الاثنين ٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم أحمد اتزكنرمت

إحراق سفن النقد

يواصل الناقد المغربي رشيد يحياوي مسيرته التأليفية بجرأته الأكاديمية والنقدية المعهودة، فيطالعنا بكتاب جديد عن قصيدة النثر حمل عنوان "قصيدة النثر أو خطاب الأرض المحروقة" عن دار إفريقيا الشرق-المغرب 2008، بعد سلسلة من الكتب عن الشعرية العربية، بدءا بشعرية "الأنواع الأدبية: الأنواع والأغراض"(1991)، مرورا ب"الشعر العربي الحديث: دراسة في المنجز النصي"(1998) و"الشعري والنثري: مدخل لأنواعية الشعر" (2001).

ويقدم كتاب "قصيد النثر العربية أو خطاب الأرض المحروقة"، وجهة نظر مشاكسة فوضوية قد لا ترضي أحدا من الحرس القديم لمؤسسة الأدب العربي عموما أو لمؤسسة الأنواع الشعرية، فقد اختار الدكتور رشيد يحياوي أن يكون الكتاب ضد أنصار قصيدة النثر وضد الخطاب المناوئ لها أو قل ضد أغلب الطروحات النقدية السائدة في النقد العربي وتصوراتها عن الأجناس الشعرية.

يمتد الكتاب على مدى 239 صفحة من القطع المتوسط، بدأت بتمهيد عن الأسئلة التي رافقت ظهور مصطلح "قصيدة النثر" من قبيل التساؤل عن الخلفيات الكامنة وراء الصراع بين المبشرين بقصيدة النثر والمناوئين لها، وطبيعة الصراع بينهما، أهو جزء من طبيعة اللغة أم من طبيعة إدراك الفن أم من طبيعة ملكات التخييل أم من طبيعة مادة الأدب أم من طبيعة مفهوم الشعر أم من طبيعة مجموع ذلك؟ مما جعل قصيدة النثر تضع في كثير من الأحيان عمود الشعر العربي وشعر التفعيلة من بعده في مأزق حقيقي وتنهي بصفة مطلقة مقولة كون الوزن معيارا ضروريا للشعرية في الشعر. غير أن الناقد رشيد يحياوي لم يتوقف عند هذا الحد بل ذهب إلى أن مسألة الصراع بين المبشرين والمناوئين لم تعد نقدية صرفا أو إيديولوجية، وإنما أصبحت متصلة بجمهور الشعر الذي لم يعد يفقه في البحور ولا يميز شيئا في التفاعيل، وبالشعراء والنقاد أنفسهم حينما أصبحوا غير وازنين ولا يلتفتون إلى مكاييل الشعر، فلماذا الحاجة إلى الأوزان والبحور بعد ذلك.

واتبع هذا التمهيد بقسم أول تضمن فصلين حاول فيهما الباحث الإحاطة بجل الآراء الأساسية في الخطاب النقدي لهذه القصيدة، فخصص الفصل الأول لتضارب المواقف حول قصيدة النثر بدءا بالخطاب التبشيري بالشرعية الشعرية والتاريخية لقصيدة النثر الذي طبع مواقف آنسي الحاج في مواجهته للتلقي السائد للخطاب الأدبي، ثم أصولية نازك الملائكة ومن ارتدى معطفها من النقاد الرافضين لقصيدة النثر كسعيد عقل والشيخ جعفر وإبراهيم أبوسنة ونجيب العوفي، مع الكشف عن خلفيات هذه المواقف والمقاصد التي وجهتها، غير أن اللافت في نظر الناقد رشيد يحياوي أن هذه المواقف الرافضة لم تنجح في إرغام قصيدة النثر على التراجع لمنطقة تلق منحسر، بل الملاحظ أن هناك مدا كاسحا قد يعبر عن مشروع جمالي تاريخي أو عن مجرد مطالب تحريضية لشعراء رفضويين. أما الفصل الثاني فقد خصصه الباحث لما اعتبره مغالطات الخطاب النقدي المصاحب لقصيدة النثر من مغالطات التعريف إلى مغالطات التعويض والاستقلالية، فمنذ أن دخلت قصيدة النثر لغة النقد والإبداع، حملت معها مفاهيم مغلوطة كانت السبب في كثير من الأحكام المفتعلة بل بنيت عليها دراسات أخطأت طريقها ومنهجها، كما أن مصطلح قصيدة النثر في حد ذاته ستتولد عنه ما أسماه الباحث بمغالطات قصيدة النثر.

وترتبط مغالطة التعريف لقصيدة النثر في نظر الباحث بوقوع كثير من محاولات تعريف قصيدة النثر العربية في الغموض والإبهام وعدم المطابقة بين التعريف والخاصيات المفترضة في قصيدة النثر، خاصة وأن هذه التعريفات وقعت ضحية المقترحات الأجنبية والفرنسية منها بالتحديد، دون انتباه إلى المسافة الشاسعة بين قصيدة النثر الفرنسية ونظيرتها العربية، فقد بدأ الخطاب النقدي العربي من حيث انتهى الفرنسيون، بتبني تعريف سوزان برنار وإسقاطه على الحساسيات الشعرية الجديدة. أما مغالطة التعويض التي وقع فيها الخطاب النقدي لقصيدة النثر فتتصل بمحاولة التعويض عن غياب الوزن والقافية بالتركيز على عناصر جمالية أخرى تميز فن الشعر كالإيقاع الداخلي والتشكيل الصوري والسرد، فكانت هذه العناصر الجمالية الأخرى محل اجتهاد من طرف النقاد لاعتمادها بدائل تعويضية، رغم اقتضاء هذا الموقف أن قصيدة النثر ناقصة في الأصل أو تنطلق من وضع النقص وتسعى لتجاوزه. لينتقل بعد ذلك الباحث لعرض تجليات ودواعي شيوع مغالطة الاستقلالية الأنواعية لقصيدة النثر وما يترتب عن القول باستقلاليتها أو عدمها، مقترحا ثلاث صيغ لدراسة قصيدة النثر تنطلق من الكل نحو الجزء وتأخذا بعين الاعتبار مقولة استقلالية قصيدة النثر والعودة إلى نصوصها مرجعية أنواعية، وهذه الصيغ الثلاث هي: الإطار عبر الأنواعي الأدبي بشكل عام، والإطار عبر الأنواعي الشعري بشكل خاص، وإطار النوعي لقصيدة النثر.

أما القسم الثاني من الكتاب، فخصصه الدكتور رشيد يحياوي لخطاب قصيدة النثر خلال عقد التسعينيات لما فيه من تزايد الاهتمام بهذه القصيدة، حتى كان أوج حركتها مقارنة بالعقود الثلاثة السالفة، حيث تحولت لتصبح حركة نقدية ومعرفية في نفس المستوى الذي رافق قصيدة التفعيلة، غير أن جل ما نقرأ عن قصيدة النثر لا يتجاوز المنجز الإعلامي إلى النقد المتمرس الخبير بعمق التجربة أو الوعي النظري الفاحص، مما يؤثر على هذه التجربة ويجعل التأريخ لها أو استيعابها النظري مجازفة مستحيلة. الأمر الذي ألزم الباحث بالتقاط ومضات عن المنابر الإعلامية مساهمة منه في التمهيد لخلق تراكم عن المشهد التسعيني بتوافر عناصره ومواده.

أما خاتمة الكتاب فقد أرادها الباحث أن تكون بمثابة أسئلة أخيرة عن الحساسيات الشعرية الجديدة أو الهيب هوب الشعري على حد تعبيره وعلاقته بالسياسة والديمقراطية والأيديولوجيات مادام يسير نحو بروليتاريا الشعراء ورفض الهيمنة والاستبداد على الثقافة والقضاء على الإقطاع الشعري وتمكين الأجيال الجديدة من الثروات الأدبية وتداول السلط على الشعر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى