الاثنين ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم جودت جورج عيد

في الشرفة الزجاجية

خرجَت من المكتب واتجهَت نحو سيارتها الصغيرة، بينما كانت تنفث الدخان بعصبية وتلتهم سيجارتها بشغف... تسير ببطء في زحام المدينة المغبرّة تنظر الى المارة على الأرصفة الوعرة حولها والى الباعة يكتظون أمام الواجهات الزجاجية، يلهثون وراء غنيمة جديدة ويشتمون الناس والبلدية التي تمنع ايقاف السيارات قرب محالهم، كانت تسير بين زحام النظرات المتفحّصة والوقحة أحيانا وبعضها بين الفينة والاخرى نظرات اعجاب، لكنها في كل الاحوال كانت تشعر بالاشمئزاز من هذا اللهاث المطارِد جسدِها حتى مشارف الفانتازي. في كل مرة تخرج من المكتب وتدخل دوامة الغبار والضجيج تحاول ان تجد مخرجًا من بالون النفاق الكبير الذي يحيطها أينما كانت، لكنها على يقين بانها عندما ستثقب البالون كي تشق طريق العبور الأسطوري فلا بد أن ينفجر هذا البالون! خرجت ليان اليوم من المكتب قبل مديرها، على غير عادتها، فهي عادة تبقى لتعالج الملفات التي لا تنتهي وهي التي تهتم في معالجة كل كذباته ونفاقه مع الزبائن من جهة ومع زوجته من جهة أخرى التي "تقرقعها" في الاستفسارات الهاتفية المتتالية عن مواعيده خارج المكتب مع أنها تدري بأنه يذهب للقاء خليلته ولكنها لا تدري بعد بأنه، في الآونة الأخيرة، كما يبدو فهناك أيضا رجل يشاركه وخليلته الاجتماعات الطويلة في بحر النهار!

أدارت محرك السيارة واتجهت، كما كل يوم، مباشرة الى ذلك المقهى قرب عين البلد بالرغم من أنه يتكبدها مشقة غير منتهية لايجاد موقف لسيارتها الصغيرة، لكن ذلك المقهى هو المكان الوحيد الذي تجد فيه متنفَّسًا بعد نهار مضن من زيف وتيه، هناك ترتفع الى زمكان خارج اطار المحدود، نكهة القهوة... رائحة الشارع والبلاط القديم وعطرها ورائحة العرق المنبعث من المارة قرب هذا المقهى الرصيفي الذي يجثم براحة فوق قرون خلت تحمل كل قصص الناس الذين كانوا هناك... كل ذلك يجعل من هذه اللحظات طقسا يوميا لا بد منه في زحام يومها، حيث ينـزعها من واقع مغبرّ ويُريَها صورًا حقيقية كما يجب ان تراها في لحظات الانسجام مع دخان سيجارتها المتلاشي في الهواء كما الزمان كما الاحلام البنفسجية، تلتقي هناك أصدقاء قدامى وآخرين جدد، وترقب عن كثب عبر زجاج الواجهات الكثيرة ألاعيب التجار والباعة أو ال"شندي بندي" كما يدعونه البعض والتي كلها تدور حول قاسم مشترك واحد وهو استغلال المستهلك وامتصاص جيبه وكرامته الى أقصى الدرجات، هذا الواقع الحياتي التلقائي يخرجها من دوائر وحدتها فيبتلعها الشارع لتشترك في تظاهرات فضفاضة لأحزاب تعيسة ولسلطات بلدية ومؤسسات تعتمد المحسوبيات وتقضية الوقت أمام شاشات الحاسوب المسلية والمثيرة والتي تربطها بكل العالم حتى تبقى محتلَنة بكل المستجدات في استراتيجيتها للعمل المحلي! تجلس في المقهى، تلتقي أشباه المثقفين، منهم من يأتي لزيارة مصطنعة للمقهى ومنهم من يبحث عن ساحة ليمارس طقسًا مزيفًا ليثبت بأنه جزء من مشهد حضاري في هذا السيناريو المتواصل لاحتفالات الفقر الثقافي. ترتشف قهوتها وترى من خلال الدخان الذي تنفثه من بين شفتيها أحد المحاضرين الذي لطالما أعرب عن إعجابه بها ودعاها مرة الى ذلك الشارع الذي يحترف العري فوق أرصفته ويخبىء القبلات في طيات رسمٍ كثير الألوان ليحملهما الى مضاجعة تهرب من معالم المدينة... همَّت في النهوض لكن، وقعت عيناهما على ذات الأرصفة وكلٌّ ذهب مع الريح! مرّت بالقرب منها إحدى زميلاتها من أيام الجامعة لكنها لم ترَها وآثرت أن تلتزم الصمت حتى تمرّ، فلَيس لديها رغبة في مجاملة أكاذيبها التي لا تنتهي حول استكمال تعليمها الاكاديمي، علما أنها تعمل في خطّ هاتفي للمحادثات الساخنة! يمر من قربها مديرها السابق، لقد عملت لديه عقدا من الزمن، حتى حضرت للعمل صديقته فاستبدلها بها لأنها لا تخدم مصالحه الضيقة كما تقوم دميته الجديدة... فلا تتحمس لتحيَّته، لأنه في آخر الأمر مجرد حالة أخرى لا تستطيع القيام بأداء أفضلَ من هذا الأداء في محيط هشّ! تستمع الى هرج الناس اللامتناهي بصمت شديد، تتأمل ذاك الحكيم يتقرفص قرب العين ساهم العينين حيث يمارس كينونته اليومية الصامتة! وتقوم! بعد وجبتها اليومية هذه من جرعات الكفائين والمشاهد المسرحية المتواصلة، تمشي فوق الممرات المرصوفة التي تجمّل وجه المدينة الحجري... حتى تصل سيارتها وتدخل الزحام مرة أخرى في شوارع زكام مزمن يحمل كل الوجوه التائهة و الوجوه المهاجرة. وتعود ليان لتمتص سيجارتها بشهوانية بينما تجلس وراء المقوَد وتنفث بين الحين والآخر دخانها على زجاج سيارتها الأمامي، ترفع تنورتها قليلا فيطل فخذاها الجميلان لتنـزلق فوقهما كل عوالم الانوثة، قدم تدوس على دواسة الفرامل وقدم أخرى على دواسة البنـزين وتستمر طوال الطريق ممدودة الساقين بين الدواستين... وفي كل مرة تدوس على إحدى الجانبين ترتفع تنورتها لتطل معالم معسكرةٍ نسائية مخضبة بعطر ياسميني أخّاذ.

تصل بيتها، ترمي كل ما كان في الشارع خارج بوابة حاكورتها، وتدخل منـزلها المكوَّن من غرفتين وشرفة زجاجيَّة تجثو على رمل الشاطىء من جهته الخلفية. تدخل لتستحم، فيفوح العطر ويخرج معها الى الشرفة الزجاجية، تتوجَّه نحو مقعدها الوحيد في وسط المكان تجالس الصمت النائم في الزوايا، تنظر الى الموج دون ان تسمع "هدير" الزبد الذي يتراكم فوق جسد الرمل الشهواني... وترقب غروب الشمس حين يتداخل يوميا ومنذ منذ الأزل دون كلل أو ملل من تلك العلاقة الزوجية ليخصب صفحة المياه بلونه القِرمزيّ...

تستسلم لأفكارها الملوَّنة التي تسيل من جبينها حتى تصل عقدِها المعلَّق في رقبتها، الذي لطالما يسترق النظر الى نهديها الشَّبقين. البارحة، استقبلت الملك في أورشليم، البارحة، حملت أزرار الزنبق وركضت فوق رمل الميناء، البارحة، حملت عَلمًا كبيرا جدا وكانت تتظاهر في ساحة الطرف الأغر في لندن، البارحة، حملت الحجارة لتطارد عصافير الحزن الذي يعشش في فضاء سرمَديّ، البارحة، كان يلاحقها عصفور كبير، البارحة، حملت بندقية ولاعبت الفراش في الحقول... اليوم، لبست ثوبها الابيض القصير المزركش بورود بنفسجية، نظرت الى البحر من خلف الزجاج لترمي هناك كل القصص ولتبدأ حكاية بينها والموج والسماء لاستقبال نبيّ يسكنها مذ بدأت بحثها العبثي عن الكلمة في سرِّ الليل وفي استفاقة الصباح لتهيم في فلسفاتٍ بيضاءَ تدور في مداراتٍ رماديةٍ وتستعد لتطاردَ عُطارد...

فجأة... انتبهت له!

هناك في زاوية الشرفة الداخلية المظلمة، وقف بصمته المعهود، بجبروته الذي يشلّ ذاتها، يصهرها بعنفوانه، يجعلها امرأة ليست ككل النساء، يقف هناك بكل عراقته ليحوِّلها الى حالة بيضاء تهيم في عطره "البربري" "الصَّنوبَري" المحروق فقامت من مقعدها، ذهبت اليه، مدَّت يدها الى رقبته، مرَّرتها ببطء حتى وصلت وسطه كأنها تطرح عليه السلام بصمت شديد وبضجيج ساكن... فكّت أزرار ثوبه الأسود العُلويَّة واحترقت أصابعها لتعرّي جسدَه وتنـزع قناعَه المزركش من حكايا الشوارع والغبار، لينبلج وجهَه أمامها أمام حقيقة مطْلَقََة لينسجم معها، أخذته الى مقعدها، أمسكت خاصرته، ضمَّته بيديها وبروحها العطشى، شدته اليها بقدميها، أحاطته لتمارس معه وحدتها وفرحها... هو وحده الباقي بكل اللَّحن، يرقب موج البحر معها من خلال خصائل شعرها التي تنام فوق صدره عندما تضع القوس فوق أوتار صدره وتبدأ العزف، على التشيلو، معزوفة (همسات البحر) [1] في عناق ميتافيزيقي، يستعدان لاختراق واجهة الشرفة الزجاجية لمراقصة البحر!


[1معزوفة للمؤلف الايطالي ماريو كاستلنوفو – تديسكو


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى