الأربعاء ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم وليد رباح

مذاق مختلف في النص الإبداعي العراقي

لست ناقدا ولا اريد.. ولا اقلل من قيمة النقد عندما أكتب.. فهو ضرورة لدفع مسيرة الإبداع.. واكتشاف الثغرات في النصوص.. ودفع مسيرة المبدع نحو الوجهة الصحيحة..ولا استطيع الحكم على النص الإبداعي سواء كان شعرا أو قصة أو مقطوعة أدبية.. مقالة أو كلمة أو حتى رواية.. ولكني متذوق للكلمة تسرى في دمي قبل عقلي عندما تعجبني.. فترتعش اطرافي ولا املك نفسي أو عيني من أن تدمعا عندما اشتم رائحة الإبداع في النص أيا كانت صفته.. وايا وجدت ارضه.. متى واين وكيف ولد،

واني لاعرف الكلمة التي تعشش في كياني منذ قراءتي للسطور الأولى من النصوص.. فأواصل أو اعزف.. أستمر في قراءتي أو اتوقف.. فان كانت مواصلة شعرت بانني أطير في الهواء دون جناحين.. أختزل الزمن واسابق الوقت كيما انتهي من القراءة.. اعلو تارة وانخفض اخرى سابحا في ملكوت من الرفعة والخرافة معا.. فإذا ما انتهيت اعيد القراءة فاجد في النص ما لم اجده في قراءتي الأولى.. واني لاذكر أنني قرأت نصا عراقيا لأكثر من عشر مرات فاراه في كل مرة مختلفا.. فمرة تغزوني الحكمة والرصانه.. واخرى يتملكني شعور بالغضب.. وثالثة كأنما أجلس على بساط يطوف بي بين الجبال والوديان والوهاد ارتشف من رحيق الشوق الذي يمهد لي الطريق للعلو أكثر فأكثر.. فما ازال على جنوحي في الرفعة حتى اصل إلى العلياء حيث لا بشر الا أرواح من يقفزون من الاوراق إلى سماء الفضاء فاحادثهم واحدثهم وارتوي مما ينهلون.

فللنص الإبداعي العراقي في عقلي اسطورة حب عشتارية.. ففي حروفه تشم رائحة طين الارض وطمى الفرات.. فيها ازهار الشمال حينا وقحط الجنوب احيانا.. منابت الماء الرقراق وحرقة الصحراء القاحلة.. وفي كلماته تستنشق عبير التربة العراقية وتلك ازكى الروائح.. وفي جمله يهب التاريخ على وجهك كلفحة الهواء البارد ايام الصيف القائظة.. ويقف امامك جلجامش بثيابة المهلهلة ونعله المخصف وهو يقبض على عصاه بقوة ويمتشق سكينه الباتر لمجابهة الوحوش الكاسرة..ويدور في الغابات بحثا عن الحقيقة.. يعتلي صخرة ويهبط اخرى ويصرخ بملء فيه كلما جابه وحشا ضاريا اراد الفتك به.. وفي متنه تلمس بيديك وجلدك وعقلك حضارة سومر وبابل وأيام الكلدان والاشوريين والسريان الكاثوليك والارثوذكس في خطواتهم الأولى وهم يحملون الدين الجديد على اكتافهم ايقونة تتغنى بها الارض العراقيه.. وتدخل إلى شرايين قلبك ايام القادسية وجنين وابهة الملك وبساطته ايام خطوات المسلمين الأولى على ارض السواد.. فتشعر بالعظمة والسؤدد يلفان كيانك حتى تصبح شخصية تاريخية لها حديث وكلام وحياة نابضه..

فكل كلمة عراقية في النص الإبداعي تحمل معنى منفصلا.. بامكانك أن تفسرها تاريخا أو أدبا أو شعرا أو قصة.. حبا أو عشقا أو لوعة أو سباقا مع الزمن.. يهتز جسمك وتسري في اطرافك دفقة من الانفعال لا تراها وانما تلمسها.. تماما مثلما تلمسك رعشة الكهرباء الخفيفة النابعة من سلك كهربائي خفيف الظل لا يؤذيك وانما يغبطك على ما تقرأ.. ويرتجف قلبك في انفعال متوتر حينا ولين احيانا.. ولا تملك الا أن تقول في قمة انفعالك لله درك يا عراق..

وللقصة العراقية مذاق مختلف.. ففيها ترى الابطال والعيارين والصعاليك والعظماء والخلفاء يفرون من بين السطور إلى شخوص ينبعثون من العدم إلى الرؤية.. تقول لهم ويقولون لك.. تناقشهم فيقتنعون أو يعزفون عن القناعة.. لكنك في النهاية ترى انهم بشر غافلوك في حقبة زمنية ماضية فالتفوا حولك يصنعون المستحيل.. وللشعر رعشة سماوية.. ففي نبضاته قلوب تخفق حتى وان كانت قد ماتت منذ زمن بعيد.. وللرواية عشقا حتى وان كانت قعقعة السلاح تسمع بين سطورها.. فيقفز هذا من فوق حصانه وذاك يمتشق حسامه وآخر يموت طعنا والرابع يحمل على كاهله تاريخ اجيال سادت ثم بادت وبقي العراق شامخا مثلما صخرة جذورها ممتدة في الجبل ورأسها مرتفع إلى عنان السماء تعطي ولا تكف عن العطاء..

أما العشق العراقي في النص فهو عشق مختلف.. يحمل في قسماته قساوة التعامل لكن قلبه يفر من بين قبضتك إلى عصافير البيادر وفراشات الحقول ووله الحبيب ووعد اللقاء.. فالعراقي المبدع أو حتى أن لم يكن مبدعا له قلب عصفور شريد يحط على الاغصان ناظرا يمنة ويسرة بحثا عن الحبيبة الضائعة أو المفقوده قبل أن يبحث عن الغذاء.. فلا حياة له الا بها.. ولا طعم للسعادة الا قربها.. ولا تنسرب إلى نفسه هناءة أو راحة الا عندما يجدها فيأخذها بين احضانه كنجمة هوت من حالق فتلقاها بذراعيه قبل أن تنكسر.. ولا يهمه في ذلك أن يقسو على نفسه.. ما هو هام عنده أن عصفورته الحبيبة قد استقرت اخيرا في قلبه وتربعت فيه مثلما يتربع الجنين في بطن امه منتعشا بما تلقمه من غذاء وحياه.

ولا اقصد من كل ما ارتويت به من النصوص العراقية أن اعزف عن قراءة النصوص في بلدان عربية أخرى.. لكني ارى ما يراه العاشق العراقي عندما تتربع شقيقة روحه في قلبه.. فتظل عينه التي يرى به.. ودمه الذي يبيح له الحياة دون ثمن.. قلبه الذي ينبض وروحه التي تزف البشرى كي يظل على حبه له.. انه العطاء المستمر المتنامي الذي لا ينقطع.. وانها الارض التي تنجب دوما فطاحل الشعراء ورقائق الادب ودقة ورفاهة الحس وابجديات العالم منذ بدء تكوين هذا الكون..

ولا املك في كل ما كتبت الا أن اقول ثانية: لله درك يا عراق.. يهرم الزمن وتظل على صباك فيما تكتب وتبدع.. وتظل الكلمة فيك اقوى من كل الرصاص الذي يخترق جسدك في ظل زمان رمادي بات الغمام يعتريه فلا ترى فيه غير الطمع والجشع.. ثالثة.. لله درك يا عراق الحب والإبداع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى