الأربعاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم محمد معتصم

عتمة

لم يكن هناك هاجس محدد يفرض علي نفسه ساعة ولوجي مقهى أم الربيع في تلك العشية التائهة.

فقط كنت أريد تخفيف بعض من قلقي و نسيان ما بي من ضيق. بالمقهى لوحات بشرية دائمة التعليق تثير فضول البصر، تؤثث لذاكرة، تحتضن ثلة معكوفة على الدوام على لعب الورق. تتعالى أصواتهم مهللة بالاحتجاج، ضجيجهم السرمدي يفتض بكارة الفضاء. دائما كانت تأسرني هذه الجغرافيا السفلى، أحس بأشياء من الأعماق تطفو على السطح، أحمل مآسيها

و أحزان أعماقي الجارحة.

في البدء عندما طوح بي في هذه المدينة، كان الحلم بعالم حميمي، بنبض جماعي يحتضن الصراخ العنيف للذات، بأيادي دافئة متشابكة على خاصرة الغد. كنت أحلم بفضاء تمتد أبعاده داخل القلوب يمارس أحلامه علانية في فضاء داخلي مكشوف مع بشر من نفس الكوكب الوجداني.

أخذت كرسيا في ركن منزوكالعادة، وطلبت قهوة سوداء. رشفت جرعتين أوثلاث وأشعلت سيجارة، أخذت منها نفسا عميقا ثم طردته من صدري، فاختط مسارا جليلا كخيط مهاجر. جلت ببصري في فضاء المقهى. كان حنيني إلى الهروب من واقعي العقيم يتفجر في داخلي كغيمة تحولت مطرا هاطلا فوق تراب خشن، وأصغي إلى صوت سحري قادم من أعماقي، حيث يقبع شيء غامض مرتجف يُخلق وهوينتحب. وأنا أدخن سيجارتي الرابعة، أحسست بيدي تقبض الكأس بعصبية، وأخذت دقات قلبي تتسارع، ثم بدأت أتغير حتى صرت كائنا غريبا متوحشا. أحسست أن بداخلي تكبر شهية ابتلاع كل ما يحتويه المكان، وأتخلص من أصواتهم التي تحيي في جرحا قد نسيته، من وجوه لم أعد أرغب في لقياها، من صور تبعثرت إطاراتها حتى أصبحت تباع في الخردة، أحسست بأن ثمة عالما مجهولا قريبا مني كل القرب، ولا يفصله عني سوى جسر من الزجاج. أندفع لاجتياز الجسر الزجاجي، فأحتضنه برأفة، عالم شاسع مبهم، ساده ظلام كثيف.

وتجسدت في مخيلتي بقايا جثث متعفنة، وأجساد متخشبة، فهتفت بدون صوت، قلبي يطرق بابا مغلقا ودموعي لن تتوقف، وأنا قابع في ركني أرشف ما بقي من القهوة، اخترق بصري الزجاج، فأبصرتها على الهامش المقابل للمقهى ترتدي فستانا في لون السماء الصافية، محبوكا على جسدها المشدود. كانت تزيح شعرها الأصفر الذهبي عن وجهها، وتنظر ناحيتي. جريت نحوالنافذة أبحث عنها كما دائما. كلما بحثت عنها أوتعقبت خطوها الضليل تتبخر كبقايا دخان نار مقدسة، حتى في لحظات الجد حزينة، وكنت أغمض عيني وأترك حاسة الشم أن تقودني إليها، فحواسي لن تخطئ أبدا أريج عطرها الكوني، ولكن الأوغاد كانوا يشوشون علي بتأجيج دخان مجامرهم المشعوذة التي كانت تنفث روائح بخور كريهة تصيبني بالغثيان والتقزز، تشل كل حواسي وتصيبها بالعطب، حتى شككت في جدوى البقية الباقية من حواسي التي أصبحت تتوقع نداءها الرخيم وصورا لها مشوشة في منعطفات الأزقة الموحشة، ودائما أحضن الفراغ. تبلبلت ما بين اختفاء غير مجدي لنور يتزأبق كلما حاولت احتضانه وعودة مهزومة لبؤرة الضجيج الأعته. فيممت وجهي شطر بيتي حتى ألتقط بعضا من أنفاسي وأجلوالغشاوة عن ذهني وأعيد ترتيب لقطات الشريط كما عشته أوضمنته داخل مستطيلاته الشفافة الهاجعة في خرسها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى