الأربعاء ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم محمد يحيى قاسمي

قضية المنهج

في (العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين) للأديب المرحوم محمد المنوني

من مميزات المنهج التاريخي أن المؤلف يتدخل في هذا المكان أو ذاك باعتباره ناقدا لهذا الأدب، وباعتباره صاحب رأي أو وجهة نظر، إنه نقد تدركه بصفة عامة في ثنايا أي كتاب ينهج نهجا تاريخيا (1). ويتجلى بصفة خاصة في عناصر منهجية هي:

1 – التحقيب: فالتواريخ العالمية للأدب تعتمد في تقسيماتها على تجزيئات وطنية ومحلية للآداب. وكل تاريخ للأدب يقتضي تجسيد دائرته الخاصة، لهذا يحاول المنهج التاريخي الإحاطة بالإنتاج الأدبي المتعدد الأشكال اعتمادا على دورات أو مراحل أو حقب.

2 – الاختيارات: فمنهج الاختيار أو الانتخاب عملية قديمة في درس الشعر العربي، ويتشكل من اختيارات معروفة مثل الأصمعيات والمفضليات والحماسات والمعلقات وغيرها. ولكن هذا لا يعني أبدا أن تاريخ الأدب يواكب بالضبط الأقسام المميزة للتاريخ السياسي.

3 – الترجمة: إن الترجمة للمؤلف ؛ قبل الحديث عن إنتاجه ؛ منهج سليم في معرفة كثير من الظواهر الأدبية، وأدخل في جنس الدراسة المتخصصة للأدب، وهو أقدم منهج من مناهجها بالمفهوم الأوروبي نفسه، ذلك بأن أقرب شيء من خلاله يعرف الأدب هو سيرة الأديب. ومن هنا نشأ منهج السيرة الأدبية.(2)

وتعتبر الترجمة للرجال ؛ شعراء وكتابا وعلماء ؛ أبرز عنصر من عناصر تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث، بل إن اهتمام مؤرخي هذا الأدب بالرجال والأعلام يكاد يفوق اهتمامهم بالتاريخ السياسي والتاريخ البيبـليوغرافي.(3)

4 – القضايا النقدية: إن الطريقة التي يعرض بها مؤرخ الأدب النص الأدبي، أو الترجمة لصاحبه، تشي ببعض المقاييس النقدية التي يفصح عنها المؤلف، وهي مقاييس يرتد بعضها إلى ذوقه وثقافته، بينما يرتد البعض الآخر إلى معايير أخلاقية أو إيديولوجية. وهي التي نسعى إلى الكشف عنها من خلال بعض النماذج المذكورة سابقا.

- القضايا المنهجية في كتاب (العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين):

كتاب للعلامة المرحوم (محمد المنوني)، نشر أول مرة سنة 1950 م بمعهد مولاي الحسن. ونشر مرة ثانية سنة 1977 م،وطبعته دار توبقال طبعة ثالثة بعنوان جديد هو (حضارة الموحدين).

وموضوع هذا الكتاب ؛ كما هو واضح من عنوانه ؛ هو رصد وتاريخ للحركة الأدبية والفكرية بصفة عامة، وذلك في الفترة التي شهدت حكم الدولة الموحدية.

وتتخلل كتاب (المنوني) خطرات وآراء نقدية مهمة تعكس حسه النقدي – (وهو ما نسعى إلى الوقوف عنده في هذا العرض)– ويتجلى هذا الحس على الخصوص في عنصر التحقيب، وفي انتخابه الأشعار، وفيما يرسله من صفات فنية على مترجميه. كما يتجلى في التعليقات والأحكام التي يصدرها بخصوص بعض القضايا النقدية.

1 – التحقيب:

انطلق المؤلف منذ البداية من مسلمة أن جميع المعارف قد عرفت نهضة وازدهارا في العصر الموحدي، واستنادا إلى هذه المسلمة حاول التأريخ لهذه المعارف.
ويكرس المرحوم المنوني فكرة التطابق بين الأدب والسياسة، فيقرر أن المغرب وجد في فترة الموحدين أدبا مغربيا موسوما بسيما الإجادة والتفنن والإبداع، وأن الفضل الأول في هذه النهضة يعود لأكثر خلفاء الموحدين الذين شجعوا هذه الحركة الأدبية، يقول: << ولقد سرى الاعتناء بالأدب من الملوك للأمة، والناس على دين ملوكهم، فاهتموا بسائر مواضيع الأدب حفظا ودرسا >>(4).

إن المؤلف يعتبر أن للخلفاء والأمراء الموحدين وشيوخهم وذوي القرار في عصرهم أثرا نافذا وفضلا عظيما على نهضة المعارف عموما في عهدهم، وذلك بمحافظتهم على ما اختاروه منها، وكان ملائما لتكوينهم وذوقهم وسبل عيشهم، وتشجيعهم المادي والأدبي لكثير من العلوم والآداب والفنون حتى التي لم تكن رائجة في أيامهم، أو كان محظورا رواجها في العهود السالفة.

فالدولة الموحدية المزدهرة سياسيا – حسب (المرحوم المنوني) – قد أثرت في جميع معارف العصر التي ازدهرت ونشطت نشاطا وازى وواكب الرقي والازدهار على المستوى السياسي إذ تأثرت هذه المعارف بطابع الدولة الموحدية: العظمة والدين والتجديد، يقول: << ظهر أثر عظمة الدولة في أدب هذه الحقبة فوجد شعراء عباقرة متفننون تناولوا أكثر أبواب الشعر العربي، ونبغ من بينهم أفراد مكثارون طويلو النفس، جمعت لهم دواوين ضمت آثارهم، كما ظهرت مؤلفات أدبية قيمة>> (5).

لقد خضع (محمد المنوني) ؛ مثل سابقيه من الكتاب ؛ للنظرة المدرسية في تقسيمها للأدب إلى حقب ومراحل موازية للحقب السياسية، ويتجلى تحقيبه للأدب فيما يلي:
- قصر الدراسة في الفترة التي وافقت حكم الموحدين.
- تكريس فكرة التطابق بين الأدب والسياسة.
- المقدمات التاريخية التي أوردها كمدخل لفهم الإنتاج الثقافي في العصر الموحدي. (6).

وما يزكي إيمان (المنوني) بهذه النظرة هو دراساته عن الأدب المغربي وتقسيمه إلى عصور مثـل (ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين)– (مظاهر يقظة المغرب في العصر الحديث) –(المصادر العربية لتاريخ المغرب).

غير أن إيمانه بالنظرة المدرسية التي تعتمد على تقسيم الأدب إلى عصور سياسية لم يدفعه إلى التساؤل عن موقع الشعراء الذين عاصروا مثلا الدولتين المرابطية والموحدية أمثال القاضي عياض وابن حبوس، لأن ما يصدق على شعراء الدولة الموحدية قد لا يصدق على مثل هؤلاء الشعراء.

2 – المنتخبات الشعرية:

خصص (المنوني) قسما مستقلا للمنتخبات الأدبية تحت عنوان (نماذج من أدب هذا العصر)، فبدأ بالنثر دون أن يبرر ذلك، وهو يخالف نهج الأستاذ كنون في كتابه (النبوغ) حيث يسوق عدة أسباب يبرر بها سبب ابتدائه بالنثر دون الشعر.

وبالرغم من أن المؤلف لا يقدم المعايير التي اعتمدها في التمييز بين الشعر والنثر فإنه يسوق في اختياره الأشعار نماذج من جميع الأغراض الشعرية المعروفة مرتبة على النحو التالي:

* المديح: وبدأ فيه بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مدح الملوك والأمراء. وقد اختار لهذا الغرض خمس قصائد كونت ما مجموعه ثمانية عشر ومائة بيت وزعت كما يلي:
 ثمانية وأربعون بيتا للشاعر ابن خبازة في مدح الرسول عليه السلام.
 تسعة وثلاثون بيتا للشاعر أبي حفص الأغماتي في مدح الخليفة يوسف بن عبد المؤمن.
- ستة عشر بيتا للأمير عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عمر بن عبد المؤمن يمدح فيها الواعظ ابن رشيد البغدادي.
- ثمانية أبيات لعبد الواحد المراكشي يمدح فيها الأمير إبراهيم بن يعقوب المنصور.
- سبعة أبيات لأبي الخطاب بن دحية يمدح سلطان مصر: الملك الكامل.

* الافتخار: وقد اختار المؤلف لهذا الغرض قصيدتين، الأولى للشاعر عبد الله الموحدي، والثانية لأبي العباس الجراوي. ومجموع أبياتهما عشرة أبيات.

* الرثاء: واختار له قصيدة للشاعر ابن خبازة يرثي فيها أبا عبد الله نجل وزير إشبيلية وعظيمها أحمد حفيد وبلغ عدد أبيات القصيدة تسعة وستين بيتا.

* الاستعطاف والاعتذار: وقد مثل لهذا الغرض بقصيدتين للشاعر أبي جعفر بن عطية يستعطف عبد المؤمن، وبلغ مجموع أبيات القصيدتين اثني عشر بيتا. كما مثل بقصيدة من ثلاثة أبيات للشاعر الحسن بن عبد المؤمن، وكذا بقصيدة من ثلاثة أبيات للشاعر أبي جعفر السلمي. وبذلك بلغ عدد الأبيات المختارة في هذا الغرض ثمانية عشر بيتا.

* الهجاء والذم: إذا كان هذا الغرض غائبا في كتاب عبد الله كنون، فإن (محمد المنوني) يمثل له بتسعة عشر بيتا وزعت على النحو التالي:
- عشرة أبيات للشاعر الجراوي من ثلاث قصائد مختلفة.
- تسعة أبيات للشاعر ابن حبوس.

* العتب والتأنيب: ومثل فيه (المرحوم المنوني) ببيتين للشاعر الجراوي، ومثلهما للشاعر السلوي.

* الوصف: وبلغ عدد الأبيات المختارة فيه واحدا وثلاثين بيتا، وزعت على أربعة شعراء هم:
- ابن عبدوس: وقد اختار له المؤلف عشرة أبيات من أربع قصائد مختلفة.
- أبو الربيع سليمان الموحدي: واختار له أحد عشر بيتا من قصيدتين.
- ابن حبوس: ومثل له ببيتين فقط.
- ابن العابد الفاسي: واختار له ثمانية أبيات من قصيدتين.

* الغزل: وقد اختار (المنوني) لهذا الغرض خمس قصائد كونت مجموع سبعة وأربعين بيتا وزعت كما يلي:
 تسعة أبيات للشاعر أبي الربيع سليمان الموحدي.
- سبعة أبيات للشاعر أبي حفص الأغماتي.
- أربعة عشر بيتا للشاعر ابن خبازة.
- خمسة عشر بيتا للشاعر ابن المحلى السبتي.
- بيتان للشاعر ابن العابد الفاسي.

* الاجتماع: ومثل له المؤلف بسبعة وسبعين بيتا، خمسة وخمسون منها للشاعر ابن حبوس من ثلاث قصائد مختلفة، واثنان وعشرون بيتا للشاعر أبي حفص الأغماتي من قصيدتين.

* السياسة: وقد اختار منها المؤلف تسعة وثلاثين بيتا، واحد وعشرون منها للشاعر ابن حبوس من قصيدتين. وثلاثة وعشرون بيتا للشاعر الجراوي من ثلاث قصائد، وخمسة أبيات للشاعر ابن خبازة من قصيدتين.

إن مسألة الاختيار هذه تستلزم بعض الملاحظات:

- أولا: لم ينطلق (المنوني) في ترتيبه للأغراض الشعرية من نفس منطلق عبد الله كنون في كتابه المذكور آنفا، ذلك بأن هذا الأخير احتكم إلى معايير لها أصولها في المؤلفات العربية القديمة. أما (المنوني) فإنه لم يفسر سبب هذا الترتيب. << ولا شك أنه أخذ بعين الاعتبار جانب الكم>>. (7).

- ثانيا: يهتم المؤلف بالأغراض التقليدية المعروفة، ويظهر ذلك واضحا في ترتيب الأغراض المختارة إذا نحن رتبناها ترتيبا جديدا اعتمادا على مبدأ الكم كما جاء في الاستنتاج السابق، وعليه فإن هذه الأغراض تأخذ الترتيب التالي: - المديح (118 بيتا) – الاجتماع (77) – الرثاء (69) – الغزل (47) – الوصف (31) السياسة (28) – الهجاء والذم (19) – الاستعطاف (18) – الافتخار (10) – العتب والتأنيب (4).

- ثالثا: يتعامل (المنوني) مع النصوص المختارة تعاملا متفاوتا، فهو يأخذ منها نصوصا طويلة حينا كما في باب المديح النبوي حين يستشهد بقصيدة تبلغ تسعة وستين بيتا، ويأخذ نصوصا قصيرة أحيانا أخرى لا تتعدى البيتين كما في باب الاستعطاف أو الهجاء.

 رابعا: افتقار النصوص المختارة إلى بعض الإيضاحات أو التحليلات التي ترافق عملية الاختيار.

 خامسا: يكشف (المنوني) من خلال اختياراته عن ثقافته الدينية المحافظة، وتتجلى هذه الثقافة في اهتمامه بالمديح النبوي الذي جعله في مقدمة الأغراض الشعرية، ويتجلى ثانيا في عدم سوقه لنماذج من الموشحات والزجل، رغم تأكيده أن المغاربة اشتغلوا بهما.

3 – الترجمة:

خصص الأستاذ (المنوني) حيزا كبيرا من كتابه للترجمة لمختلف أعلام العصر الموحدي، وتوزعت هذه الأعلام على مجموع الكتاب حيث يمكن تصنيفها تبعا للسياق الذي وردت فيه ؛ وانطلاقا من طريقة التناول إلى صنفين:

- تراجم عابرة وردت في سياق دراسة المؤلف لمعارف العصر شملت مختلف الأعلام الذين برزوا في مختلف المعارف من علماء متصوفة وأطباء وجغرافيين ونساخ وخطاطين.

- تراجم مستقلة خصها للأدباء الذين عثر لهم على آثار أدبية. وقد ذكر في هذا القسم جميع من عرف بالشعر أو الأدب بصفة عامة.

وفي الصنف الثاني الذي يهمنا يقسم (المنوني) الأدباء ؛ وعددهم خمسون أديبا ؛ إلى ثلاثة أقسام:
الأول: وعدد أدبائه سبعة وثلاثون، وهم الذين وصلتنا آثارهم. وجعل المؤلف هذا القسم نوعين:
النوع الأول: للأدباء الخلفاء والأمراء، وعددهم ثلاثة عشر أديبا.
النوع الثاني: للأدباء الآخرين، وعددهم أربعة وعشرون أديبا.

أما القسم الثاني فقد خصصه للأدباء المغاربة الذين لم يعثر لهم المؤلف على أثر يذكر، وإنما وقف على وصفهم بالشعر أو الكتابة (8). وعدد هؤلاء أحد عشر أديبا.

القسم الثالث: وعدده شاعران، لم تقم الأدلة عند (المنوني) على مغربيتهما.

ويعتمد المؤلف في الترجمة لهؤلاء الأدباء على عناصر أساسية في الترجمة، وهي:
نسب الشخصية وموطنها – تاريخ الوفاة – الصفات الفنية والأخبار الشخصية – مصادر الترجمة.

أما الأدباء المترجم لهم فأغلبهم من أعلام العصر الموحدي، وليس فيهم واحد ممن لم تذكره المصادر التاريخية أو الأدبية، ومعنى هذا أن (المنوني) اعتمد كغيره على الشعراء الرسميين للدولة الموحدية وأهمل الآخرين. ويكفي للتأكد من هذه الحقيقة أن نقف عند التراجم المذكورة في كتاب (العلوم والآداب والفنون..) والتي اختار لها المؤلف نصوصا شعرية معروفة.

يبلغ عدد الشعراء الرسميين المترجم لهم ستة عشر شاعرا يمكن ترتيبهم حسب وفرة نصوصهم كما يلي:
1 – ابن خبازة: وقد اختار له المؤلف ستة وثلاثين ومائة بيت من شعره في الرثاء (69) والمديح (48) والغزل (14) والسياسة (5).
2 – ابن حبوس: واختار له (المنوني) سبعة وسبعين بيتا من قصائد مختلفة في الاجتماع (55) والسياسة (11) والهجاء (9) والوصف (2).
3 – أبو حفص الأغماتي: ويبلغ عدد أبياته المستشهد بها ثمانية وستين، تسعة وثلاثون في المدح، واثنان وعشرون في الاجتماع، وسبعة في الغزل.
4 – أبو العباس الجراوي: ويبلغ عدد أبياته في مؤلف (المنوني) واحدا وأربعين بيتا، ثلاثة وعشرون في السياسة، وستة أبيات في الافتخار، وعشرة في الهجاء والذم، واثنان في العتب والتأنيب.
5 – أبو الربيع سليمان الموحدي: ومجموع أبياته في الكتاب عشرون بيتا، أحد عشر منها في الوصف، وتسعة في الغزل.
6 – عبد الواحد بن عبد المؤمن: ومثل له المؤلف بستة عشر بيتا كلها في المدح.
7 – ابن المحلى: ومثل له بخمسة عشر بيتا كلها في الغزل.
8 – أبو جعفر بن عطية: ومجموع أبياته اثنا عشر بيتا كلها في الاستعطاف.
9 – ابن عبدوس: واختار له (المنوني) عشرة أبيات في الوصف.
10 – ابن العابد الفاسي: ومثل له المؤلف بعشرة أبيات، ثمانية منها في الوصف واثنان في الغزل.
11 – عبد الواحد المراكشي: ومجموع أبياته في كتاب (المنوني) ثمانية جلها في المدح.
12 – أبو الخطاب بن دحية: ومثل له المؤلف بسبعة أبيات في المدح.
13 – عبد الله الموحدي: ومجموع أبياته أربعة في الافتخار.
14 – الحسن بن عبد المؤمن: واختار له(المنوني) ثلاثة أبيات في الاستعطاف.
15 – أبو حفص السلمي: ومجموع أبياته في كتاب (المنوني) ثلاثة في الاستعطاف كذلك.
16 – الشاعر السلوي: ومثل له المؤلف ببيتين في العتب.

وتتخلل الترجمة بعض التحليات أو الألقاب التي يطلقها المؤلف على الأدباء المترجم لهم، فهو يقول مثلا عن الشاعر الأمير عبد المؤمن: << له شعر رائق حسن >> (9). ويقول عن إدريس المامون بن يعقوب المنصور: << عارف بالآداب، فصيح بليغ، خطيب كاتب شاعر>> (10). ويقول عن أبي جعفر بن عطية ؛ وهو من أدباء القسم الثاني:<< من أبلغ أهل زمانه كتابة وشعرا>> (11).

وقليلا ما يتجاوز (المرحوم المنوني) في ترجمته هذه التقريظات فيلج باب الموازنة والمفاضلة مثل أن يقول عن الشاعر ابن حبوس:<<وكانت طريقته في الشعر على نحو طريقة محمد بن هانئ الأندلسي في قصد الألفاظ الرائعة،والقعاقع المهولة،وإيثار التقعير،إلا أن محمد بن هانئ كان أجود منه طبعا وأحلى مهيعا>> (12).

ولا نترك الحديث عن تراجم (المرحوم المنوني) دون أن نشير إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها المؤلف، فقد قال المقري لدى ترجمته لابن عبد ربه:<< وجمع ابن عبد ربه المذكور شعر السيد أبي الربيع بن عبد الله بن أمير المؤمنين بن علي، وكان ابن عبد ربه المذكور كاتبا للسيد أبي الربيع >> (13).

ويبدو أن المقري خلط بين كاتبي الشاعر فنسب الجمع إلى غير صاحبه، وتبعه في ذلك الأستاذ (المنوني) حين قال عن ديوان أبي الربيع: << جمعه الكاتب الشاعر أبو عبد الله محمد بن عبد ربه المالقي >> (14).

ولسنا نعرف شيئا عن جامع الديوان – كما يقول الأستاذ (عباس الجراري) – سوى أنه محمد بن عبد الحق الغساني، وأنه كان كاتبا لأبي الربيع، وأنه أبعد من خدمته لسبب لا ندري عنه شيئا، وأنه كان يتمنى العودة إلى حظيرة كتابه، وأنه عاد إليها بعد أن جمع الديوان وقدمه إليه.(15)

4 – قضايا نقدية في التأريخ للأدب:

تناول (المرحوم المنوني) الحديث عن المعارف حسب الترتيب التالي: العلوم – الآداب – الفنون. وفي الجانب الذي يهمنا ؛ وهو الشعر ؛ تناول عدة قضايا منها:
• نهضة الشعر في العصر الموحدي وتأثره بالعقيدة الموحدية.
• هل اشتغل المغاربة بفن التوشيح والزجل على هذا العهد ؟

انطلاقا من الربط الآلي بين الأدب والسياسة حكم (المرحوم المنوني) على الأدب عموما ؛ والشعر منه خصوصا ؛ بأنه أدب خاضع للعقيدة الموحدية، وتأثر بها إلى أبعد حد، فذهب إلى أن الشعر كان دينيا متزمتا، وأن هذا العصر قد خلا أو كاد من الشعر الذاتي، يقول:<< إن الشعر المغربي خلا في الجملة ؛ ولا سيما أيام عظمة الموحدين من السفاسف التي كانت شائعة في الأدب العربي حينئذ، فندر فيما وقفت عليه شعر الخمريات، وقل أدب التغزل المكشوف، وذلك تأثرا بالطابع الديني الذي كانت عليه الدولة إبان عظمتها حتى إن عبد المؤمن لما أنشد في مجلسه أبو بكر محمد ابن ميمون بن عبد الله القرطبي أبياتا ثلاثة يتغزل فيها في شاب من أهل أغمات هجره هذا الخليفة، ومنعه من الحضور في مجلسه، وصرف بنيه عن القراءة عليه. وما يؤثر من شعر لعبد المؤمن في التغزل بفتاة قدت فؤاده، ومساجلته في هذا الموضوع مع وزيره ابن عطية إلى آخر القضية الشهيرة، فالغالب أن ذلك مفتعل على عبد المؤمن من خصومه. ومما يؤيد هذا أنه لم يجزم بالقصة واحد ممن رواها>>.(16)

وقد عارض بعض هذه الآراء ثلة من الدارسين، أولهم (عبد الله كنون) الذي يقدر في المقدمة التي صدر بها كتاب المنوني جهود المؤلف ويوافق على جل ما له من أنظار، لكنه لا يخفي عدم قبوله لبعض الآراء التي ذهب إليها في بعض المسائل مثل إنكاره للمحاورة الشعرية المشهورة التي جرت بين عبد المؤمن بن علي ووزيره أبي جعفر بن عطية تأييدا لما ذهب إليه من أن الطابع الديني الغالب على الدولة الموحدية جعل شعر الغزل يقل بل ينعدم من بين موضوعات الشعر. ويتساءل (كنون): << فما منع الروح الديني المسيطر على الصحابة في عصر النبوة من أن يقول كعب بن زهير (بانت سعاد)، وينشدها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في المسجد، وتكون سببا في نجاته وإجازته >> (17).

أما الأستاذ (عباس الجراري) فإنه يدعم رأي المرحوم كنون، ولا يشك في أنه قد كان لطابع الدولة أثر ما في فن شعراء العصر كما يبدو في مدائح بعضهم للخلفاء حيث يختلط المدح بمعان دينية تخلق نوعا من الشعر المتصل بالعقيدة والتصوف، ومع ذلك فلم يكن لهذا الطابع الديني أن يحول دون انطلاقهم للنظم في موضوعات الخمر والنسيب.(18)

ولا ينفي الأستاذ (حسن الشبيهي) الإحساس العاطفي والشعور الذاتي عن شعراء العصر الموحدي فيقول:<< إنهم عندما يكونون في أوضاع خاصة وفي نطاق ضيق يفرجون عن مكبوتاتهم،ويطلقون العنان لأنفسهم ولو إلى حد محدود>>.(19)

إضافة إلى الآراء السابقة التي تناقض رأي (المنوني) فيما أثاره حول تأثر الأدب بالعقيدة الموحدية وندرة شعر الغزل نقول من جانبنا إن النصوص الشعرية التي وصلتنا عن العصر الموحدي تنفي بتاتا ما ذهب إليه المؤلف من رأي. ولعله يكفينا أن ننظر في طوائف شعراء هذا العصر(20)، وأن نشير بصفة خاصة إلى شاعر كأبي حفص الأغماتي الذي كان مسؤولا في الدولة، وما في شعره من غزل رقيق ليتأكد لنا أن طابع الدولة لم يقيد فنون الشعر الموحدي في شيء.(21)

إن العصر الموحدي في نظرنا مثل بقية العصور، عرف الشعر الرسمي الذي ساير جانب الدولة ؛ أي المديح ؛ وهذا الشعر هو الذي حافظت عليه كتب التاريخ، كما عرف إلى جانب شعر المديح مختلف الأغراض الشعرية الأخرى من غزل وخمريات وما إلى ذلك. والمختارات الشعرية التي أوردها (المنوني) خير شاهد على ذلك.

والمؤلف نفسه يعترف بأن الأدب المغربي في عصر الموحدين << وجد في أعقاب العصر العباسي، وبجوار الأدب الأندلسي، وعلى أنقاض الأدب المرابطي، ولم يكن لينسلخ عن التأثر بالآداب الثلاثة ؛ وبخاصة الأخيرين ؛ فإنه أخذ منهما وتأثر بهما ولكن بمقدار >> (22)، فكيف ينكر وجود شعر الغزل، وقد كان مزدهرا وطاغيا على الأغراض الشعرية الأخرى في الآداب التي أشار إليها.

أما القضية الثانية في كتاب (المنوني) فهي اعترافه باشتغال المغاربة بفن التوشيح والزجل على عهد الموحدين، يقول: << أما المغرب فلا شك أنه بدوره كان أهله يعانون فن التوشيح على هذا العهد، فقد كان هذا الفن محبوبا عند غير ملك من ملوك الموحدين >> (23). ويربط بين التوشيح والزجل فيقول في فقرة أخرى: << وينبغي أن يلحق بالتوشيح الزجل الذي وجد بالأندلس قبل هذا العهد.. ثم بلغ هذا الفن مبلغا كبيرا بالأندلس في عهد الموحدين >>. (24)

فهذان الصنفان من النظم مما اشتغل به المغاربة في هذا العهد، وفي هذا الرأي رد على أولئك الذين ينفون هذه القضية. غير أن الملاحظ أن (المرحوم المنوني) لا يورد أي نصوص من الصنفين، وهو أمر يكشف عن موقف خاص لم يبن عنه المؤلف.

وإلى جانب هاتين القضيتين يثير المؤلف ؛ أثناء ترجمته لأبي الربيع سليمان الموحدي؛ قضية أخرى سبق وأن أثارها عبد الواحد المراكشي لدى ترجمته لابن عبد ربه، فأشار إلى مسألة اتهام تمس شاعرية أبي الربيع، وتطعن في صحة نسبة هذا الشعر إليه.

والأستاذ (المنوني) هو أول من أشار إلى هذه التهمة، ولكن دون أن يبدي فيها رأيه، فقد قال بعد أن أورد نص المراكشي: << هكذا يحكم المراكشي على شعر السيد أبي الربيع، وعلى عكسه نرى ابن سعيــد في (المغرب) ينوه به ككاتب شاعر أديب ماهر، له شعر مدون حسب ما ينقل هذا في (النفح). وإني وإن كنت لا أستبعد صحة رأي المراكشي لمعاصرته لأبي الربيع، ولما استند عليه في حكمه، فإني أحتفظ برأيي النهائي في الموضوع حتى يتسنى الوقوف على ديوان السيد أبي الربيع>> (25).

ونحن إذ نشير إلى هذه القضية ننبه إلى ميزة مهمة يتحلى بها المؤلف وهي عدم تسرعه في إصدار الأحكام، وعدم تعصبه لأدباء المغرب، خلافا لموقف الأستاذ عبد الله كنون الذي وقف موقفا مضادا من القضية. ونشير كذلك إلى أن للأستاذ عباس الجراري رأيا واضحا من هذه القضية (26)، وهو رأي يحاول التوفيق بين المنوني وكنون في الابتعاد عن التعصب والحماس، وكذا الابتعاد عن التحفظ في الرأي.

خلاصات:

من امتداد هذا العرض يتبين أن كتاب (العلامة المنوني) يتضمن مزايا وجب الوقوف عندها لا نزيد عما أورده (عبد الله كنون) في تقديمه للكتاب حيث قال: <<وقد سلك فيه نهجا علميا بعيدا قلما تأتى لمن زج بنفسه في هذا الميدان من الكهول والشبان. فهو عمل أدبي تام، أو كاد أن يكون تاما، وإنتاج علمي محرر، قارب أن يكون خاليا مما يلاحـظ عليه سواء في مادته وأسلوبه ونظامه وترتيبه>> (27).

ويقول عن ترتيب الكتاب:<<ثم هو قد رتبه ترتيبا طبيعيا فتناول العلوم ثم الآداب ثم الفنون، وهذه أيضا تناولها بالنظام الكامل الواجب اتباعه في كل منها>>.(28)

وإذا كان الأستاذ (عبد الله كنون) قد تحفظ في إبداء رأيه الموضوعي في الكتاب اعتبارا لسياق التقديم الذي يفرض التقريظ والمجاملة، فإننا لا نتحفظ في إبداء بعض الملاحظات الخاصة بمنهج الكتاب..

 أولا: كتاب (العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين) ليس كتاب تاريخ للأدب بالمفهوم الخاص، وإنما هو تاريخ عام، لأنه يشمل العلوم والفنون والآداب، وهو في هذا شبيه بكتاب (النبوغ المغربي).

 ثانيا: انعدام معايير واضحة للتمييز بين الشعر والنثر، وكأن (المنوني) يتبنى بذلك المدلول الشامل لكل الإنتاج الفكري لأمتنا، دون حصره في نطاق الشعر والنثر الفني.(29)

 ثالثا: حضور الأخلاق في ثنايا الكتاب، ويتجلى هذا الحضور في الاحتفاء بالمديح النبوي وتغييب فن الموشحات والزجل.

 رابعا: نقد (المنوني) يعتمد في العموم الوصف والسرد التاريخي، كما يعتمد على الذوق والانطباع.

  خامسا: آراؤه النقدية يطبعها التحفظ وعدم التسرع في إصدار الأحكام خلافا لموقف كثير من الذين أرخوا للأدب المغربي.

 [1]

في (العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين) للأديب المرحوم محمد المنوني

[1

1- خطاب المنهج: عباس الجراري – ص: 40– منشورات النادي الجراري – الهلال العربية للطباعة – الرباط – ط 2 – 1995.
2- نظرية الأدب: رينيه ويليك – ص: 79 – ترجمة محيي الدين صبحي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر –بيروت – ط 2 – 1981.
3- الدراسة الأدبية بالمغرب: عبد الله كنون نموذجا – أحمد الشايب – ص: 86 – منشورات مدرسة الملك فهد العليا – طنجة – ط 1 – 1991.
4 - العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين – ص: 136 – 137 – ط 2 – مصورة بالأوفسيت – الرباط – 1977.
5 - نفسه – ص: 140.
6- انظر بشأن هذه الملاحظات: قضية المنهج في المؤلفات المغربية: جميلة حيدة – ص: 305 وما بعدها – رسالة مرقونة بكلية الآداب – الرباط – 1991.
7- قضية المنهج في المؤلفات المغربية: جميلة حيدة – ص: 305.
8- العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين: محمد المنوني – ص: 181.
9- العلوم والآداب..: – ص: 159.
10- نفسه – ص: 160.
11- نفسه – ص: 185.
12- نفسه – ص: 168.
13- نفح الطيب..: المقري – ج 2 – ص: 102 – تحقيق إحسان عباس – دار صادر – بيروت.
14- العلوم والآداب - ص: 140 و161.
15- الأمير الشاعر أبو الربيع سليمان الموحدي – ص: 164 – دار الثقافة - البيضاء – 1974.
16- العلوم والآداب.. – ص: 139.
17- نفسه – ص: 6 – 7.
18- أبو الربيع سليمان الموحدي: عباس الجراري – ص: 179.
19- أبو العباس الجراوي شاعر الموحدين: حسن الشبيهي – ص: 114 – مطبعة محمد الخامس – فاس – 1986.
20- انظر هذه الطوائف في كتاب الجراري السابق – ص: 100 وما بعدها.
21- نفسه – ص: 179.
22- العلوم والآداب.. – ص: 139.
23- نفسه – ص: 147.
24- نفسه – ص: 148.
25- العلوم والآداب والفنون.. – ص: 162.
26- أبو الربيع سليمان الموحدي: عباس الجراري – ص: 171 وما بعدها.
27- العلوم والآداب والفنون – ص: 5.
28- نفسه – ص: 5.
29- الأدب المغربي..: عباس الجراري – ص 7 – 8 – مطبعة المعارف الجديدة – الرباط – ط 3 – 1986.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى