الخميس ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩

لا تنقُرِ الزِّرَّ

بقلم: علي غدير

الإهداءُ: إلى... إرهابي!

علاماتُ البؤسِ والشقاءِ، كانت سائدةً، على معظمِ الوجوهِ المتناثرَةِ، أمامَ مصرفِ (واحد حزيران) في (كركوكَ)(1)، سوى بعضِ الأشخاصِ من كِلا الجنسينِ، ممَّن اقترضَ الفرحةَ، قُرضَةً سيِّئةً من القدرِ، سيدفعُ ثمنَها، رِباً مضاعفاً، بعدَ دقائقَ معدوداتٍ. كان عددُ الحضورِ، يربو على المائتي شخصٍ، من أعمارٍ متفاوتةٍ، تبتدأ بسنواتٍ ثلاثٍ، تلهو صاحبتُها، بأَصابعِ أمِّها المرهقةِ، مُلتمسةً إيَّاها، أن تحملَها عن الشارعِ القذِرِ، الذي نهشَتْهُ آليّاتُ البلديةِ، لتمدَّ فيهِ مجرًى لمياهِ الأمطارِ الشحيحةِ، بعد أن قضى، قرابةَ ربعِ قرنٍ، على أوَّلِ وآخِرِ إكساءٍ لهُ، بمادةِ القيرِ، تلكَ المادَّةُ التي تعدُّ، من مخلَّفاتِ النِفطِ، الذي تمتلكُهُ (كركوكُ)، كثانيَ مدينةٍ في العالمِ وَفرةً بهِ.
ثلاثُ سنينَ... هي عمرُ برعُمِ نرجِسةٍ، لو عمَّر الزهرُ كالبشرِ! تُرَى... ما ذنبُ هذهِ البراءةِ الصغيرةِ؟ كي تغادِرَ عالماً، لم تفهَمَ منهُ، سوى الطعامِ الرخيصِ، وبعضِ اللهوِ المكبوتِ الأرخصِ، والكثيرِ من صفَّاراتِ مركِباتِ النجدةِ، التي تفضُّ بكارةَ صباحاتِ (كركوكَ)، أمام مركِبةٍ مصفَّحةٍ، بخمسينَ مليونَ دينارٍ(2)، لأحدِ المسؤولينَ المتخَمينَ المترَفينَ، الذينَ كانوا، قبلَ ثلاثِ سنينَ، يعيشونَ في دارٍ مستأَجرةٍ، وباتوا اليومَ، يملكونَ أسهماً، في شركاتٍ عالميةٍ!

الوحيدُ الذي سيرتاحُ مِن همومهِ، هوَ هذا الرجلُ الأشيبُ، الذي يقفُ بجانبي، وهو يرطِنُ بالعربية، المعتَّقةِ بلكنةٍ تركمانيةٍ(3). جاءَ هذا العجوزُ إلى المصرِفِ ليتسلَّمَ، كالبقيَّةِ، مكرمةَ العيدِ من الحكومةِ، وهي ما مقدارُهُ عشرةُ آلافِ دينارٍ عراقيٍ بائسٍ(4)، لكلِّ فردٍ. ثمنٌ يزيدُ قليلاً على سعرِ كيلو غرامٍ، من لحمِ الضأنِ! هذا العجوزُ - كما يُثرثرُ - قد أنفقَ أكثرَ من ثمانينَ ألفَ ساعةِ عملٍ، خلالَ خدمتهِ، التي تجاوزتِ الأربعينَ عاماً، في التعليمِ. كيفَ يعطونَهُ (عيديَّةً) قيمَتَها (كيلو غراماً من اللحمِ)؟ هو لا يستوعِبُ الأمرَ! لكن عزاءَهُ يكمُنُ في بناتِهِ وأبنائهِ السبعةِ، الذينَ سيوفرونَ لهُ سبعينَ ألفَ دينارٍ أخرى. أمَّا زوجَتُهُ، فقد خانتِ العهدَ، إذ ماتت قبلَ سنةٍ، فأُنقِصَ رقمٌ من البطاقةِ التموينيةِ... كان اللحمُ سيزدادُ كيلو غراماً آخرَ، لو أن القَدرَ صبرَ عليها، عاماً آخرَ!

لافتةٌ سوداءَ معلقةٌ بمسمارينِ، على جدارِ المصرِفِ، كُتبَ عليها بخطٍ تجاريٍ خالٍ مِن القواعِدِ: (إن وعدَ اللهِ حقٌ... توفيَّتْ بأجَلِها الموعودِ، عقيلةُ السيِّدِ عبدِ الرحمنِ...). مثلُ هذه اللافتةِ، ستُعلَّقُ زُهاءَ مائتي لافتةٍ قريباً، في أرجاءٍ مختلفةٍ من (كركوكَ)، ما إن... أنقرُ الزرَّ! وستُكتبُ الكثيرُ من عباراتِ (عقيلةُ السيِّدِ...) و(أختُ كلٍّ مِن...) بدلاً من أن تُكتبَ أسماءُ النساءِ، فنحن مجتمعٌ، يعتبرُ اسمَ المرأةِ عورةً، ومن العيبِ ذِكرُهُ، ونَنسبُ ذلك، لدينِنا الذي هو منهُ براءٌ. أيعقَل أنْ نكونَ أكثرَ حياءً من نبيِّنا محمدٍ، صلى الله عليه وآله وسلَّم؟ وهو الذي كان يقولُ هذهِ خديجةُ، وهذهِ عائشةُ، وهذهِ فاطمةُ، رضيَ اللهُ عنهُنَّ؛ لا يمكنُ ذلكَ. أمّا منتسبوْ المصرفِ، فسينعونَ فقداءَهم، وسيفرحُ كثيراً، خطاطوْ (كركوكَ)، الذينَ أمسوا، لا يعيرونَ لقواعدِ الخطِّ أي اعتبارٍ، وباتوا يشترونَ القماشَ الأسودَ بالجملةِ، لتفْرُقََ لهمُ أرباحٌ إضافيةٌ... ما أبشعَ الجشعَ؟

بين الفينةِ والأخرى، كانَ ذلكَ الشرطيُ الوسيمُ، يخرجُ حاملاً أوراقاً مبعثرةً بين يديهِ، ليناديَ على ذويها الذينَ سلَّموا مستمسَكاتِهم قبلَ ساعاتٍ؛ كي يدخُلوا، ويتسلَّموا الآلافَ التافهةَ، الدنانيرُ التي ستغدو عصفاً مأْكولاً، ما إن... أنقرُ الزِّرَّ. وأنا الآخرُ سأَغدو فتافيتَ لحمٍ محترقٍ، بعدَ أن يتغلغلَ العصفُ في خَلايا جسدي المؤمنةِ بالقدَرِ. أيُّ قدرٍ... ذلكَ الذي نخطُّهُ بأَيدينا، واللهُ تعالى بريءٌ منهُ.

أضحكني فعلُ ذلكَ الشابِّ الذي راحَ يمسحُ حذاءَهُ، بمنديلٍ ورقيٍّ؛ ليُزيل عنهُ الغُبارَ المنتشرَ في كلِّ أرجاءِ المدينةِ، وذلكَ... بعدَ أن بادلتهُ فتاةٌ جميلةٌ إشارةً، متفقٌ عليها مسبقاً.

 (لمن... تلمِّعُ حذاءَكَ؟).
ودِدْتُ أن أهمُسَ في أذُنِهِ، بهذهِ الكلماتِ.
كنتُ أنتظرُ تزايدُ الحشدِ، وفقاً لتعليماتِ رئيسي (أبي حربٍ)، لكي تكونَ (الوليمةُ أدسَمَ مع رسولِ اللهِ، صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.)، هكذا قالَ (أبو حربٍ) وهو يشدُّ الحزامَ الناسفَ على بطنيَ، ويربُِتُ على كتفيَّ. ولا أعلمُ، كيفَ شَمِمْتُ، رائحةً خبيثةً نتنةً، تنبعثُ من فمِهِ، مع هذهِ الكلماتِ الطيِّباتِ؟ وهوَ الذي يبالغُ كثيراً في فرشِ أسنانِهِ بالسِّواكِ، اقتداءً بالسُنَّة المطهَّرةِ، برُغمَ أنَّني لم أشهَدهُ يحضر معنا الجماعةَ يوماً!

صرخ أحدُ الحراسِ، الواقفين في باب المصرِفِ، في وجهِ امرأةٍ عجوزٍ، ألحَّت في السؤالِ عن الدنانيرِ، فخرستْ المسكينةُ؛ ونبستْ أخرى، كانت قريبةً مني، بعيدةً عن الحارسِ، بكلماتٍ كرديةٍ، شتَمتْ بها الحارسَ، فهِمتُها تريدُ فيها: (أماتَكَ اللهُ.). فابتسمتُ لفراسةِ العجوزِ الكرديَّةِ(3)، وحَزُنتُ عليها، لأنَّ اللهَ سيميتُها هيَ الأخرى، ما إنْ... أنقرُ الزِّرَّ!

كانت تلك الشَّابَّةُ، ذاتَ البشرةِ البيضاءِ المشربَةِ حُمْرةً، لا تزالُ ترمُقُني بنظرتِها الرماديةِ، كلَّ حينٍ، علمتُ أنَّها مسيحيَّةٌ، من خِلال الصليبِ الذي يتدلَّى على صدرِها الموشَّحِ بالسوادِ، كلَيلٍ شِتائيٍّ مُدلهمٍ. كانت ملابسُها السودُ، تُزيدُها جمالاً وَوَهَجاً، وتُضفي عليها هيبةً وسكينةً، وكنتُ أتهرَّبُ من الإمعانِ في النظرِ إليها، كلّما أرعدَتْ في مخيِّلتي توصياتُ (أبي حربٍ)، المركَّزةُ حول الموضوعِ، والذي يستنكرُ كثيراً، كلمة (المسيحية) على هؤلاءِ القومِ المسالمينَ، وينهر أحدَنا إذا ما نَسِيَ أن يسمّيَهم (النصارى)... لماذا؟ يقول (أبو حربٍ): (لأنَّهم حرّفوا نهجَ المسيحِ عليهِ السلامُ.)، ياهْ... لكَمْ حرّفنا نحن نهجَ محمدٍ عليهِ الصلاةُ والسلامُ.
بدا لي كلامُه كلُّهُ غريباً، بعد خطبةِ الجمعةِ، التي حضرتُها، مُجبراً، مع ابنِ أخي، في مسجدِ الحيِّ، والتي تناولَ خلالَها الخطيبُ، تفسيرَ سورةِ الفتحِ المباركةِ. كيف كانت خافيةً عنّي، كلُّ تلكَ الحقائقِ، طوالَ السنينِ الأخيرةِ، أنا الذي أدَّعيَ الإلمامَ بعلومِ الدينِ؟ وَيْ... كأَنَّ (أبا حربٍ) وضعَ وقراً في قَلبي، فلم أعد أفقهُ حقيقةَ الحياةِ! إثر تلكَ الخطبةِ، تذوقتُ غرابةَ الحياةِ التي أحياها، وأستنكرتُ (الشهادةَ) التي أتشبَّثُ بها، وكرِهتُ (أبا حربٍ)! نعم... كرهتُهُ كَما الشيطانَ. وفهِمتُ أنَّ روحَ الإنسانِ، أعظمُ بكثيرٍ، مِن الأوراقِ العشرِ، ذواتِ المائةِ دولارٍ، التي استلمتُها هديةً، جزاءَ أنْ... أنقرَ الزِّرَّ. لماذا نتسلَّمُ مكافآتِنا بالدولارِ الأمريكي؟ هل هيَ صادقةٌ، تلك الشائعاتُ التي تقولُ، إنَّ لـ(أمريكا) ضلعاً، في ممارستِنا للجهادِ؟ أم أن قولَ (أبي حربٍ)، هو الأصدقَ؟ إذ يؤكِّدُ، أن سهولةَ التداوُّلِ، هي التي تجعلُ المكافآتِ بالدولارات! ولماذا يكونُ كلُّ شيءٍ، في هذا الزمنِ، بدعةً، في فقهِ (أبي حربٍ)، ولا يكونُ التعاملُ بالدولارِِ، بدعةً هو الآخرُ؟

 صباحُ الخيرِ... هل تسمحُ لي بقلمِكَ؟
ذُهِلتُ... وأنا أجدُ تلكَ الشابةِ الحميراءَ تقفُ إزائيَ، مقترضةٍ مني قلمي، فأَجبتها متلعْثماً:
 نعم... بالتأْكيدِ... تفضَّلي.

رَفرفَ قلبيَ بين أضلُعي، وأنا أعطيَها القلمَ، رفرفةً لم آلفها منذُ سنينَ، منذُ أن جَفَّتْ الحياةُ في قلبي، وغادرَ الهوى أروقةَ حياتي، إثرَ مقتلِ زوجتيَ وابنَتيَ الوحيدةِ، على يدِ المحتلّينَ. منذُ أن ظهر (أبو حربٍ) في طريقيَ، ليكونَ مرشدي الأول. (أبو حربٍ)... يا للكارثةِ، لقد نسيتُ واجبيَ المقدَّسَ، وما ليَ ولهذهِ الشابةِ... لا شكَّ أن أمرها سينتهيَ هي الأخرى... ما إنْ... أنقرُ الزِّرَّ!

اقتربتْ نحوي تحملُ القلمَ، وتنثرُ أمامَها عبيراً آسراً، وتَسحرُ الجوَّ باْبتسامةٍ هادئةٍ تُخفي خلفها حُزناً ثقيلاً، وقالت:

 شكراً يا سيِّدُ... (يُونسُ).
 هاهْ... وأنَّى لكِ أنْ تعرفي اسمي؟
قالت لتؤكدَ معرِفتها بيَ:
 ألستَ (يونسَ)، زوجَ الراحلةِ (خولةَ) رحمها اللهُ تعالى؟
 رحِمَها اللهُ... بلى... أنا هوَ... ومَن تكونينَ أنتِ؟
 أنا (سوزانُ) صديقتُها وزميلتُها في الوظيفةِ... ألا تذكرَني؟ كنتُ قد التقيتُ بكَ مرّةً، قبلَ ثلاثِ سنينَ، حين جئتَ لاستصحابِ (خولةَ) رحِمَها اللهُ، من العملِ... أنت لا تذكرُ ذلك كما يَبدو.
 ربما... لأنَّ فكريَ مضطربٌ قليلاً الآنَ.
 وفيمَ الاضطرابُ... ليسَ سوى المللِ مِن الانتظارِ، لكنَّني أعالجُ ذلك بالمطالعةِ كما تلاحظُ.
أبانتْ لي كتاباً كان في يديها، قرأتُ عنوانَه، بصوتٍ مسموعٍ:
 (البؤساءُ). فسألتني:
 هل سبقَ لكَ وأن قرأتَهُ؟
 أجلْ... حينَ كنتُ في العاشرةِ من عمري.
 إذاً فأَنت كثيرُ المطالعةِ، كما كانت تَحكي لي (خولةُ) رحِمها اللهُ، إضافةً لإجادتِكَ لفنِّ الخطِّ والزخرفةِ، على ما أذكرُ.
بحسرةٍ ألهبت ذكرياتِ الماضيَ، جزمتُ لها:
 فيما سبقَ.
 والآنَ... ألا تطالعُ؟
بشيءٍ مِن الألم، قلتُ لها باسماً:
 بُتاتاً.
 وهل مِن سببٍ يمنعُكَ عن المطالعةِ؟
 نعمْ... وظيفتي هيَ ما تمنعُني عن المطالعةِ.
 وما وظيفتُكَ؟

كادَ هذا السؤالُ الفاضحُ، أن يوديَ بيَ في سلسلةٍ مِن الأكاذيبِ، لو لا أنْ جاءَ ذلك الشرطيُ الوسيمُ، بمجموعةٍ من الأوراقِ، ليناديَ على ذويها، الذينَ جاءهمُ الدورُ، لاستلامِ الدنانيرِ البائسةِ، وكانت (سوزانُ) مِن بينهم.
فَوضًى واضطرابٌ مصدِّعٌ يعجُّ في رأسيَ، تكادُ جُمجُمتي أن تنفجرَ من جَرّائهِ؛ أتانيَ، ما إن تردَّد في الأجواءِ، نداءُ الصلاةِ، (اللهُ أكبرُ)، أأنا على صوابٍ أم على خطأٍ؟ ما الذي أخَّرني حتى الساعةِ، عن تنفيذِ واجبيَ المقدَّسِ؟ واجبي... أيُّ واجبٍ هذا الذي يُبيحُ ليَ قتلَ هؤلاءِ؟ وأي تقديسٍ ليَ في إنهاءِ الحياةِ التي تدُبُّ فيهم؟ ومَن ذا الذي خوَّلني بذلكَ؟ وما الذي سأَجنيهُ مِن ذلك؟ فحتّى الدولاراتِ الألفِ العفنةِ، التي استلمتُها (كأَجرٍ دُنيويٍّ)، نَصحني (أبو حربٍ) بأَن أتبرَّع بها، للمجموعة! ما الذي سأَجنيهِ في آخرِ الأمرِ، ليسَ حتى لافتةٍ سوداءَ، مخطوطةٍ بخطٍ تجاري!

 يا سيِّدُ يونسُ... لقد تسلَّمتُ (عيديَّتي)... أربعونَ ألفَ دينارٍ، بالتمامِ والكمالِ!!!
قالتْ (سوزانُ) ذلكَ بتهكمٍ ساخرٍ، وهي تَدفُنُ الدنانيرَ في مِثبَنَتِها، وأردفتْ:
 وأنتَ... هل تسلَّمتَ (عيديَّتكَ).
باْرتباكٍ بائنٍ، ودونما تفكيرٍ، أجبتُها:
 نعمْ... نعمْ، عشرةُ آلافِ دينارٍ... لا غيرَ.
 أنتَ فردٌ واحدٌ في البطاقةِ إذنْ؟
 نعمْ... وأنتِ؟
 معيَ ابنتاي وأميَ.
 وزوجكِ؟
 رحلَ عن الحياةِ، منذُ عامينَ.
 يرحمهُ اللهُ.
بابتسامةٍ كبيرةٍ، ردَّت عليَّ:
 شكراً لكَ، برُغمَ أنَّني لا أسمعُها كثيراً من الناسِ.
وهزّتْ كتفَيها مستنكِرةً، قبل أن تكملَ:
 بحجةِ أنَّه، غيرُ مسلمٍ.

هتفَ في داخليَ (أبو حربٍ): (ويحكَ... كيفَ تترحَّمُ على نصرانيٍّ؟)، لكنَّني لم آبهَ لهُ! خاصةً؛ أمام عَرضها:
  هل تقبلَ ضيافتي؟ سأَدعوكَ إلى فنجانِ قهوةٍ، فبيتي قريبٌ جداً، هوَ خلفَ المصرفِ... ما عليكَ إلا أن تُرافقني إلى مَحِلِ البقالةِ، كي أتسوَّقَ لابنتيَّ بـ(العيديَّةِ) المُباركةِ.

قالتْ ذلكَ وهيَ تتَّجهُ صوبَ دكانِ بِقالةٍ قريبٍ. لم أعلمَ ما الذي ساقَني، مع هذه المرأةِ الغريبةِ، وهي تشتريَ بعضَ الفواكِهِ والحلوياتِ لابنتَيها؟ وما هوَ السحرُ الذي تحملُهُ؟ كي ينسِيَني عشرينَ كيلوَ غراماً مِن المتفجراتِ، أحملُها تحتَ معطفِ الجلدِ الذي أرتديَهُ. التفَتُ نحوَ الخلفِ، وأنا أرافِقُ (سوزانَ)، وألقيت نظرةً أخيرةً على عشراتِ الأرواحِ، التي لوَّحتْ ليَ باْبتسامةِ شُكرٍ، ورَفعتْ إلى اللهِ الأكفَّ... تدعو لـ(سوزانَ)، بالتوفيقِ!

أمامَ بابٍ أخضرَ لِبيتٍ عتيقٍ وقفنا، كانت (سوزانُ) تحاولُ جاهدةً، أنْ تجمعَ الأكياسَ في يدٍ واحدةٍ؛ لتطرُقَ البابَ، وهيَ تمنعُني عن مساعدتِها، وأمام إلحاحيَ الشديدِ قالتْ:

 حسناً... هل تُصرُّ على مساعدتي؟
 قَطعاً.
 أنقُر الزِّرَّ... إذنْ.
ارتعدتْ فرائصيَ تحتَ المتفجراتِ الثقيلةِ، وتجمَّدَ الدَّمُ في عُروقيَ، وجفَّ حلقي، وجحُظتْ عيناي، وقلتُ بصوتٍ مخنوقٍ:
 أيُّ زِرٍّ؟
 زِرُّ الجَرسِ يا سيدي.
بآليةِ من فقدَ الإحساسَ بجسدِهِ؛ نَقرتُ الزِّرَّ، وقد دوَّى في مُخيلَتي صوتُ انفجارٍ رهيبٍ، انهارتْ مَعهُ قِوايَ. وما هيَ إلاَّ ثوانٍ؛ حتى فُتِحَ البابُ الأخضرُ، وطلَّتْ مِن خلفِهِ فتاتانِ بعمرِ الزهورِ، تبتسمانِ لأمِّهما، وتنظرانِ إليَّ باستحياءٍ؛ وهما تلبيانِ أمرَ أمهما:
 ألقيا التحيَّةَ على العمِ (يونسَ).
 أهلاً (عمو يونس).
قالتْ (سوزانُ):
 تفضَّل بالدُّخولِ.
وفجأَةً... وبلا مقدِّماتٍ، قلتُ:
 ليسَ الآنَ... تذكَّرتُ موعداً هاماً... سأَقضيه وأعودُ حتماً.
 ولكنَّكَ وعدتَني؛ والأمرُ لنْ يستغرقَ.......
لمْ استمع لبقيةِ الكلماتِ المستغربةِ المنسابةِ، كسيلٍ عَطِشٍ إلى تربةٍ، جفَّ ماؤها منذُ عصورٍ. وما هي إلاَّ ساعةُ زمنٍ، حتى كنتُ أجلسُ بين يديِّ العميدِ (مصطفى)، مديرِ شرطةِ (كركوكَ)، لأدلُّهُ على حفرةٍ، في مجرى نهرِ (خاصَّة صو)(5) الجافِّ، كنتُ قد خبَّأْتُ فيها حِزامَ المتفجِّراتِ.
ابتسمَ العميدُ (مصطفى)، وهوَ ينظرُ إليَّ، ويمدُّ يَدَهُ نحو زرِّ الخدمةِ، ليُناديَ على الحاجِبِ، وقالَ:
 سأَطلبُ لكلينا، قدحينِ مِن الشاي.
ثمَّ... نَقَرَ الزِّرَّ.

 [1]

بقلم: علي غدير

[1(1) كركوك: اسمُ مدينةٍ عريقةٍ، تقع في الجزءِ الشماليِّ من العراقِ، تزخرُ بالتنوعِ العِرقي والإثني، فوق تربتها، وبالنفطِ والغازِ الطبيعي، تحت تربتها! وهو ما يضعها بالمراتب الأولى ثراءٍ في العالمِ.
(2) أي ما يُقاربُ، الثمانيةَ والثلاثينَ ألفَ دولارٍ أمريكي.
(3) إحدى القومياتِ التي تستوطنُ مدينةَ (كركوكَ).
(4) أي ما يُقاربُ، السبعةَ دولاراتٍ.
(5) نهرٌ شحيحٌ شتاءً، جافٌ صيفاً، يشقُّ مدينةَ (كركوكَ).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى