الخميس ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم هـيـثـم الـبوسـعـيـدي

يــوم بــكــى أبـي

نيران الإنتظار تشتعل في قلبي وقلب أبي، نترقب مرور الدقائق أمام غرفة العمليات في الطابق الثالث، لا يهمنا وهن الأرجل ووجل النفوس، نتلهف لصوت عطوف يروي ظمأ النبضات وخبر عاجل يطفئ فزع النظرات.

لحظات صعبة تمرّ برتابة قاتلة، ثواني حرجة تتسارع بكثرة الداخلين والخارجين لجناح العمليات، أفكارنا مشدودة نحو رأس أمي الممدد بعيدا بين مشارط الجراحين، لم يقطع هذه الأفكار عدا اتصالات أختي " غالية"، البعيدة عنا بجسدها الالآف الأميال...الحاضرة معنا بقلبها في هذه اللحظات.

تتلبد السماء بالغيوم، غمغمات الرعد تداعب زفراتي، أسرق نظرة خاطفة عبر النافذة وأنا أسأل نفسي: ماذا يجري هناك برأس أمي الطاهر؟، تتنامى في داخلي الظنون، تحثني على اقتحام المكان لأخوض معها هذه الرحلة، لكن هيبة المكان تقيدني، كم أبهرتني شجاعة " أمي " وصرامة موقفها؟..لازلت أتذكر ابتسامتها الدائمة التي أحيت نبضاتي ونحن في طريقنا لغرفة العمليات.

يتسلل الهدوء إلى المكان، قلوبنا ترتعد، تصارع الهواجس في ظلمات الغربة، تصطدم بوحشة الوحدة بين جنبات المستشفى الامريكي وسط " بانكوك"، تنبعث من ممراته الواسعة أدخنة الوجع ونيران اللهفة لترسم بخاطري جملة أفكار مشتتة:

لماذا كل هذه المخاطرة؟ لماذا قطعنا كل هذه المسافات؟ لماذا نحن هاهنا؟ أهو الأمان المفقود في مستشفياتنا؟ وما الذي قذف بنا نحو الطرق الموحشة؟ هل هي الثقة التي نزعت من نفوسنا بعدما أجهدنا التعب ونحن نبحث عن علاج؟ أم إن اقوال من انحلت عللهم هي من قادتنا إلى صقيع الغربة؟

يتوقف شرودي الطويل، أهرب قليلا من صراع الأفكار وحرب الهواجس، أتلمس وجهي الممتلئ بالشعر، وأحك عيني التي تشتاق للنوم وهي تئن تحت وطأة الحيرة، أشيح ببصري بعيدا، قطرات المطر تتساقط بغزارة على الزجاج المقابل للممر، كأنها تشاركني عمق الجراحات..كأنها تطفئ لهيب الآلام، ليتفائل قلب أبي ويلهج لسانه بالدعاء وسط المكان الذي يعج بتماثيل بوذا.

تتلاطم صور متنافرة في ذاكرتي، يختل توازني، أتوق لحـضن أمي، أتمنى قرض الباب بأسناني حتى أدنو من رأسها فأمسح العرق الساقط من جبينها، يخفت ويعلو أنين أطفالها الأربعة..هناك بعيدا في مسقط، ينتظرونها بفارغ الصبر، ها هي روائح الصمت تنتشر بين جدران الغرف، تشدني خطوات أبي التي كانت تجوب الممر، لماذا توقفت فجأة؟ أين تمتماته؟ أين توسلاته بالله...لقد هيجت أحشاء قلبي الراكدة.

أتأمل والدي... كهل في نهاية الخمسينات من عمره، أغوص في أعماقه السحيقة، يتضخم شيئا في وجهه، أتحسس الألم بداخله، تختلط أحاسيس قلبه وتتزاحم الذكريات في عقله، شريكة حياته في خطر وكأنه يعيش اللحظات معها ثانية بثانية، تبوح شفتاه ببعض كلمات غير مفهومة، تسيل الدموع من عينيه، يصعقني المشهد، وتضاجعني الجروح، يدك المطر الزجاج بقوة..أرتعش من وحشة البرد وقسوة المنظر، تدفعني دموعه للهروب سريعا من كآبة المكان حتى لا ينكشف لي ضعفه القاتل.

تتزايد نبضات قلبي، يلتهم بكاء أبي شجاعتي، تتلعثم الحروف، ويتصاعد فوران الدم في دماغي..أخطو خطواتي بدون انتباه، أبحث عن مكان يأوي هروبي، أريد اخفاء وجعي، لعلي أعصر قهري..لعلي أغسل همي، مشيتي تتخللها ذكريات جميلة، لأجد نفسي بعد دقائق عدة أركن إلى كرسي قصي في أحد الزوايا البعيدة في حديقة المستشفى.

أغمض عيناي، وأنكفأ على نفسي، لتمر صور أمي على ذاكرتي البعيدة، تنساب دموعي، أتساءل: كيف سأعيش في بيتا لن تكوني فيه؟ كيف سأتنفس هواء الحياة بدونك؟ من للصغار بعدك؟

أرفع رأسي بعدما سافرت في ظلمة أوجاعي، أتأمل المكان الغريب، أنظر إلى النوافذ البعيدة والطوابق العليا، تهاجمني الأفكار من جديد، هل اقتلع الجراحين الأفعى الساكنة في دماغ أمي؟ وما هذا الماء الذي تغرق به دشداشتي؟

يداي ترتعشان، أزيح جبال الهموم من كاهلي، أهرول...أركض، أنادي: أمي...أبي، أتخبط في مشتي، كأني أتوسل العطف، وجوه الناس تتصفح يأسي، اجتاز الأماكن والصور والملامح لأصطدم أخيرا بوجه ابي ورطوبة دموعه التي لم تجف، يفضحني الخجل من دموعه ليبادرني بسؤال حزين: أين أنت؟ لماذا تركتني وحيدا؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى