

وهذا هو دور الشاعر وقدره: أن يحمي روح شعبه من اليأس والهزيمة وأن يحدو عزيمته نحو الآتي.. لقد انتصرت غزة وانتصر لبنان ولم تسقط بغداد! وإن غداً لصانعه قريب.

بقلم: نزيه أبو نضال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى