الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم عاصم أحمد بسيوني حجازي

رسالة ٌمن العالم ِالآخرِ

عاصم أحمد بسيوني حجازي ـ مصر

لنْ تدخلَ الآن يا زوجي العزيزَ....
كان هذا استقبالَ زوجتِي لي ، بعدَ أنْ فرَّقتنا الأيامُ ، وحالتْ بيننَا تبعاتُ السفر ِ!

وما أنْ سمعتُ قولَها حتَّى أظلتْنِي سحائبُ الحيرةِ ، وهطلتْ عليَّ جداولُ الأشجان ِ.

وأخذَتْ نفسي تتعالجُ ذكرياتٍ دَرستْ ، وأحداثاَ مضتْ .
هذه هي زوجتي الَّتي بلغتْ في اللُطفِ والودِّ عنانَ السماءِ ، ومُنْقَطَعَ الهواءِ ، لماذا أصبحت اليومَ جافية ً؟!

أخذْتُ أنظرُ إلي شفتيْها اللامعتينِ ، وأعجبُ .
هذه الشفاهُ الرائعة ُ ، مَا أكثرَ ما سالَ منْها منْ غيث ِِالرِّفق ِعلي أتون ِغضبي ، فحوَّلَ لهبَه ماءً بارداً، وحرارتَه رفقاً وودًا.

ما لهذه الشفاه اليومَ حادة؟!

ثم انْتَبَهتْ نفسي ، وعادَتْ إلي موقعِ ِالحدثِ.
ولمَّا أردتُ أنْ أسْتَدِرَّ منهَا أسْبابَ هذا التَّغيرِ البائنِ ، كانتْ هي قدْ لَحَظَتْ علَي وجهِي علاماتِ الدهشةِ ، وأماراتِ العجبِ.
فبادَرتْنِي هيَ بالحديثِ.
 ولكنْ .....

 هذه المرةُ عادَ الصوتُ مغرِّدًا، والحديثُ رطبًا.
 فسأَلتْ....
 أراكَ دَهِشًا والهًا؟؟
 نعم...
 فخاطبَتْنِي هذه المرة َبِحنانِها المعهودِ، ورِفْقِها الأخَّاذِ.
 لا تدْهشْ ، فإنَّ موعدَ دخولِك معي في هذه الدارِ لمْ يحِنْ بعدُ.
 ومَا كانَ هذا الكلامُ ِليروي ظمأ َحيرتِي ، ودَهشتِي منْ هذا اللقاءِ الفاترِ بعدَ هذهِ الغيبةِ الطويلةِ.
 فعدتُ مستفسرًا حائرًا.....
 ولماذا لم يحنْ وقتُ دخولي بعدُ؟
 تبسَّمَتْ لي ابتسامة ًكُنْتُ أنتظرُها منذُ حَلَلتُ أمامَ بابِها،
ثمَّ قالتْ:

تعلمُ يا زوجيَ العزيزَ أنَّ داري هذه دارُ مُقاَمٍ وراحةٍ ، لا تَعَبَ فيها ولا نصبَ، و ما ِزلْتَ فِي سفرٍ ، وما زالتْ رسالتُكَ قائمة،ً وأرى أنَّ سفرَك لمْ ينتَهِ بعدُ.
 أبِي.... أبِي....
 ماذا؟!

قُمْ فقَدْ جاءَ رجالُ العائلة،ِ يُريدونَ أَنْ يَطْمَئِنُّوا عليكَ.
قُمتُ أرتدِي ملابسي متهيئاً لهذا اللقاءِ العائليِّ المرتقبِ.
و كنتُ أجريتُ عملية ًجراحية ًخطيرة ًقلَّمَا ينجُو مِنْ مثَالبِها رجل،ٌ ولكنَّ الله َأراد َأنْ يكونَ لي في هذه الدنيا جديدُ عهدٍ.
ولكن...

ما زالتْ سحابة ُالحيرة ِتحجبُ عن عقلي شمسَ أيِّ فكر ٍإلا في هذا اللقاءِ العجيبِ.

لكن لابُدَّ أوَّلا منَ الانتهاءِ من هذا اللقاءِ العائليِّ.
وبالرغم ِمن وقوفِي علي قدميَّ، فما زلتُ أشعرُ بالنصبِ ،وأعاني اللغوبَ.
خرجتُُُ أرفعُ قدمًا، وأضعُ أُخري ،ومع كلِّ رفعٍ ووضع ٍأعاني ألامِ الرُقادِ.
وما أنْ خرجتُ علي أقارِبي حتى تهلَّلتْ وجوهُهُم، وزيَّنَتْ شفاهَهُم بسماتُ الترحاب،ِ والحفاوةِ.

قامَ منهمْ رجُلان ِأخَذَا بيديَّ ، وأوصَلانِي إلي أقربِ مقعدٍ، وما تركُونِي حتى
أجْلَسُونِي.

أَخَذْتُ أُقلِّبُ النَّظَرَ في وجوهِهِم ، وأنا متعجبٌ !
لماذا أرَي أقرِبائي هؤلاء كالأشباح ِ،أو كأنِّي أسيرُ في طريقٍ زراعي ٍحَجَبتْ الرؤيةَ َ فيه شبُّورةٌ مائيةٌ كثيفةٌ !

وجدتُ نفسِي تسخرُ منِّي قائلة:ً
أيُّها الرجلُ أنَسيتَ نظَّارتَك الطبية َ ؟!
فازددتُ منْ نفسِي سخريةً ،وأرسَلْتُ فِي طلَبِ نظَّارَتِي، وأنا أتَعَجَّبُ منْ ضعفِ هذا الإنسان ِالَّذي لا يري بوضوحٍ إلا بمساعدة ِ قطعتين ِمن الزجاجِ !
وبعدَ أن انجلتْ هذه الشبورةُ البصريةُ ،أخذتُ أبادلُ أقاربي أطرافَ الحديثِ.
وأخذ َشَريط ُالذكرياتِ يمرُّ على خاطري، فإنَّ أغلب َهؤلاء لمْ أرهُم منذ زمنٍ بعيدٍ .

تذكرتُ قولَ أبي إنَّ عائلتَنا لا تجتمعُ إلا في المناسبات سعيدةً كانت ،أو حزينةً ، أمَّا في غيرِ ذلك ،فكلٌّ تشغلُه حياتُه!
ولعلَّ هذا هو حالُ جلِّ أهلِ دهرِنا .

ثمَّ دارَ الِّلقاءُ الروتينيُّ المعهودُ بينَ مريضٍ وعوَّادِه...

همْ يكيلونَ فيَّ مدحاً، ويحمدُونَ ،ويباركونَ نجاتِي منْ هذه العمليةِْ الخطيرةِ ،وأنا أنظرُ إليهِم نظرَ السقيمِ إلى وجوهِ العُوَّد،ِ وأشكرُهُم على هذه الكلماتِ الرقيقةِ .

لكنِّي وإنْ كنتُ معهم بقالَبي، فقلبي يشغلُهُ شيءٌ آخرٌ .
فمازلتُ ساهدًا محتارًا،
وما زالَ ذاكََ اللقاءُ يملكُ عليَّ عقلي ،ويلقِي عليَّ بظلالِه.
انتهتْ زيارةُ العائلةِ ،وودَّعتُهم علي أملِ لقاءٍ جديدٍ .

أَلقَيتُ جسدي المعلولَ علي أريكتي المفضلةِ ،شاردَ الذهن،ِ مبلبلَ الخاطرِ.
أخذتُ أحادثُ نفسي في شأن ِهذه الرؤيا .
ما لهذه الرؤيا مالكة ٌعليَّ قلبي ،مسيطرة ٌ على خاطري ؟!
وهناك شيءٌ آخرٌ ...
منذ ُمتَي وأنا أشغلُ نفسي بالرؤى ،والمناماتِ؟!
لقد كنتُ فيما مضَي، لا أكادُ ألملِمُ أحداثَ رؤيا حتَّى أجمعَ ما بقيَ في ذهنِي من أعضائِهَا لأصلَ في النهايةِ لجثةٍ مشوهةٍ من الأحداثِ لا افهمُ منها شيئاً. !

لماذا هذه الرؤيا بالذاتِ أتذكرُها بكلِّ تفاصيلِها؟!
قطعَ هذه كلَّه صوتٌ يغرِّدُ من قريبٍ.

هل هناك ما يسوءُ يا أبِي؟

إنها ابنتي الحبيبة ُ،تسألُني من أمامِ غرفتِهَا ،وقدْ رأتْ أباها مطرقَ الرأس،ِ مشغولَ البالِ.

أقبلتْ عليَّ، لا تخطيءُ مِشْيتُها مِشْيَةَ أمِّها ،بسَمْتِها الحسنِ البهيجِ الذي يؤنسُ أبصارَ المبصِرين،َ ويفتحُ أفئدةَ المتألمينَ.

أخذتُ أقُصُّ علَيْها ما رأيتُ...

لقدْ رأيتُ أمَّكِ الليلةَ !َ

وما أنْ سمِعتْ قرة ُعينِي ذكرَ أمِّهَا حتى تمَخَّضَتْ عيناها الماسيَّتان عن لآلئَ من دمع ٍهادرٍ.
لعلَّهُ دمعُ السرورِ من ذكرِ سيرةِ أمِّها الحبيبةِ،
أو لعلهُ دمعُ الحزنِ من فراقِها.
ثمَّ سألَتْني بصوتٍ اختلطَ فيهِ تغريدُ العصفورِ بحشرجةِ البكاءِ :
ماذا دارَ بينَكُما؟

فقصَصْتُ علَيها ما رأيتُ.
أضاءَتْ وجهَ بنيَّتِي الحنونِ أنوارُ ابتساماتِ الغِبطةِ، وزيَّنَتْهُ تجِليَّاتُ السرورِ.
فلما رأيْتُ هذا التغيُّرَ البائن،َ سألْتُها عن سرِّ هذا السرورِ !
ردَّتْ بصوتِها الرَّفُوقِ:

أبشِرْ فإنها رسالة ٌٍ من العالمِ الآخرِ.

انتفَضَتْ نفسِي لمَّا سمِعَتْ هذا المعني الغريبِ لذاك اللقاءِ المحيِّر،ِ فجَمَعَتْ شتاتهَا ،ولمْلَمَتْ أعضاءَها، وكنتُ متَّكئاَ فجلستُ!
ما معني رسالةٍ من العالمِ الآخرِ؟

يا أبي العزيزُ ،ألا تعلمُ أنَّ أمِّي قدْ فارقتْ الحياة َ ؟
فرددتُّ مستغرِبًا: بلي!

وأنت أجْرَيْتَ عملية ًخطيرة ًكنتَ علَي إثرِهاـ لا قدَّر الله ُـ علي حافةِ الهلاكِ ؟

قلتُ ،وقدْ زادَ الأمرُ غرابة:ً بلي!
وما كادَتْ تفتحُ شفتَيْها مُسترسِلة ًفي حديثِها، حتَّى دقَّ رؤوسَنا جرسُ البابِ المزعجِ.

استأذَنَتْ بُنيَّتِي لتنظُرَ من الطارقُ.
أذِنْتُ لها ،وأنا منتظرٌ رجوعَها بفارغِ الصبرِ لتفتحَ لي مغاليقَ هذه الرسالةِ العجيبةِ.
وفجأة.ً..
جاءتْ ابنتي شاحبة َالوجهِ ،مرتعشةَ الأيدي، تخبرُ هيئتُها الجزعة ُعن مشكلةٍ كبيرةٍ عكَّرَ‍تْ صفوَ يومِنا.
ماذا جرَي يا بنيَّتي...
فردَّتْ بصوتٍ مرتعشٍ: هناك رجلُ شرطةٍ يُريدُ مقابلتَكَ.
كان من الطبيعيِّ أن تتغيرَ حالُ ابنتِي إذاً ، فمَا رأيْنَا رجالَ الشرطةِ في حياتِنا ، وما عاملنَاهُم .
هيَّأْتُ نفسِي وذهبْتُ أنظرُ في الأمرِ ، وأكشفُ غموضَه.
فإذا بِي برجلِ شرطةٍ رتبتُهُ ليستْ بالكبيرةِ ، بالرغم ِمن كبرِ سنِّه ، وبياضِ شاربِه.

دعوتُه للدخولِ ، والجلوسِ معِي في غرفةِ الاستقبالِ ، وأمرتُ ابنتِي أنْ تعِدَّ لنا بعضًا من الشاي.

سعِدَ الرجلُ كثيرًا بهذِه الحفاوةِ الَّتي لم يعهدْها من قبلُ ، وأخذ َيُخاطبُني في أدبٍ جمٍّ ، خالعًا عليَّ ألقاباً كبيرةً وإنْ كانتْ منْ تراثِ الزمانِ.
ولمْ اسألْه عن شيءٍ حتَّى جاءَتْ ابنتي بالشايِ ، أخذ َيَرْتَشِفُ منْهُ بصوتٍ عالٍ ، وقدْ نقعَ فيه شاربَهُ الغليظَ حتَّى تلونَ بلونِه.
فلما فرغ َ سألَتهُ :

ما سببُ هذه الزيارةِ العزيزةِ؟
فما أجابَنِي حتَّى خلعَ عليَّ ألقابَه القديمة َثمَّ قالَ:
إنَّ جارَك الأقربَ قدَّمَ فيك بلاغًا يشتكيكَ.
فتعجَّبْتُ فمَا أسأتُ لجارِي هذا من قبلُ ، فسألتُه:
 وممَّ يشتكِي جارِي؟!
 ردَّ عليَّ بصوتِه الجهوريِ: يشتكِي ابنَك.
 فرَكَبَتْنِي غرابة ٌشديدة ٌ!
 فماذا يفعلُ ناعمُ الأظافرِ في رجلٍ ضخمٍ ؟‍!
 فسألتُ : ماذا فعلَ؟!
 ضربَ ابنَ جارِك وأصابَه.
 أمسكتُ لسانِي عن التعبيرِ عمَّا يجيشُ في صدرِي ، وأجَّلتُه حتَّى رحيلِ - رجلِ الشرطةِ .
 شكرتُ رجلَ الشرطةِ هذا ، وودَّعتُه متمنياً لقاءَهُ في قسمِ الشرطةِ لأرَي ما هي الإجراءاتُ اللازمةُ في مثلِ هذا الموقفِ.
ألقيتُ جسديِ المنهكَ على أريكتِي المفضلةِ ، وأخَذَتْ الخواطرُ تتعاقبُ على ذهنِي الساهدِ.

أخَذْتُ أفكرُ في هذا الجارِ التافهِ الَّذي لمْ يراعِي ما بي من المرضِ .
وتعجبتُ من إثارةِ المشكلاتِ ، وتضخيمِها لأتفهِ الأسبابِ.
ولمْ أفكرْ لحظة ًفي استدعاءِ ولدِي الصغيرِ لمعاقبتِه ، أو حتى سؤالِه عمَّا حدثَ ، فإنْ كانَ من مستحقٍّ للعقابِ فإنهُ هذا الجارُ الجاحدُ.
وتركتُ ما أنا فيهِ منَ الأسى لِما آلتْ إليهِ حقوقُ الجوارِ ،
ٍٍٍ وعادتْ الخاطرة ُالأكثرُ إلحاحًا لتفرضَ نفسَها على عقلِي مرة أخرَى.
إنها تلك الرسالة ُمن العالمِ الآخرِ!
قطعَ خاطري صوتٌ مزعجٌ آخرٌ ينادي عليَّ أنْ تعالَ فأجبَ.
إنَّهُ صوتُ الهاتفِ...

مدَدْتُ يدي الكالة َالمرتعشة َإلى سماعةِ الهاتفِ ، أنظرُ من الطالبِ ، فبادرَنِي صوتٌ غليظٌ:
 السلامُ عليكُم...
 ولمْ يكنْ هذا الصوتُ غريبا عليّ.َأجبتُ :
 وعليكم السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه...
 ردَّ عليَّ بحدةٍ:
إيَّاكَ أنْ تكونَ لمْ تعرفْنِي.
 دقَّقتُ النظرَ سريعاً ، ثمَّ أدركتُ...
إنَّهُ صوتُ رئيسي في العملِ!
 تدَارَكْتُ الموقفَ سريعاَ قبلَ أنْ يغضبَ.
... وهل يخفَي القمرُ.

إنكَ لا تعلمُ مدي سعادتِي بسماعِ صوتِك الرفوقِ الَّذي حَرَمَنِي منهُ المرضُ ، والقعودُ.

ولكنِّي أشمُّ رائحةَ َ توبيخ ،ٍ وعتابٍ لأنهُ هوَ الشيءُ الوحيدُ الذي كانَ يحمِلُهُ على الاتصَالِ بمرءُوسيهِ في بيوتِهم.
إنَّها شهوة ُممارسةِ السلطةِ ، ولو كانتْ منْ خلالِ الهاتفِ!
فحادَثنِي مرَّة ًأخرَى بصوتِه الغليظِ :
أوَّلا : أحمدُ اللهَ على سلامتِك.
شكرتُه ، وما زالتْ الريبةُ تتملكُني من هذا الرفقِ الذي لم أرهُ من قبلُ .
عادَ صوتُه محادثاً مرةً أخرى ، لكنهُ هذه المرةَ كان على
ما عهدتُه من الحدةِ :

كيفَ بكَ يا رجلُ تتغيبُ عنِ العملِ دونَ أنْ تأتيَ إلى رئيسِك ، فتأخذَ ِمنه الإذنَ بالسماحِ بعطلةٍِ ، ألا تعلمُ أنَّ هذا يستوجبُ العقوبة.َ
لقدْ كانَ من الجديرِ بي أنْ ألقيَ بكَ في أتونِ المساءلةِ ،ِ ولكنِّي راعيتُ مرضَك.

فأخَذْتُ أكيلُ له مدحا ، وثناءً ، وأشكرهُ علي هذه المراعاةِ لحالي ومرضي .
وودَّعتُه ، وأنا أمضغُ العلقمَ ، وألعقُ الصبرَ جَراء َ هذا التسلطِ و البرود.
ألقيْتُ رأسِي علي حافةِ أريكتِي ، وأنا أعاني كلَّ هذه الشجونِ.
وقبلَ أنْ استدعيَ ابنتِي لأطلبَ منها إكمالَ ما بدأناهُ من فكِّ شفرةِ تلك الرسالةِ من العالمِ الآخرِ ، بادرنِي صوتُها طالباً.
ولكنَّه هذه المرة َ ، تفوحُ منه رائحة ُ الغضبِ...
أدركنِي يا أبى...

فقمتُ أعانِي آلامَ كلِّ عضوٍ أحركُه لأنظرَ ماذا جري.
وقبلَ أنْ أسألَ بنيَّتِي عمَّا حدثَ ، بادرَتنِي هي بالشكوى...
إني أريدُ مشاهدة َالمسلسلِ ، وأخي يصرُّ علي مشاهدةِ مباراةِ كرةِ القدمِ.

وابنتي الحبيبة ُ، وإنْ كانتْ ريحانةَ قلبي إلا أنَّها لا تقوى على حلِّ مشاكلِ البيتِ ، وإنْ كانتْ بسيطةً ، فضلاً على كونِها سبباَ لبعضِها .
وكأنَّه قُدِّرَ عليَّ حلُّ جميعِ المعضِلاتِ داخلَ البيتِ ، أو خارجَه .
يا لهَا من حياةٍ صعبةٍ ، ودنيا ذاتِ شقاءِ .

ثمَّ ارتفعتْ أصواتُهما ، واختلطتْ في صخبٍ وإزعاجٍ ، كلٌّ منهما يتلو حججَه الواهيةِ.
فقرَّرْتُ الخروجَ منْ هذا الموقفِ بمشاهدةِ النشرةِ الإخباريةِ.
ويا ليتنِي ما قرَّرْتُ...
جلسْتُ ، ومسَحْتُ نظارَتِي ذاتَ العدساتِ الغليظةِ ، وتأهَّبْتُ لتناولِ وجبةً دسمةً من الأخبارِ ،
فأُصبْتُ بحالةِ تسممٍ نفسيٍ شديدةٍ.
تجرَّعْتُ سمَّ الانحيازِ ، وصبرَ الكيلِ بمكيالينِ ، وعلقمَ الاتهاماتِ الزائفةِ ، والردودِ الواهيةِ.

أغلقتُ التلفازَ ، وأنا غاضبٌ آسفٌ لما آلَ إليهِ حالُ الأمةِ .
وهكذا اتصلتْ همومِي الشخصيةِ بهمومِ الأمةِ ، وزادتْ الشجونُ على خاطري الحزينِ .
ثمَّ دخلْتُ غرفتِي ، وأغلقتُ البابَ بحِدَّةٍ وعصبيةٍ ، ألقَيْتُ جسديَ المنهكَ علي مضجعِي الكلاسيكيِّ الطرازِ ، وأخذْتُ أسْتَعْرِضُ شريطَ الأحداثِ في هذا اليومِ العصيبِ...

أخرَجْتُ نفساً عميقاً يحمِلُ في طياته كلَّ معاني الألمِ والحزنِ. أخَذْتُ أرثِي حياتِي ، وأهجُو أهلَ زمانِي.
ما هذا الجوُّ الملغمُ بغيومِ المشاكلِ ، الملبَّدِ بأسبابِ النَّصَبِ والتعبِ.
أهكذا الحياةُ ألمٌ ، وتعبٌ ،ونصبٌ ؟

وهلْ هَذا هُوَ مَا صارتْ عليهِ طبائعُ الناسِ وآلتْ إليهِ خلائقُ البشرِ؟!
وهلْ إلى هذا الحدِّ وصلَ حالُنا جميعاً من الذِلَّةِ والهوان؟ِ!
ثمَّ أطلَّ عليَّ سؤالٌ برأسِهِ...

أمَا كانَ مِن الأفضلِ أنْ تنتهيَ حياتِي في غرفةِ العملياتِ ، ولا أعودُ مرةً أخرَى إلى هذِه الدُّنيَا ، وأولئك البشرِ؟ !
أخذتُ نفساً عميقاً ، وأطرقتُ برهةً ، وقلتُ...
لعلِّي الآن فهمتُ معني رسالةِ زوجتِي من العالمِ الآخرِ...!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى