الأحد ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

حانة النمرة السوداء

احتشدت شجرات الصنوبر كجمع من المُكِدّين العجزة. يبدو أن الأيام طوّحتْ بها ما استطاعتْ؛ فهي الآن في الدرك الأسفل من الانكسار والخضوع. لم تعد تلك الأشجار الماردة التي صمدتْ قرونا في وجهِ آلات الغرب الجهنّمية.

بالكاد تقف على سيقانها المريضة لترنو إلى ما يجري وما لا يجري في محيطِها الكئيب. الجمود الملفوف في الموت سلب نضارتها. مقرفة - الآن - الصنوبرات ذات الأمجاد الغابرة! لون الاحتضار عفّر بالسخامي سائر جسدِها المنهوك.

وتلك البـِركة الآسنة التي أمامها، مثل بولة عملاق، ما عادتْ لها صفحتُها الفضية الصباحية ولا عاد لها بهرجُها الذهبي القديم.

إنها – بحق – أردأ لوحة في العالم!

لمّا أقول العالم، فإنني أقصد عالمي الخاص؛ وعالمي الخاص هو هذا الجنب من ( الدار البيضاء )؛ على الأقل في هذه الآونة الأخيرة.

بعد سنة أو شهر أو أسبوع، قد لا يعني لي هذا الجنب أيّ شيء لأنني قد أموت.

على الجدار المقابل، علّقواْ صورة متسخة ل (شارل): طربوش كاوبوي، شاربٌ أفقي، وابتسامةٌ مائلة.

المسكين (شارل)؛ يعتقد أنه مشهورٌ عالميا، ولكن لا أحد يعرفه الآن. قد يكون صاحب الحانة عرفه من خلال شاشات السينما، لكن صاحب الحانة مات ولم يعد أحدٌ يذكره، والسينما نفسُها ماتت ولم يعد أحدٌ يذكرها. يبدو غبيّا ذلك ال ( شارل) بتوهّمه المجد الذي لا يفنى وبأكسيسواراته المضحكة: الطربوش، الشارب، الابتسامة المائلة.

قد يقول قائلٌ:

  هو - على الأقلّ - خلّد السينما الهوليودية، وأنتَ؟ ماذا تفعل في هذه الحانة الموبوءة سوى أنّك تشرب أحلامك وتتبوّلُها، وتحرق أوهامك وتنفثها دخانا، وتأكل مصارينك وتتقيؤها؟

لن أعارض، فلقد شِختُ عن المعارضة.

صحيح أنّي مثل هولاء الجالسين على كراسي مريضة والمتكئين على طاولات منخورة والشاربين لأجل لوك الأمجاد الغابرة. نحن هنا نبحث عن قلافة سعادة، قلامة حب، وقطمير من الاعتراف بالجميل.

والأشجار تقول له:

 أنتَ ونحن في هذا العالم الذي لا مجال للكذب فيه؛ عراة في حقيقتنا المؤلمة مثل كائنات أحفورية يتبرّز عليها الذباب.

طبعاً يمكن للصنوبر اليائس أن يقول ما يشاء، ولكن القول في (حانة النمرة السوداء) لا يغيّر شيئاً من ألم الروح.

القول لا يغير من واقع البؤس سواء كان في الحانات أم في المساجد.

القول مضيعة للفعل.

بجوار صورة الزعيم، عُلّقتْ صورة لنَمِرة سوداء (شرسة)، بيد أنّ فضلات الذباب قلّحَتْ أنيابَها، فصارتْ تبدو مثل قطة شائخة درداء.

على الجدار الأيسر، صورةُ قيثارة، وخلفها جسدٌ تعلوه رأسٌ جامايكية في أعلاها غابة من الشعر المضفور في الفقر.
الصورة في إطار متّسخ.

إنّه (بوب). فمه مفتوح ولا يصدر عنه أيّ كلام. فمه أبيض. تكلّس الكلام على فمِه. يتفتّتُ الكلام من فمِه مثل التراب:

 ...قف!...قف من أجل حقوقك!

فلا يبلغ الكلامُ المُتربُ آذانَنا.

 لمن تغنّي يا (بوب) المسكين؟

نحن في حانة كبيرة وليس لنا من همّ سوى أن يقطعواْ عنّا الشراب.

الشرابُ داؤنا ودواؤنا في نفس الوقت.

وهو كذلك مثل الهيروين التي يحقنها الطبيب لجندي فقد ذراعيه دفاعاً عن الوطن، سويعات قبل أن يفقد الحياة.
من الممكن أن أكون أنا من مضى، من اتّسخ، من طاله سُخامُ الوقت، من قضى نحبه وما زال ينتظر البعث في بلادة يُحسد عليها...

منذ أربعين سنة، ملايين الأفكار والأوهام والأحلام والمشاريع أنفقتُ هنا بولا ودخانا.

ومع ذلك، يبقى لي شيءٌ من العناد. فأجلس إلى هذه الحانة لأشاهد فعل الوقت في الأشياء والناس. ولعلّها مُهمّةٌ خطيرة؟ فمشاهدة الوقت وهو يقترف جرائمه في الأشياء والناس، تُعرّض صاحبَها لقصاص ما بعده قصاص. شيءٌ واحدٌ يمكن أن ينجّيه من الهلاك: أن لا يقصَّ شيئاً مِمّا شاهده.
يمكن للوقت أن يختطفني من شبابي، أن يعلّقني على الأوهام، أن يسجنني في الانتظار من دون محاكمة، أن يهين كرامتي أما عينيّ، أن يلزمني بالعيش الكريه، أن يفرض عليَّ الإقامة الجبرية في إحدى حانات (الدار البيضاء)... المظلمة.
الوقت لا يقدر عليه إلا الوقت. ولهذا أنا أهادنه، أداهنه، أخفّف الوصف عن فعلاته النكراء.
فتاتان كانت مثل قرنفلتين صارتا خلف الكونطوار مثل كيسي بطاطا مثقلين بالأصباغ. وعند التاسعة، تتحوّلان إلى برميلين ليس لهما قعر.

ابن صاحب حانة (النمرة السوداء)، فقد جنسه.
الكراسي كسيحة. الطاولات مقعدة. الشراشف ودِكة. الأرضية متحفِّرة. الحيطانُ مثقلة ببراز الذباب والسخام، بالصور الميّتة والشعارات الجوفاء. والناس... الناس؟... ذهِ بعض فعلات الوقت النكراء.
لا كلام يدور بين (شارل) و(بوب)، بيد أن الصنوبراتِ متأهِّباتٍ لمساندة هذا ضد ذاك.
قريبا ستنشب حربٌ بين الصور. وسيشرع (بوب) في اتهام (شارل) بالامبريالية والعنصرية؛ فلا يتمالكُ هذا الأخير صورتَه، فيشرع يشتمُ الأول بالبربرية وبالتخلّف. كلُّ شيء ممكنٌ عندما تتسارع وتيرة الشرب. تنحاز الصنوبرات ل(بوب) من دون سبب معقول، فتهيج صورة (شارل) وتخنق صورة (بوب).

تتدخّلُ صورةٌ صغيرةٌ ل(أم كلثوم):

  عيب يا أولاد...مش كذه!

كيف إذن؟

يحدث أن تـَتشاجَرَ الناسُ، لكن شِجارات الصور أكثر غرابة ودموية.
تشتبك عقارب الشرب، فأجدُ نفسي ممسكا بربطة عنق نديمي وأصرخ في وجهه:

  لو كنتَ رجلا حقيقياً ما تركتَ زوجتك وأطفالك من دون لوازم العيد... أربعون سنة وأنتَ تأتي إلى هذه الحفرة الموبوءة، فماذا جنيت؟

فيقوم النديمُ ليقبّل رأسي وليهديني كأساً؛ فيتأجّجُ عذابي.

هناك صور أخرى أقل أو أكثر بطشاً... أنا الآخر لي صورة في البيت. صورة قال لي عنها طفلي:
  بابا...أينما ذهبنا تلاحقنا صورتُك، ولهذا لا نقترف الحماقات...

ولي صورة في محفظة نقود زوجتي أرهبها بها فلا تقدر على خيانتي، ولي صورة في الجرائد أرهب بها أعدائي المفترضين، ولي صورة في محفظتي ترهبني بقِدمها ونظرتها الحالمة بواقع أفضل.

  لا!... لن أرهب أطفالي بصورتي الميّتة - أقول لذلك النديم -... بعد قليل سأنهض من هنا، سأذهب إلى البيت... سأشتري موزاً في طريقي ولحما...سأقتلع صورتي من الجدار...سأضمّ أطفالي بحنان وألاعبهم... بعد قليل...عليّ فقط أن... أن أنهيَ ما على هذه الطاولة...

فلا ينتهي ما على الطاولة أبداَ...أبدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى