الخميس ١٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم هاشم عبود الموسوي

مغالطات في فهم وظيفة اللغة

تأخذ اللغة لدى معظم الشعوب سمة الرمز الجمعي عند النظر إليها ككامن عقائدي ميّز شعباً ما عن سواه، أو أفرد لشعبٍ ما استحقاقاً يخصّ به فترعاه الآلهة وتُباركه، بينما تترك غيرهم من الأقوام يكدحون لينالوا أهليتهم بالعبودية بفعل منجز إنساني، بل أنَّ بعضهم لُعنوا ولا سبيل أمامهم لنيل رضى الآلهة مهما بلغ منجزهم من إعجاز، في التوراة قامت الآلهة بالدفاع عن نفسها بأن شتّتت البشر وبلبلت ألسنتهم كي تستطيع أن تُهيمن عليهم إلى الأبد، بعد أن أصبح في إمكانهم أن يتكلّموا لساناً واحداً.

فالإنسان المُقيّد إلى الأرض في علاقته بالسماء، وإلى لغته في علاقته بالآخر، يستطيع مضاهاة الآلهة بهذين الشرطين، الارتفاع بمعنى المعرفة، لأنه يجعل الإنسان يطأ سكن الآلهة ويطلّع على معاشها ويكشف أسرارها ووحدة اللغة تعني أن البشر جميعاً أصبحوا "واحداً" له القدرة على الخلق، لأن اللغة الواحدة هي التي تجمع الآلهة على اختلافها وخلافها، وتعطيها قدرة أن تخلق. والخلق بالكلمة صورة متكررة في النصوص المُقدّسة، اليهودية والمسيحية والإسلامية، كما أنَّ عهد الإله مع البشر، هو عهد لغوي، وهو يُشكّل أيضاً جزءاً من المشترك الميثولوجي للشرق الأدنى، ضمن مشتركات ميثية أخرى لعلّ أبرزها الخلق من فخار (صلصال)، أي من لوح الكتابة، بتحويل الكلمات (الروح) إلى أشياء (جسد)، فالصلصال أمام يد الإله هو جسد الإنسان، وأمام يد الإنسان هو جسد الكتابة.
وفكرة الخلق من صلصال، كما هي فكرة عهد الآلهة، أعتقد يعود، ضمن معتقدات عديدة أخرى تتمحور حول اللغة والكتابة، إلى السومريين.

لقد كانت الكتابة في معتقدات الشرق القديم هي استظهار المُقدّس، وكان الكاتب ناطقاً بلسان الآلهة. كان آشور بانيبال يفتخر أن الآلهة وهبته "علم الكتابة"، ولكنّه كان أيضاً يتمنّى الأكثر: أن يقرأ "ألواح ما قبل الطوفان" التي لم يستطع فك رموزها، لأنه لم يكن مهيأ لمعرفة سر التكوين، الذي يعني أيضاً سرّ الخلود، وهو امتياز وُهب لأوتنابشتيم وحده، وعجز حفيده غلغامش عن بلوغه ليعيش بقية عمره مقيداً بشرط الموت كإنسانٍ فانٍ. أما مع اليونانيين فإن الكتابة ستتحول إلى فعلٍ مُدنّس، سيُصبح الكاتب عبداً، وفعل الكتابة تحقير لا يليق بسادة العقيدة، ونستطيع بدءاً من أفلاطون أن نتحدّث عن (الكتابة المُدنّسة)، كما يقول جاك دريدا، ربما مع الفينيقيين في البحر المتوسط ستُصبح الكتابة فعلاً إنسانياً، وشرط معرفة، وتكتسب بعداً حسياً جديداً.

إنَّ هذه المظاهر المتعددة، المتباينة، للغة والكتابة تؤشر على ضرورة تأويل قِدم تآثر وتواتر الألسن، باستظهار آلية هجراتها وتنقلاتها. مثلما هو الأمر بالنسبة لإعادة بناء تصوّر نظري عام لانتشار وتآثر اللغات تاريخاً.

يُمكننا أن نلجأ بمنهج استرجاعي إلى إعادة تصور ما يُمكن تسميته "وضعاً لغوياً" لمنطقة الشرق الأدنى الذي يشمل شمال الجزيرة وجنوبها، وشمال أفريقيا وشرقها، مع ما يُمكن أن يرفده من شواهد أنثروبولوجية وبيئية، وتُتيح لنا الصلة بالسومرية (كما يعرضها هذا الكتاب) إعادة التفكير على أساس الانتشار المتحوّل، دون أن يعني ذلك الوقوع في الإطلاق والتعميم، فالإطلاق والتعميم لا يقودان سوى إلى بعث معتقدات جديدة.

(2)

يعتقد كلّ شعبٍ أنَّ لغته تتميز عن لغات غيره من الشعوب، بكمالها، أو بقدسيتها، أو باستطاعتها استيعاب نصوص وآداب أكثر براعة، كما يعتقد أن غيره من الشعوب يظلّ أقل قدرةً منه على امتلاك ناصية التعبير بالكلمات عن المعنوي واللامرئي والغائب.

والنظر إلى اللغة الأم ولغة الآخر على هذا النحو، هو جزء من قناعة وهمية تتمركز حول الذات، وتشي بتوضيع الآخر ، سالبة منه قدرته على الإسهام في تفعيل قدرته على التطور والارتقاء، فالآخرون في مثل هذا الخطاب، القائم على نزع الاعتراف، تعوزهم على الدوام خصائص الاكتمال، وهم يتدرّجون من مرتبة أدنى تُنزع عنهم فيها صفتهم البشرية، إلى مراتب أقل منزلة تصفهم بالتخلف أو الجهل. ومبدأ هذا الخطاب ما زال يواصل فعله إلى يوم الناس هذا، إلا أنه قديمٌ قدم البشر لاختلاف ألسنتهم، ويمكننا التفكير في الكثير من الشواهد التي أنتجتها الحضارات كافة، إلا أنني أحيلكم إلى بليني الأكبر الذي نقل عن هيرودوت أغرب ما يُمكن أن يقرأه المرء في تاريخ معرفة الآخر، وأضاف إليه الأكثر غرابةً وإتحافاً.

يقول بليني أن قبائل من سكان الأطلس لا لسان لها، وأنها "تهمهم" و"تومي" كي تتمكن من التواصل، هناك بالطبع صور أخرى (مثل أن قبائل أخرى) لا ترى أحلاماً في منامها)، ولكن هذا الاقتباس يفي بالغرض.
ومن أقدم الأمثلة على مبدأ سلب الاعتراف بالآخر، أن قدماء المصريين ميّزوا أنفسهم باعتبارهم هم "الناس"، في مقابل الليبيين أو الآسيويين أو الأفارقة، فكلمة "أناس" كانت تعني المصريين وحدهم متى وردت، لا غيرهم. نحن "البشر" الذين لا يعوزهم شيءٌ من الإنسانية، أم الآخرون فلا. كما أن كلمة "الأرض" لم تكن لتعني سوى أرض مصر نفسها

هكذا أطلق الإغريق كلمة barbaros على غيرهم من الشعوب التي لم يتصلوا بها لغوياً، وهي كلمة كانت تدلّ، قبل أن يجري وقفها على هذا المعنى، على العي وعدم استطاعة الكلام بطلاقة، المعنى الذي نكتشفه من مقارنة هذا اللفظ باللفظ اللاتيني الذي يدلّ على من يتمتم في الكلام، وكمثال حديث فإن الروس وصفوا الألمان بأنهم أصحاب الألسنة المفقودة أو البُكم.

لكن الأوصاف المصرية والإغريقية واللاتينية للغات الأغراب، لم تكن في الغالب تشمل أولئك الذين يُهاجرون ليتوطّنوا في مصر أو أثينا أو روما، والشعور السائد لم يكن نوعاً من "الأكزنوفوبيا" أو الريبة من الآخر، بل مسألة جغرافيا وعرف وعادة، فالذين "يسكنون مصر، دون تفريق في الأصل أو اللون، ويتعلّمون اللغة المصرية، ويتزيّنون بالملابس المحلية، يُقبلون كجزء من "الناس" أيضاً، بل قد يبغون مرتبة الملك – الإله، الذي يمتلك الشعب بأسره.

كلمة "بربر"، إذن، لم يخترها الأمازيغيون لنفسهم، وهي في ذلك مثل كلمة سومر، التي أعتقد أن المصريين القدماء قد أطلقوها عليهم، بمعنى الحلفاء، من su أي الناس، البشر وmer أي الأصدقاء، وأرى أن بحث الأركيولوجيين (علماء البيئة) عن هذه المدينة في العراق سينتهي بلا طائل، لأن سومر ليست سوى صفة لسكان المدن القديمة مثل أور وأوروك وشروباك وغيرها، دون أن يعني ذلك مكاناً بعينه. وكمثال اسم سومر، فإن اسم مصر، ليس سوى اللفظ الذي اختاره السومريون ليصفوا به حلفائهم، وهو من لفظ mu-sar-ra الدال على النقوش الملكية الفرعونية.

لكننا بالاستفاضة في تأمل هذه الكلمة، يُمكننا مقاربة مظهر من مظاهر التواصل اللغوي، وما أود الإشارة إليه هنا هو العلاقة بين بربر وبابل bab-el (أو: باب إل).

فالإبدال بين صوتي الراء واللام ظاهرة تسود المتوسط وجواره وما هو أبعد، فكأنما اللسان (بإطلاقه) قابل دائماً لإبدال الصوتين أحدهما بالآخر، بما يتوفّر له من تهيؤ اجتماعي وثقافي، وفي ذلك أمثلة عديدة لا تُعدّ ولا تُحصى، فـBarber و Babel إذن هما هما. وللعرب في تأكيد هذه التسمية دورٌ لابد، لقد جعلوا بابل من بلبل، قيل بلبل الله ألسنتهم، أي أنشأ فيها الرطانة فلم يعد أحدٌ يفهم أحداً، وذلك هو أصل التسمية "بربر"، ارتحل إلى اليونانية أما العرب فإنهم جعلوا من الشعوب المُحيطة بهم أصحاب رطانات غير مفهومة، فوصفوا الروم بالعجم، وهي كلمة تشترك في نفس الجذر مع الأعاجم، أي الحيوانات البكماء. وأنزلوا لغتهم منزلةً مُقدّسة، فجعلوا لها أصلاً إلهياً، بها كلّم الله أول خلقه، وبها سيُتكلّم يوم القيامة، ولهم في وصفها وتبجيلها، ببيان تميّزها، مُصنّفاتٌ كثيرة. كما جعلوا منها أصل اللغات، وهو ما يشتركون فيه مع الطورانيين، واليهود، وغيرهم من الشعوب التي رأت في لغاتها أصولاً تفرّعت عنها لغات الأرض. وهو توجّه عقائدي رفده البحث العلمي بالركون إلى أصل افتراضي كلما جيء إلى بحث التآثر اللغوي، كما في مثالي: الهندوأوروبية الأم، والسامية الأم.. فالقرابة بين اللغات أدت على الدوام إلى فرضية الأصل الغائب الذي حاول الجميع اكتشافه في لغتهم، وترجيح أمثلته وشواهده بالاعتماد على ثلاثة افتراضات ضمنية: الأول هو الأسبقية الزمنية، أي افتراض وجود لغة مكتملة النمو مؤهلة لأن تُضفي تأثيرها على غيرها من اللغات، والثاني هو افتراض نسق أحادي الاتجاه يسمح بالتأثر أو التأثير بين اللغات، لا التأثر المشترك. والثالث: هو قصر العلاقة بين اللغات على المستويين المعجمي والصرفي، أي ضمن حدود اللغوي فقط، دون التركيز على دور المعطيات الأنثروبولوجية والمعتقدية والتاريخية في هذه العلاقة.

لقد اعتبر الرومان خطأ أن اللاتينية متحدّرة من اليونانية القديمة، وفي أواخر القرن الثامن عشر عمّد القاضي البريطاني في الهند وليام جونز إلى مقارنة قائمته الخاصة من المفردات العربية والعبرية والسنسكريتية والأفستية (الفارسية القديمة) واليونانية الكلاسيكية واللاتينية والقوطية (لغة القبائل الجرمانية التي نهبت روما)، والأيرلندية القديمة، والتركية. ليكتشف أنّه باستثناء العربية والعبرية الشقيقتان، والتركية، فإن جميع اللغات الأخرى كانت ذات قرابة منظورة. وتمّ اعتبار اليونانية واللاتينية متحدرتين من الهندوأوروبية التي تحوّلت إلى تقليد علمي دارج الغرض منه تتبّع القرابات اللغوية بين اللغات الأوروبية والسنسكريتية.. وقد أثار اكتشاف هذه اللغة الافتراضية (الهندو – أوروبية) في القرن التاسع عشر هوساً عاماً بدراسة اللغات، وطلعت سيول من المقارنات المعجمية بين مفردات مختلف اللغات، وصيّر إلى البحث عن معجم موحّد للهندوأوروبية الأم وهو معجم لا يُمكن الجزم به أو الأخذ بمفرداته إلا لأغراض تعليمية أو تمهيدية، إذ فيه من التصورات والافتراضات الخيالية أكثر مما فيه من العلم، أو هو، بعبارة أبي اسحق الشاطبي، من مُلح العلم وطرائفه، وليس من صلبه ولبابه، كما أنّه يستند إلى تراثٍ قديم في البحث عن اللسان الأول للإنسانية، وهو بحثٌ انتشر في القرون الوسطى وعمل به كثر من اللغويين، فمنهم من عمل على إثبات أن العبرية هي أم لغات العالم، وخاصة اللغات المنتشرة في أوروبا، على اختلافها، ولكن ترجيح الأصل الهندوأوروبي لهذه اللغات جعل هذا السعي لا معنى له، فبحث اللغويين عن اللسان الأول، عبرانياً كان، أو طورانياً، أو عربياً (وهي تجارب شاعت وكان لها دعاتها والعاملين عليها) ليس سوى ضرب من الخيال ولا يختلف عن بحث الأركيولوجيين عن سفينة نوح.

إنَّ اللغة واقعة اجتماعية، ولكونها خاضعة لعوامل خارجة عن اللسان، فهي متغيرة متحوّلة بتأثرها بالمحيط الاجتماعي التاريخي الذي يعيها ويحتويها (من وعاء)، وافتراض ثباتها وأزليتها وأبديتها، هو نوعٌ من افتراض معتقدي يُقدّس اللغة ويؤمثل عملها، فيزيحها عن شرطها الإنساني ليحوّلها إلى كيانٍ مستقل منيع لا يؤثر ولا يتأثر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى