السبت ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

مثل قطط خائنة

كان يتوقّع أن يسحبَ ثقلُ جسدِه فقرات عنقه سحبا لتنفكَّ أواصرها ويتقطّع بداخلها ذلك الخيط النخاعي الأبيض الذي ما انفكَّ يربط رأساً بلا قيمة وجسد أمسى تافها.

من الممكن - من الناحية النظرية - أن نقول إن لصاحبنا دوراً مّا في المجتمع وأنّه - بسبب طموحاته الشبابية في الشهرة والحياة الرغدة - لا يعي هذا الدور.

طبعاً هو لا يقول هذا القول؛ فالرأي عنده وعند أمثاله أنه " نموذج الشاب المثقف الملتزم بقضايا الشعب..."

ردّد مثل هذا القول في ساحات المدارس الثانوية، في أبهاء الكليات، في مقرّات بعض الأحزاب السياسية والنقابات، وفي ضيق غرفته التي يعلّق نفسَه إلى سقفها الآن.

في الركن الأيمن من الغرفة؛ مكتبٌ خشبي صغير وضوءٌ باهت. وهناك سرير هزازٌ عليه بطّانية رمادية، وفي ركن آخر، أكوامُ ورق.
المكان يعمُّه صمتٌ عادي، لكن رأسه ضاجّة بصدى القرار الذي اتخذه: " الليلة سأضعُ حدّاً لتلك الكذبة العذبة التي يسمّونها الحياة".
هو يستعذب الحياة في تفاصيلها المملّة، ولكنّه يتعذب حدّ الموت بسبب التفاصيل ذاتها لكونها تجعله يشعر وكأن حياتَه ليس سوى حلم مكرور في مخ عملاق كسول نائم منذ ملايين السنين.

وهو قبل أن يموت، يحاول أن يجد في ذاكرته التي فسّخ نصفَها عملُه اليومي كساعي بريد، والتي بعثرتْ نصفَها الآخر، مختلف النظريات التي قرأ في الأدب والسياسة والاقتصاد... يحاول أن يعثر على " كلمة "... على رمز ينقذه من الجُحُم التي يتعذبُ فيها: جحيم الفقر، جحيم الوحدة، جحيم الخيانة،...

هو لا أهل له: ماتوا... بدّدهم الزمان... سجنهم الروتين اليومي... نفاهم البعد... حاصرهم الفقر...أو رحلوا إلى بلدان أخرى ليعانقوا فيها أوهاما أخرى.

بالكاد يستطيع أن يعثر له على صديقٍ منافق يستهلك وقته وريالاته، ويقرأ أو لا يقرأ آراءه في " بؤس السياسة ".

صديق يظهر ويختفي؛ ولا يظهر مجدّدا إلا عندما يكون في حاجة إلى شيء مّا.

هو يعرف من نسمّيهم أصدقاء وهم في الحقيقة منافقون ولا يهتمّون إلا لمصالحهم الأنانية. كتب عنهم مرّة هذه الكلمة " الأصدقاء مثل القطط، تتمسّح بك عندما تكون في حاجة إلى شيءٍ مّا، وتفرُّ منك متى انقضت أو لم تنقضِ هذه الحاجة، لذا، يجب التخلّص منها لأجل تفادي الإصابة بداء الخيانة"

ومع ذلك فلقد دعا واحدا منها إلى بيته. لا لمناقشة، ولا لسمر، ولا لعشاء...دعاها لكي تحضر فقط وتفتح الباب.

كان قد قرأ عن آثار الشنق على المشنوق في كتاب نال صاحبه شهرة عالمية ومالا كثيرا. هو لم يتأثر بنظرية الكتاب حول الانتحار، وإنّما أثاره الوصف؛ وصفُ عمل أنشوطة الحبل حول جلد العنق وفقراته وأوعيته الدموية...

يُتوقَّعُ أن يحدثَ انضمامُ الأنشوطةِ إلى نفسها حرقاً لذيذاً حول العنق، ثم حزّاً دقيقاً ورديا جميلا؛ ليسيل دمٌ أحمر محتشمٌ في برودته؛ ليس لإطفاء الحريق وإنقاذ ساعي البريد الشاب الضائع، وإنما لقتله بكيفية أكثر نجاعة.

وسيتسرّبُ ماءٌ ساخنٌ ما بين الرجلين كمحاولة رعناء لإخماد نار هي - بالأحرى – في مستوى الرأس.

لم يترك رسالةً يدين فيها المجتمع أو الدولة أو الوجود، ولا حتى رسالة يبرر فيها إقدامه على الانتحار، كل ما ترك هو مجموعة أوراق من غير ترتيب عليها نظرياته الخاطئة عن المجتمع والسياسة والدين... نظريات بائسة ينظر إليها - الآن – بعين حزينة وبالعين الأخرى بنظر إلى مقبض باب غرفته، إلى الحبل المربوط إليه، إلى الكرسي الذي يقف عليه استعدادا لوضع حدّ لتلك الكذبة الجميلة التي يُسمّونها: الحياة.
فكر لثانية في النزول من على الكرسي والعودة إلى معارك الحياة بعنف أكبر، ولكنه تراجع. إنها رسالة حائرة بين اليأس والأمل تلك المِشنقة التي حول رقبته!

وأحدث أطفالُ الزقاق ضجّة مكّنتْه من تجميع شتات فكره وطرح هذا السؤال الفلسفي:" هل الموت يعني الفراق؟ أمْ ليس الموت سوى توقف الآلة عن العمل؟ أم هل هو الوجه الأخير للحياة؟

تذكّر أن حياته كانت عادية تماماً من دون أحداث يمكن للذي هو مقبلٌ على الموت أن يتذكّرها... حياتُه كانت فارغة وهي الآن فارغة فما الجدوى من التمسك بالحياة؟

  سأنتحر!...سيأتي ذلك الصديق المخادع لأنني طلبتُ منه المجيء...لقد وعدني بأنه سيكون هنا في الساعة الثامنة، وها هي التاسعة أزفتْ وأنا على هذا الكرسي...سيأتي ذلك الصديق ويخلّصني من هذه الحياة... سيُفتح البابُ ويَتوترُ الحبلُ و يَسقطُ الكرسيُ وتنشطُ الأنشوطةُ وأنتهي...

لكن العاشرة حلّتْ ولا أحدٌ أتى.

وفي لحظةِ يأسٍ آخر، مدَّ يدَه إلى الأنشوطة واستلّها برفق ونزل من على الكرسي ثم توجّه إلى مكتبه الخشبي الصغير ليتناول قلمَ حِبْرٍ غيرَ قابلٍ لِلْمَحْو وليكتبَ على جدران بيتِه هذه العبارة " الأصدقاء مثل القطط... خائنة"...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى