السبت ١٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم يوسف أحمد أبو ريدة

يا ربّ يا مغيث

"حَمَل الناس همّه لكنهم لم يجرؤوا أن يصرحوا أمامه بما فيه، فاختلس السمع واصفا ذلك الموقف المخيف"

وفجأة تغيرت من حوليَ الوجوه والحياةْ
رأيت والدي يدير عني وجهه الذي خبرتُ في شفاهه الربيعْ
وفي لسانه الغدَ الجميلَ حالما
وفي صباحِه الخُشوعْ
وأمّيَ التي عهدتها تصارع الجنود كلما توثبوا
غدت بجانبي مطروحةً على الفراش تحتمي بشالها الحزين من سؤال طفلها الوديعْ
وإخوتي حول السرير يسرقون الوقت من أصابعي لكي يخبئوا الدموعْ
والناس يدخلونْ
والناس يسألونْ
والناس يخرجونْ
والهمس يخنق الكلام في حناجر الجميعْ
وكلهم يمدّ للسماء كفّه ويستعينْ
ويترك المكان في سكينة الخضوعْ
-----
يا أمّ ما الذي تغيّرا
وما الذي في بيتنا الوديع يا حبيبتي جرى
بالله يا حبيبتي
وما الذي أسَرَّه الطبيبْ
؟؟؟
تندّ زفرة من قلبها وتحتمي بالصمت والدموعْ
 
يا والدي الحبيبْ
أما وعدتني بأنني سأترك الفراش في الغروبْ
فهل نسيت عهدنا وعزمنا على قراءة الدروس في المغيبْ
أبي أبي وعدتَني
فما الذي أسرّه الطبيبْ
؟؟؟؟
لا شيء يا بنيّ، لكن حين نستطيعْ
-----
وفي الصباح تولد الدموع من جديدْ
أبي يقبِّل الجبين بعد أن يقيس باكرا حرارتي
أمي تلملم الفراش...
ترصد الشحوب في بقاع جسميَ الكديدْ
وترسل العينين في عينّيّ تفحص التحوّل الجديدْ
لكنها تحاول اصطناع بسمة
فتفضح الدموع سرّها
وتسكب التنهّد العميق في مفاصلي
وإخوتي يسافرون في قطار دمعهم
يتمتمونَ، يسألونَ عن تقيّؤ يهدّني
وعن هُزالِ جسميَ السريعْ
فإن رأوا عينيّ سارعوا بخفّة
يُقَلِّبون في هدوء البيت أعينا تفيض بالتأمل المُريعْ
ويصمتونْ يصمتونَ يصمتونْ
-------------
وهذه سيارة الإسعاف تقطع السكونْ
فيغرق الجميع في خشوعهم
وتشخص العيون في السماءْ
وتطلق الدعاءْ
وينزل الممرض الجميل بابتسامة
تفضّلوا
تفضّلوا
تمتدّ نحو جسميَ الهزيلِ كفُّه
... براحة غريبة تلفُّه
وفي هنيهة وجدتني تلوكني الإسعافْ
ولم يعد بمسمعي سوى زامورها الفظيع
------
يا ربّ لا اعتراض
قد كنت أعشق البياض
يا إلهي الكبيرَ
كيف ضقت بالبياضْ؟
رجفتُ إذ رأيت كلّ شيء يرتدي البياضْ
ملابسُ الممرضِ الجميلِ والطبيبِ والسريرُ والشراشفُ
تثور من سكونها المخاوفُ
تمتمتُ :
كيف ترتدي الأكفانُ أجملَ الرجال والنساءْ
وكيف في العروق تنبض الدماءْ
يا ربّ كيف غشّى قلبي انقباضْ؟؟؟
-----
يا رب لا اعتراض
لكنني سمعت همسة الطبيب في الحضورْ :
الفحص موجب، فعجّلوا
خذوه للتصويرْ
لا تبطئوا
لا تبطئوا
ففي دماغه تورّم خطيرْ
لم أدر ما يقول غير أنني
لمحت دمعة تندّ من جفون والدي
سمعتُ همسه الحزين يستجيرْ
يا رب قد كتبتَ داءه
فاكتب له الشفاء
ودلّهم يا خالقي على الدواء
---
الناس حولي باهتونَ خاشعونْ
وتحتيَ السريرُ واجم وغرفتي يجتاحها السكونْ
وفجأة
سمعتُ صوتا خافتا، تدفَّّقَ الحديثْ
(يا ربّ يا مغيثْ...
فذلك الفتى الذي أمامنا
يهدّه " الخبيث")
يا رب يا مغيثْ
اكتب له الشفاء
اكتب له الشفاء

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى