الثلاثاء ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم نازك ضمرة

حرية الكاتب في التعبير

قال لي صديقي العجوز أن مسئول الصفحة التي أكتب بها قد تغيّر، والمسئول الجديد البديل من فئة لا تقبل أمثالي، ولا وقت لديّ للتعريف بنفسي، ولا لتملق مستمر قد لا يثمر، وأنت أدرى بالمواضيع التي أتناولها في تعليقاتي أو اقتراحاتي أو آرائي، عن كتب مؤلفة ومنشورة، أو عن قرارات إدارية، أو تصرفات اجتماعية أو سياسية ألخ، والقائمة لا تنتهي، فحياتي للنبش والعيش، وما أكثر بل ما أسرع تلاحق الأحداث حولنا في هذا الزمان. تلاقت نظراتنا يستطلع كل منا تفاعله مع ما ذكره صديقي العجوز، بدا لي ببشرة وجه جافة، شبه مضطرب في عالم من خيال أو هو في حلم، أردت تهدئة عواصفه (بدل عواطفه) فاستدركت قائلاً: (ماسك السلم بالعرض)، أجابني

  إن غابت عنك عربي يقرأ ويرى، ويضنيني عدم فاعلية عقل العربي الجمعي، مقارنة بغير العرب.

أسائل نفسي بصوت مسموع، قبل إجابة صديقي العجوز، والذي يظن أنه سيغيّر العالم بكتاباته، ما معنى مفردة (حق؟) وما معنى كلمة (تعبير؟) متصوراً موقفه الصعب وخوفه على فقدان حريته أو مصدر رزقه من الكتابة للصحيفة بما ينفع الناس، لكنه وقبل أن أتفوه بتهدئة ما، تابع قائلاً

  وهل يوجد إنسان لا يعرف معنى كلمة (حق؟)، عندك حق، وعليك حق، ولك حق، يحقّ عليك أن تفعل كذا وكما جاء في التنزيل الحكيم (لينذر من كان حياً ويحقّ القول على الكافرين)، ويقال حق لك أن تفعل كذا أو تقول كذا أي يسوغ، وحقيق بكذا أي جدير، والقائمة طويلة على ذمة (المعجم الوسيط). أردت بعدها أن أبين رأيي بالمقصود بمفردة (تعبير)، لكنه أوقفني وقاطعني قائلاً: حقٌّ عليك أي واجب فهل لك حق التعبير، أم حقّ عليك التعبير عن رأيك؟ كدت أبتسم، وكان كلانا على عجل من الأمر، فاتفقنا على لقاء لاحق بعد حين.

التعبير أشكال: تعبير شفاهي ويتفرع عنه الأسلوب الخطابي، أو الاعتراض على قرارات وآراء، أو اقتراح، أو إبداء رأي شخصي أو مشاركة مع واحد أو أكثر، أو عبر مذياع أو محطة تلفاز، أو التعبير بالتمثيل.

ثم تعبير كتابي: إما في صحيفة يومية أو في كتاب على شكل نقد أو تعليق أو قصيدة موافقة أو معارضة، أو بإنتاج فيلم، أو رسم فني مباشر أو ملغز والبقية عند السامعين والمشاهدين.

ثم تعبير عملي عملي فعلي: كمشاركة في تظاهرة أو إضراب أو مشاركة في مقاومة أو دفاع. وقبل أن أقفل مبتعداًً أوقفني بإشارة من يده قائلاً:

  يبدو أنه لا توجد حرية مطلقة في هذا العالم، بل أعتقد أنه لم تكن حرية مطلقة حتى في عصور الهمجية، وحتى في الطبيعة البكر، وقبل امتلاء الأرض بالبشر وبشرورهم، فعلها قابيل بأخيه كي يرث الأرض والمكان والسلطان وحده، وفعلها عمّ الأمير هاملت بأخيه ليرث الجمال والملك والأرض والسلطان، فحتى الحيوانات وأقواها الأسد شاهدته في تصوير تلفزيوني يهاجم ثوراً بحرية ودون اعتراض من أحد، غرز الأسد أنيابه في ظهر الثور البرّي ليسدّ جوعه، فثنى الثور رأسه متألماً من عضة الأسد، فبقر قرنه بطن الأسد، تراخى الأسد، واجتذب الثور نفسه مبتعداً نازفاً، وطوى كل منهما جراحه وآلامه، ولم نعرف أيهما سيموت أولاً.

فقلت لصديقي العجوز، متعمداً مداعبته، وربما في حذلقة أختبر مدى احتماله، ألا يمكن أن نعيد كلمة التعبير إلى عبرات، أو أن مفردة تعبير هي من مقطعين (تعب) و( ير) نابعتين من لغة آرامية أو سريانيه، أو من عبر يعبر عبور، أو من عبّر الرؤيا أي فسرها، وفي التنزيل الحكيم، (إن كنتم للرؤيا تعبرون) ثم هناك العبري والعبراني والمعابر. غادر صديقي العجوز المكان في صمت، وأنا أتابع ملامحه وحيرته.

عندما كان الحكم للعثمانيين لم يطرح أي مفكر عربي إقليمية أو فئوية بل كان كل العربً يعزفون على وتيرة واحدة ربما بدءاً من الكواكبي (كان أجدادكم لا يركعون إلا لله، وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المنعمين، النبات يطلب العلو، وأنتم تطلبون الانخفاض، لفظتكم الأرض من على وجهها)، والمثقفون العرب زمن الحكم العثماني جأروا بآرائهم، وتحملوا ويلات الظلم والاستعباد، أحسوا أن هذا حق لهم، بل واجب عليهم، وحين دغدغ عبد الناصر مشاعر العرب القومية، هبّت الأقلام والأفلام والإذاعات والشوارع والنساء والأطفال ملبين مكبرين ومشجعين وبكل ما يملكون من أسلحة الكلام، لكن المؤثرات الخارجية و(القابيليون، أو القبليون إذا أردتم) كانت كلها أقوى من العواطف، فهوى الحلم كبيت أساسه ملح أو رمل تذروه رياح عاصفة، فعاد التحجم والتحجيم للمفكر العربي، وحتى الفرد العادي في الشارع يحيّرك حين يقول لك (ضاعت الطاسة)، توجعاً من اللجم، وتعبيراً عن قلة الحجم وتعدد مصادر الهمّ.

لا رقابة على الفكر، يولد الإنسان حراً جسداً وفكراً وخياراً، والعاقل هو من يقوم بالخيارات الصائبة في حياته، هو مسئول عنها وعن نتائجها، الحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة.

وحرية المعرفة والتعبير حق شرعي للكل وليست حكراً على أحد، ولقد حققت وسائل الاتصال المعاصرة ، والأقمار الصناعية وشبكات الإعلام البعيدة والقريبة والهاتف وشبكة الإنترنت أصبحت كلها في متناول الفرد العادي، بل تتزاحم إلى بيوتنا وأسرتنا، وتسبقنا في خطواتنا، ثورة معرفية لم يعرفها التاريخ من قبل، وأمام سمعنا وأبصارنا وعقولنا معلومات لا نقوى على حصرها أو تداولها، ودونما استئذان أوطلب ولا حدود، ولا راد لهذا المدّ الذي سيغني البشرية بالمعرفة الوفيرة، بل إنه فاعل بحياة الناس ومصائرهم ما لا يقوى عقل على تصوره أو توقعه.

ومن نافلة القول التذكير بأن حرية التعبير بجميع أشكاله لا تزدهر إلا في ظل ديمقراطية نابعة من فكر الأكثرية ومناسبة للمكان وملائمة، يقول د. حازم قشوع في مقال له بعنوان المواطن هدف أم الأيديولجيا "أن تكون رؤى الإصلاح والتحديث علمية تجسد طموحات المواطنين، وتترجم أهداف المجتمع إلى الواقع للعمل على تعزيز القيم التي من شأنها أن تنمّي الإحساس بالمسئولية الوطنية عند المواطن، وتحقق حافزاً للمشاركة"، وموضوعنا في هذه الورقة هي المشاركة في الفكر والتعبير والعمل، والتعبير المطلوب واللائق هو الإيجابي المشارك، وبفكر معرفي لا غوغائي ولا انطوائي ولا عشوائي ولا إقصائي أو انتقائيّ.

هناك الكثير من (التابو) تقف أمام الكاتب العربي والمفكر بسبب انتقاص الحرية والديمقراطية والعوائق البيروقراطية وتعدد مستويات الرقابة وأشكالها، والعوائق عند الكاتب والمفكر والفنان من غير العرب ففي غالبها دستورية، أما في المحيط العربي فهي عوائق تراثية ودستورية ودينية وعشائرية قبلية وأسرية.

والمادة 19 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان تنص على ما يلي:
"لكل فرد حق حرية التمسك بالرأي والتعبير عنه؛ ويتضمن هذا الحق حرية التمسك بالرأي دون تدخل خارجي، وحرية السعي لمعلومات وأفكار، والحصول عليها ونقلها من خلال وسائل الإعلام وبغض النظر عن الحدود."
حرية التعبير عن الرأي من الركائز الأساسية في حياة البشر ، وهي حق فطري اوجده الله تعالى في جبلة الإنسان،وجعلها من مقومات حياته التي من اجلها يناضل،وفي سبيلها يكد ويسعى،ومن خلالها تنمو قواه،وتنطلق مواهبه في العمل والإبداع بكل صنوفه وأشكاله.

ولا يغيب عن الذهن أنه يتعذر على الإنسان ان يعيش في واقع لا يستطيع ان يعبر فيه عن رأيه،ويدافع عنه بالتي هي أحسن،وحرية الرأي تعني حق القول،او حق الكلمة،والجهر بالحق، وإسداء النصح في كل ما يمس الأخلاق والأرزاق والمصالح العامة وحتى الخاصة، غير ان حدود هذه الحرية تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، فأنا حر في حدود ألا أوذي الآخرين،وألا اعتدي على حرياتهم.

هذا عدا عن القول إن حرية التعبير عن الرأي تقدم مساهمة قيمة لقضايا أخرى تحتل الاهتمام، كالحكم الصالح، وحكم القانون، والديموقراطية. وتلعب وسائل الإعلام دورا حيويا في محاسبة وتقييم أداء السلطات التنفيذية، تدفعها إلى إدارة الموارد بأمانة وبأقصى ما يمكن، وتدفع حرية التعبير وضع السياسات بشفافية ومساواة لتشمل أغلبية شرائح المجتمع، وبالمقابل إن تعطيل حرية التعبير قد تقود إلى نرجسية المتنفذين، فيرى المدراء والمسئولون أنهم على صواب،وهم وحدهم يعرفون مصلحة الوطن والمواطن، مقتربين كثيراً من الفكر الشمولي، غير مدركين التململ والغليان في نفوس المفكرين والمثقفين والمحرومين من أبسط حقوق المواطنة.

فالحرية شيء مقدس لكل البشر، وهذا الموضوع تفاعلي شامل يقتضي هندسة الممارسة للحريات لكي تأتي بناءة، وفي السياق العام، وتبدأ هذه الهندسة العامة من تعليم الجميع قيم الحرية ونشرها بكل الوسائل الإعلامية الممكنة، وبيان آليات ممارستها في إطار البناء التربوي والاجتماعي بدءاً من البيت والحارة والمسجد والمدرسة والجامعة والعمل في أي موقع. وهنا لا أكتفي بالتعميم فأخص المرأة وحقها في حرية التعبير عن نفسها في مجتمعنا العربي والإسلامي:

سنبقى أذلة وأمتنا بلا وزن ما دامت المرأة لا تتساوى مع الرجل في كل شئون الحياة، ورأيها يساوي رأي الرجل في الزواج والطلاق والذمة المالية والقرارات والوظائف والمسئوليات والواجبات والدخول والخروج،

حرية التعبير وإبداء الرأي في أديان أرض العرب:

إن القرآن الكريم يقرّ بتعددية الآراء وتنويعها حيث يقول تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولايزالون مختلفين) (هود118). أي إن الاختلاف بين البشر ليس أمراً طبيعيا فحسب بل انه أمر ايجابي، وفي كل الأحوال يجب أن تكون آراء متعددة في المجتمع الإسلامي تعكس تنوعه وتياراته الفكرية، قال تعالى "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض،يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة 71) أي أن المجتمع الإسلامي بشقيه الرجولي والنسوي يتمتع بحرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يقتصر على الأمور الدينية والعبادات والعقائد بل كل النشاط الإنساني في التفكير والنقد والمعارضة وتقييم الأمور السياسية والثقافية والاقتصادية

ولكن التشبث بالجاه والسلطان أفسد هذه الروح، وأبعد أهل الكفاءات عن التأثير والنقد البناء، ولم يقتصر الحال على ذلك بل اتسع الإقصاء الفكري ليشمل جميع المعتقدات والأفكار والعقائد التي لا تنسجم مع الخط الرسمي للسلطة، هوجم المعارضون من منظور ديني واتهموا بالكفر والردة. واستخدم ذلك الأسلوب لعزل المعارضة عن الأمة، ولتبرير مطاردتها ومحاربتها فنشأت نتيجة ذلك الصراع السياسي الديني تصانيف هائلة في القضايا الكلامية والعقائد ومؤلفات كثيرة في الرد على هذه الفرقة وتلك الطائفة حتى أصبحنا نمتلك ثروة كبيرة في الأدبيات المذهبية المطبقة والمتنحية والبعيدة عن التطبيق.

وفي اعتقادي أن الشريعة الإسلامية تحرم تكفير أي مسلم، ولا يحق لأي مسلم تكفير أخر حتى لو سمع منه أو شاهد ما يعتقد انه كفر بل يكون الشك لصالحه، فهناك أفراد أو جماعات أو حكومات لا يسعدهم أن يكون الإنسان حرا، وللأسف أيضاً أن هناك جمهور كبير عرف الدين من ناحية الشكل فقط واكتفى بالشكلي منه، وهو تدين قريب من التعصب، يفرضون آراءهم بحجه القيم والتقاليد والتعاليم التي يفسرونها حسب أهوائهم، أو بلغة عهود سحيقة.

ولكن... ماذا عن استغلال قانون الردة ضد المفكرين والباحثين والكتاب؟ وكما قال الدكتور حسن حنفي أن البعض استعملوا قانون الردة ضد المفكرين والباحثين والكتاب، والتفريق بينهم وبين زوجاتهم، وإصدار الفتاوى بقتلهم مما أدى إلى هروبهم من أوطانهم إلى الغرب، وفي التقارير الدولية عن حالة حقوق الإنسان، تظهر الدول الإسلامية في مقدمة الدول الي تخترق فيها الحقوق بالسجن والتعذيب والاعتقال للصحفيين والأدباء والمفكرين) ، وقضية فتاوى حسن الترابي في السودان تتفاعل هذه الأيام، وكلكم سمعتم أو يمكنكم تشكيل آرائكم حسب مفهوم كل منكم لمعنى حرية الفكر والاعتقاد والتعبير، ونجد في بعض البلاد ذات الأغلبية الإسلامية، تمجيداً نظرياً لحرية الفرد وادعاء المساواة والعدالة المزيفة، مع أنه ورد في كتاب الله تعالى (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) ثم (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغيّ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) أو انه ينطبق علينا قول أحد العلماء (رأيت في الشرق مسلمين بلا إسلام، ورأيت في الغرب إسلاماً بلا مسلمين)
وإذا كنا نكره الناس على التبعية ونجبرهم على التخلي عن حرية التعبير والمعارضة، فكيف نتأكد أن التابع الساكت بعيد عن النفاق والتظاهر، طلباً للسلم والسلامة، خوفاً أو طمعاً.

وماذا عن حقوق الإنسان في العهد القديم لليهود والنصارى، يقول جورج ناصيف في مقال له تحت عنوان (حقوق الإنسان وواجباته من منظور مسيحي) فيقول: جاء على لسان أشعيا النبي "ويل للذين يشترعون شرائع الظلم ويسنون قوانين الجور"، ومما جاء على لسان سليمان الحكيم "لا يليق بالحكام والعظماء أن يدمنو السكر فينسوا حقوق الناس ويهملوا دعوى المساكين، افتح فمك دفاعاً عن المتألمين، وعن حقوق جميع المهملين"،
وننوه هنا أن السلوك الصهيوني المعاصر وفكره يتتبع ما جاء في التلمود البابلي الذي أدخلت عليه التعديلات في العصور القديمة حتى صار ما يسمى بتلمود العصور الوسطى ثم التلمود الحديث المعدّل عبر القرنين الأخيرين والذي هيأ لقيام الصهيونية العنصرية.

أما موقف الكنيسة الحديثة والكلام هنا ل جورج ناصيف فيقول: جاء على لسان البابا (بيوس الحادي عشر عام 1931) في رسالة له بأنسنة الحرية الاقتصادية ومقاومة الهمينة والاحتكار، باعتبارهما إساءة إلى الكرامة البشرية. وعن المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965 صدرت وثيقة (الكنيسة في عالم اليوم) ومما جاء في هذه الوثيقة: التزاوج بين الارتقاء الاجتماعي والسياسي والثقافي، مع احترام الهويات الخاصة بكل إنسان وشعب) ويضيف جورج ناصيف في مقاله: إن زبدة القول في حقوق الإنسان، أن المسيحية في تصورها للكائن البشري جعلت كرامة الإنسان من كرامة الله جل جلاله، الأمر الذي تترتب عليه جميع الحقوق معنوية وأدبية واجتماعية. أما الواجبات حيال الإنسان فهي:

رفض العنصرية التي تمتهن الكرامة والمساواة البشرية.

رفض جميع أشكال الحروب، باعتبارها اعتداء على الحياة والسلام بين البشر.
رفض كل أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، واحترام حقوق الإنسان التي تنص على حق الفرد بالمعاملة اللائقة وحقه في الدفاع عن نفسه.

حرية التعبير في الغرب:

عبر عنه لويس برانديز رئيس المحكمة العليا في الولايات المتحدة هو "إذا كنا نريد أن نصل ذات يوم إلى فضح زيف وبهتان فكرة ما من خلال الحوار، وإذا كنا نريد أن نتفادى الشر من خلال التربية والتعليم، فإن العلاج اللازم هو المزيد من حرية التعبير وليس فرض الصمت، ومن خلال الإنترنت (أو ما عرفت بالشبكة العنكبوتية) طالعت مراسلات مطولة بين غزالة عرفان المسلمة الباكستانية وشارلوتة فيديمان الألمانية. ولا أتحمل مسئولية دقة تعابيرهما، لذا أترك الخيار للراغب بالاطلاع عليها ، وإبداء رأيه بنفسه، لكن المقصود أننا بفضل شكبة الإنترنت أصبحنا نتحاور وكأننا نجلس متجاورين متقاربين أو متقابلين.

من غزالة عرفان إلى شارلوتة فيديمان - 9 أكتوبر 2004
لقد أشرتِ إلى الانفصال القائم بين الواقع والإدراك. إننا نستنكف فعلا عن التفاعل مع الوقائع. وبالمقابل فإن الدين والأساطير المطبوعة بالخرافات هي التي تحدد حياتنا. نحن لا نكف عن الكذب على أنفسنا وذلك بأن نظل نرى على الدوام أنفسنا عرضة لـ"النوايا السيئة". وإنه ليس هناك من سبب يمنعنا من أن تكون لنا آراء مختلفة ومع ذلك يكون بوسعنا أن يحترم كل منا رؤى الآخر ونمط حياته الخاصة.

وأجتزئ جزءاً من إجابة شارلوتة فيدمان على غزالة عرفان
وبعد أمسية في "رمسيس هلتون" توصلت إلى قناعة بأن الانحطاط الذي ينسب عادة للغرب يكرع الناس منه هنا في المشرق بلا حساب أو تحفظ. لعلني كألمانية ساذجة شيئا ما، إذ هنا في ألمانيا لا يحبذ الناس التبجح بمظاهر الثراء؛ فمن هو غني يفضل بالأحرى أن يتستر على أحوال ثرائه. ولكم يبدو لي مبررا أن يعمد أهالي القاهرة إلى نظم أشعار ساخرة هجاءً لإخوانهم (وأخواتهم) الخليجيين. مع تحياتي القلبية من برلين شارلوتة فيدمان.
ومن الملاحظ أن بعض الدول الغربية ومنها بريطانيا تحاول أن تظهر نفسها أنها تحرص على حرية الصحفيين فقرأنا وسمعنا أنهم نجحوا في إطلاق سراح تسعة صحفيين في نيبال وبنغلاديش وروسيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ولكن ماذا عن انتقاص الحريات في بلادهم، وما هو حال سجناء الفكر والكلمة عندهم؟
واسمحوا لي أن أتساءل على سبيل المثال لا الحصر أين مبادئ الثورة الفرنسية الثلاث: الحرية والإخاء والمساواة، هل هي مقصورة على حملة الجنسية الفرنسية من أصول أوربية فقط؟ أو هي للصفوة من أبناء الأغنياء ورؤساء المنظمات أو الأحزاب؟ وفرنسا التي تعدّ أول بلد غربي حاول تحقيق الديمقراطية، لكنها ليست الوحيدة في ادعاء الديمقراطية، وليست الوحيدة التي تتنكر لمبادئ حرية التعبير في الغرب الأوربي والأمريكي حين يكون الفرد ملوناً، أو شرقياً أو مسلماً؟

ومن هذا المنبر أطمئن اللاجمين أن لا كتابة ولا خطابة ولا أي تعبير فردي قادر على تغيير واقع سياسي، وعلى الرغم من الديمقراطية الليبرالية في الغرب، أي حكم الأغلبية، فإن حكم الأغلبية لا بد أن يحرم أقليات من المساواة والعدالة وحق التعبير الحر، من هنا علينا أن نتذكر أن حرية التعبير المتاحة في الغرب، إنما هي امتصاص لاحتقان شعبي أو فردي، بل تعدّ تلك الحرية الشكلية من أسباب نجاحات السياسيين والمترئسين، لا يغضبهم ما يقال عنهم، بل العكس هو الصحيح يستفيدون مما يقال، فإن كان النقد معقولاً ولا يضرّ بمراكزهم، استفادوا منه ونفذوا مقتضاه، وكسبوا المعارضين إلى جانبهم، وإلا فالأيام كفيلة بالدفن

غياب التنسيق وعدم احترام الكلمة (الفكرية والرقابية)

لا أؤمن بالرقابة على الأدب أو الفن عموما ولكن يمكن التعبير بدون إباحية وبدون التعدي على حرية الغير. وهناك فرق كبير بين النقد البناء والنقد الجارح في حرية التعبير، ومع هذا لو لم يستغل بعض المسلمين الصور الكاريكاتيرية المسيئة لنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، لما رفعنا من قيمة ذاك الرسام التافه المجهول، والكثيرون لا يعرفون عن سبق دولة الدانمرك وشعبها في ريادة التحرر من المألوف، وهم معروفون بتحللهم من أي قيم أو قيود قديمة أو أسرية منذ أكثر من نصف قرن، متخطين الخطوط الحمر الموجودة حتى في أكثر البلاد الأوربية حرية وفي أمريكا، وحتى المسيح ووالدته مريم البتول، وأنبياء اليهود لم يسلموا من التهكم والاتهامات وإلصاق صفات خسيسة بهم، سواء في صور كاريكاتورية أو في أفلام أو في كتابات أدبية. قلنا أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وكان الأجدى بالمسلمين الغيورين الفاهمين اللجوء إلى القضاء، وهوالأقرب إلى العقل الغربي، والخسارة المادية والغرامات المالية هي التي يحسن الغربي فهمها جيداً،ويخشى أثقالها، ولا يروق لصاحب الصحيفة لتي نشرت تلك الرسوم أن يدفع مئات الآلاف من الدولارات وربما الملايين، تعويضاً للمسلمين على المساس بمعتقداتهم، ولكنني ضد التهديد بالقتل وإصدار الفتاوى بهدر الدم، وتذكرنا هذه الحادثة بكتاب (آيات شيطانية) لسلمان رشدي، ولولا أن عالماً إسلامياً ذا نفوذ أهدر دمه لما اهتم العالم بكتابه، بل سيطفو على سطح السيول من الكتب التي تقذف بها المطابع، ثم سرعان ما يختفي عن الرفوف. ونزيد على التذكير بكتابات الكثير الكثير من المستشرقين الحاقدين على العرب والمسلمين منذ قرون عديدة، ولأنه لم تكن أيامها وسائل الإعلام والاحتجاج، طوى النسيان تلك المؤلفات والإهمال، ولا وقت للغالبية العظمى من الناس للتفتيش والتنقيب عن أمثال تلك الحماقات، إلا من كان متقصداً وله أهداف يستطيع ربطها بحاضر مادي أو استعماري أو استغلالي.

الترجمة في دنيا المعرفة

تشير الإحصاءات في العالم العربي الى تراجع الكتاب المقروء وإلى وتراجع مستويات الترجمة، وسبق وأن عقدت ندوات واجتماعات حول الترجمة، ودور المترجم والناشر والداعم في هذا المجال.

على كل حال فتأثير الترجمة بدأ مبكراً في التاريخ العربي والفكر والسياسة: يقول محمد عابد الجابري في كتابه نحن والتراث-الطبعة الثانية صفحة 147 (لقد كانت حركة الترجمة في العهد العباسي الأول جزءا من تحرك سياسي اجتماعي ثقافي قامت به القوى النامية في المجتمع، القوى الحاكمة ذات الميول البرجوازية الليبرالية الارستقراطية، لقد كانت حاجة هذه القوى إلى الفلسفة والعلم والمنطق تمليها عليها حاجة المجتمع نحو مزيد من الهيكلية والتنظيم العقلانيين..... وبما أن الدين كان وما يزل يشكل الغطاء لأيديولوجي للمجتمع ككل، بل ولعملية التحول تلك نفسها، فلقد كان لا بد أن تنسحب الحاجة إلى العقلانية على الدين نفسه، الشيء الذي عبّر عنه المعتزلة بشعارهم "العقل قبل ورود السمع"، وعبر عنه الفارابي ب "مافي الدين من مثالات لما في الفلسفة" وواجب المثقفين الذين يطالبون بحرية التعبير والكلمة أن يعملوا ليل نهار على جسر الهوة بين مطالب التراث والأصولية وبين مطالب التحضر والعيش العصري، دون صراعات تغتذي بالعنف والعنف المضاد، حتى يصبح لشخصيتنا البروز الواضح، ومن ثم نتمكن من الوقوف أمام الآخر بشكل مقنع يبرز حقنا في حياة متنامية وفكر متواصل بمنطقية مع مقتضيات العصر. "وحتى يصبح الدين بالفعل، دين الجميع- لا ديناً تركبه جماعة ضد جماعة- وبالتالي تصبح الدولة دولة الجميع"

الصحافة وحرية التعبير:

أن إتاحة المعلومة للصحفي توضح الحقائق، لكن عملية التعتيم على المعلومة تعطي الصحفي مجالا للاجتهاد. وتحتاج وسائل الإعلام الحرة والمستقلة لأن توفر الحكومات بيئة تتسم بالشفافية والتنظيم، وتوزيع متساو لذبذبات البث، وفرص لجميع أجزاء المجتمع للإطلاع على وسائل الإعلام والمساهمة بها في القول والفعل والتعبير شفوياً وكتابةً. والضابط هو القانون والمحاكم وليس ترهيب الكاتب أو تعذيبه ولا الخطوط الحمراء المعلنة أو الدفينة. ونتساءل أيهما الأقوى أهي الكلمة الحرة أم القوة والتسلط والسجون والقيود واستباحة جسد الإنسان، وهل حقاً كما قال أحدهم (إن الكلمة ظالمة والسيف عادل؟)

وبالمقابل أسأل هل كان في يوم ما وفي مكان ما أي أثر فعال للكلمة الصادقة وحرية التعبير أي تأثير على أي نظام أو غيرت واقعاً ما؟ وللاستدراك أرى أن أستثني حالتين في التاريخ، وهاتان الحالتان كما أعتقد هما في حالة الثورة الفرنسية، حيث سبق وهيأ الفلاسفة والأدباء والمفكرون الشارع لما حدث.
والحالة الثانية هي تأثير كتاب الحركة الصهاينة ومفكروها، إذ لم يقتصر تأثيرهم على اليهود وحدهم، بل صدق العالم وما زال مقتنعاً بحق الشعب المختار حسب مقولة (شعب بلا أرض لأرض بلا شعب)، وأن فلسطين هي أرض الميعاد التي وعد الله اليهود بها.

أبلغني واحد من أهل الفكر والعلم قائلاً:

وشهادة حق أحب أن أنوّه أنه لم يحدث في الأردن حسب علمنا قتل أو إعدامات جماعية ولا فردية، أو حتى متابعة قاسية حسب علمنا لمعارضين أو مفكرين عبروا عن آرائهم ببعض من حرية أو في مناسبات عابرة، بينما نقرأ ونسمع أن معظم أصحاب الرأي مضطهدون أو مسجونون أو معذبون أو مشردون في بلاد العرب كلها. والصحفيون أكثر الأفراد تعرضاً للاضطهاد.
ومع ذلك تقول الدكتورة عيدة المطلق في مقال نشر لها حديثاً (شهدت السنوات الخمس الأخيرة أعنف موجات انتهاك لحرية الصحافة والرأي والتعبير في العالم أجمع، إلا أنه ربما تكون المنطقة العربية الأسوأ، سواء كانت هذه الانتهاكات من قبل النظم المستبدة أو من الظلم الوافد)

ويضيف «أن إتاحة المعلومة مصلحة مشتركة للصحفي والمسؤول والمواطن، حيث يعمل الأول على إبراز الحقائق دون تأليف، وتبعد الثاني عن الاتهام والتشكيك، ويطلع الرأي العام على الوقائع دون تحريف أوتشويه».

ويمنح مشروع القانون الصحفي الحق في الحصول على المعلومات والأخبار والإحصاءات التي تهم المواطنين من مصادرها المختلفة وذلك بهدف تحليلها وتداولها ونشرها والتعليق عليها، كما يوجب هذا القانون على جميع الجهات الرسمية والمؤسسات العامة تسهيل مهمة الصحفي وطالب الحصول على المعلومة خلال مدة زمنية محددة.

اما الصحفي والمدير العام لدار الصباح للنشر عرفات حجازي فيرى أن مسيرة الدول الديمقراطية لا تكتمل إلا بقانون يسهل الحصول على المعلومات، ويقول «أن قانون ضمان حق الحصول على المعلومات تشريع دولي لا تكتمل الديمقراطية إلا به».

شهد العام 2005 عددا كبيرا من حوادث انتهاك حرية الصحافة ومحاولات إعاقة الإعلامي وتهديده بسبب أدائه مهمته في نشر الحقيقة، كما تعرض إعلاميون للاغتيال وآخرون للاعتداء بالضرب والاعتقال القسري في بلاد عربية وغربية.
وفي 22 نوفمبر/ تشرين الثاني تنشر صحيفة الديلي ميرور البريطانية مذكرة بالغة السرية تضمنت اقتراحا للرئيس الأميركي جورج بوش بقصف مقر قناة الجزيرة في قطر، وذلك في محضر حديث جرى بين بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير. وأشير إلى ما يسمى ب(علقة أحمد منصور) في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2005 تعرض أحمد منصور من العاملين في محطة الجزيرة الفضائية لاعتداء بالضرب بينما كان واقفا قرب مكتب الجزيرة في القاهرة، وتعرض عدد آخر غيره ومصورون لمضايقات خلال تغطية الانتخابات البرلمانية المصرية في نوفمبر/ تشرين الثاني.

ولا نريد أن نأتي بالأمثلة عن أدباء فلسطين تحت الاحتلال ولا الصحافيين هناك، فهي ملء أسماعنا بل حواسنا الخمس
وحوادث اعتداء أوضرب أوإهانة أوتوقيف أو حبس حصلت في تونس واليمن وسوريا وليبيا والكويت
وقرأنا كتابات حول قانون حرية الصحافة الأردني، إن إتاحة المعلومات للصحافة مصلحة مشتركة للمسئول والمواطن، والديمقراطية تتطلب شفافية ومرجعية قانونية.

ويصف العمل الصحفي في الوقت الراهن وفي غياب مثل هذا القانون بأنه «عمل في الظلام"

ان حرية التعبير عن الرأي يجب ان تكون ضوابطها نابعة من القانون لا من أهواء شخصية أو رغبات خاصة والقانون الذي يضبط حرية التعبير عن الرأي يجب ان يكون قانونا عادلا غير منحاز لجهة أو طرف ولا يخدم مصالح خاصة اما بالنسبة لاستخدام الانترنت فانه أمر شخصي لا ينبغي وضع القيود عليه بل يجب رفع مستوى الوعي لدى المستخدمين من أجل استخدامها بشكل مفيد ومجدي

حرية التعبير والسياسة:

لطالما سمعنا المقولة العربية التي تقول: (الناس على دين ملوكهم) ولاشك أن كلاً منا سيتساءل عن مغزى هذه المقولة وأبعادها، هل هي خاصة بالمجتمع العربي فقط، أم قالها حكيم لتعنى العمومية في كل زمان ومكان، وهل لهذه المقولة جذور في أديان وأدبيات وحضارات الآخر. وإن تجاوزنا هذه المقولة، لنرى كيف يعاملنا الغير إن اخترنا ما يلزمنا بحريتنا أو رفعنا أصواتنا بحاجتنا،

مرة أخرى لا يمكن أن يعاب على العرب تأخرهم في مجال التعبير الحر بحسب تقارير التنمية الشهيرة ويعاقبوا على ممارسة حقهم في التعبير في الآن معا. أو أن يطلب منهم أن يعبروا كما يشتهي الآخرون.فكيف يكون التعبير حرا إذا ما كان مشروطا بمقابلة فلان والامتناع عن مقابلة علان. وحجب هذا الخبر ونشر ذاك والنطق بهذا الرأي وعدم النطق بذاك.

هل لجم الكلمة توقف التهيّج؟ فالمسكوت عنه بين ثنايا المفردات قد يكون سلك التفجر، (والمعنى في بطن الشاعر) كما يقولون، والشاعر التونسي محي الدين خريف يقول:

عندما يستفيق الصباح ترى حاملات
الهدايا يوزعنها
فرحات على كل طفل بكى أو تضوّر يدعو
أباه الذي
غاب عن قلبه في المتاهات منذ تصاعد
في الأفق
سور الظلام فهذا بقايا حطام
ولذلك بارودة أو قذيفة
وعلى كل صدر تعرض للريح ألف وسام

وقد يسيطر فعل الكتابة على حرية المنشئ وينشغل بوصول الرسالة أكثر من احتفائه بالرسالة نفسها، لا سيما إذا أجريت اللغة على نحو قريب من المألوف، كما في قول الشاعر أحمد القديري - من المغرب العربي- حيث يقول:

الأرض تحتكم كالمومس العجوز

لا خصب، لا حياة، لا رجاء

كقطة تموت في الشتاء.

والتركيز هنا على صورة المومس وقد فقدت نضارتها تحت أقدام الموسرين الجشعين في مجتمع الاستغلال واستباحة كرامة الإنسان، الأرض تحتكم كالمومس العجوز، يوئسها العقم والموت واليأس، لا خصب لا حياة لا رجاء، والمعنى يتوالد ويتزايد في بطن الأديب الكاتب أو الشاعر حين تحدّ حريته في التعبير، بل يزداد تأثير التعبير عن إحساسه بعمق أكثر، وتصبح كلماته مسارب وطرقاً سالكة أو شائكة يتتبعها العارفون، وقاصدو الثراء الفكري الإنساني.
ومثال آخر عن تمكن الكاتب الشاعر قول ما يريد أدبياً وفلسفيا واجتماعيا وحتى سياسياً مشاركا أو معارضا، يقول سعد الدين شاهين من الأردن في قصيدة له من ديوانه (عطش النرجسات)

أتلهى ببعض بيت من الشعر
وأطلب من غفلتي أن تعيد حوار النجوم
لعهد القبيلة
لست أدري.. أيأذن لي سيدي
أن أمرّ على ذكره كلما عنّ لي خاطر
أن أكون؟

وأين المعتزلة؟ بل وأين ابن خلدون ونظرياته في الاسكان والحكام والمكان؟ ولماذا لم يؤثر الكواكبي في العرب، وأين الجابري، والهويدي وعبد الناصر، ثم محمد حسنين هيكل ومنذ ما يزيد عن نصف قرن وهو يحاول أن ينشئ للكلمة تأثيراً على الجمع العربي، وأين أم كلثوم وفيروز وشوارع القدس العتيقة، وأين عندك بحرية يا ريس وملحم بركات.

حرية التعبير والعولمة: وبالمناسبة فإنني لا أتفق مع الناس الذين يخشون العولمة، فنحن أمة ذات جذور ضاربة في التاريخ، ولنا الكثير من الركام التراثية، بل أعتقد بأننا بحاجة إلى العولمة والانفتاح على الآخر حتى لانظل في قوقعة التراث المتجمد الجنوبي، ولست دارساً ولا متعمقاً في أي مذهب ديني أو طائفي أو حزبي، ولكنني مخلص للثقافية المحلية أولاً ثم القومية، وممارستنا لحريتنا في الفكر والتعبير فإننا نعمل على صهر الثقافات المحلية والقومية والفردية والطائفية والخارجية في قدور كتابتنا وكلامنا، فكيف نحمي حريتنا في التعبير ونكرسها لخدمة أفكارنا ومعتقداتنا وطموحاتنا وحاجات أمتنا

1- وقف القيود على حرية الإبداع وذلك بعملنا على كسب ثقة المحيط الاجتماعي والسياسي بتجنب التشنج، والحرص على الشفافية في التعبير الحرّ عن قناعة واقتدار
2- التفاعل مع الثقافة الموروثة بروح العصر، مع مراعاة المحلية ومعرفة والتحرك في الحدود المتاحة، والتدرج بالمطالبة بتوسيع الهوامش دون توان.
3- ككتاب وأدباء علينا عبء كبير، فلا بد من مسح ثقافة الإحباط من نفوسنا ونفوس من هم حولنا، وعلينا أيضاً محاولة نقد الذات، وإبراز خصائص ونقائص الشخصية العربية.
4- فتح الأبواب المعرفية أمام القارئ والمستمع والمشاهد، وإن أمكن فسح المجال أمام الحوارات والنقاش والتحليل.
5- الاعتراف بالآخر استماعاً وقراءة وحواراً وتفهماً ومعارضة ومقارعة الحجة بالحجة. والعرب كانوا مصدر إشعاع ثقافي حضاري لقرون طويلة، وتفاعلت الثقافة العربية مع كل الثقافات بل تبنت وعدلت واستوردت وعوربت الكثير الكثير من تلك الثقافات بل حاولت تجنب رفض الآخر أو ألغائه أو الصدام مع ثقافاته.
6- الوقوف بجانب المبدع الحقيقي ودعم حريته في التعبير عن نفسه، ولنحارب جميعاً من أجل دعم النشر والتأليف، ودعم كتابات الشباب الواعدة من الجنسين، وفي كل المناطق والمواقع، لا حصر ذلك في العاصمة والمدن الكبرى.
7- القراءة وتجديد الفكر، ومطالعة المترجم من الثقافات الأجنبية وآدابها وترجمتها ونشرها ما أمكن واستيعابها
8- مشاركة المرأة في التنمية الثقافية، بتفهّمها وفسح الفرصة لها لتتبوأ بقدراتها المكانة اللائقة بها، مساوية للرجل أو حتى قبول تقدمها على الرجل إن كانت مؤهلة، وأرى أن المرأة الأردنية خطت خطوات واسعة في إعطاء المرأة دوراً نفتخر به، وذلك بدعمها رسمياً ومؤسسياً واجتماعياً وقبولاً، وهنا لا أجرؤ أن أجهر بالقول أنني ضد النقاب وحتى الحجاب إن كان مفروضاً من والد أو زوج أو أخ أو أسرة، وأعجب كيف تقبل امرأة مثقفة تثق بنفسها أن ينظر لها على أنها ليست أمينة على نفسها، وحمايتها من التطفل والإغواء تأتي بالنقاب ولست بصدد إثارة إشكالية ، لكن ما دمنا في بحر حرية الكلمة فسامحوني على الجهر برأيي. وفي الختام

أرى أن حرية التعبير عامل أساسي للرقى الحضاري للأمم، وهي ضرورة تتناسب مع المدارك العقلية والنفسية للفرد، وهنا أتذكر صديقي العجوز إن كان ما زال حياً، أو (إنك ميت وإنهم لميتون).

عن تشيخوف

النص القصير بعنوان: " حكاية مهداة إلى ذبابة ما حمقاء تتباهى بعملها في الصحف ":

" ذبابة ما طارت في أرجاء الغرفة تتشدق بصوت مرتفع بأنها تعمل في الصحف. وأخذت تئز في الجو: " أنا كاتبة ! أنا صحفية ! أفسحوا الطريق أيها الجهلاء ! ". سمع البعوض، والصراصير، والبق، والبراغيث، أزيز الذبابة، وشعروا ناحيتها باحترام خاص، وأخذوا يدعونها إلى بيوتهم لتناول الغداء بل وراحوا يقرضونها الأموال، أما العنكبوت الذي يخشى الظهور علنا، فقد انزوي في ركن وقرر ألا يلوح أمام عيني الذبابة.. واستفسرت البعوضة – التي تتمتع بجرأة أكبر – من الذبابة:

في أي صحف تكتبين يا ذبابة ايفانوفنا؟
تقريبا في كل الصحف ! حتى أن هناك بعض الجرائد التي أضفي عليها بدوري الشخصي صبغتها العامة ونبرتها بل وحتى اتجاهها ! ومن دوني لفقدت صحف كثيرة طابعها المميز!
وما الذي تكتبينه في الصحف يا ذبابة إيفانوفنا؟
أنا أترأس هناك قسما خاصا..
أي قسم؟

نعم.. أي قسم ! وأشارت الذبابة الكاتبة إلى بقع كثيرة من وسخ الذباب على سطح ورقة جريدة! "
عند هذا الحد ينتهي النص الذي تشوبه روح السخرية التي رافقت إبداع تشيخوف المبكر، ثم تبددت مع السنوات. كان تشيخوف يقدر كتابا مثل تولستوي، وجوركي، وعندما أصدر القيصر في 10 مارس 1902 قرارا بوقف اختيار جوركي عضوا فخريا في أكاديمية العلوم الروسية، كتب تشيخوف خطابا إلى القيصر يطلب فيه الإذن من صاحب السمو بإعفائه هو أيضا من العضوية الفخرية احتجاجا على الموقف من مكسيم جوركي. وكانت كراهية تشيخوف لكل من يجعل نفسه بوقا للحكام والحكم واضحة، ولهذا كتب عن أهمية شعور الكاتب بحريته الباطنية قائلا: " إنني أكره الكذب والسلطة في كل صورهما.. وليس لدي مقدسات سوى الجسد البشري والصحة والعقل والموهبة والحماسة والحب والحرية المطلقة والتحرر من الكذب والسلطة معا فكل منهما يعبر عن الآخر

 [1]


[1

نفس المصدر السابق (الدستور صفحة 39 في 18/4/2006
 
نشر في صحيفة (الرأي) الأردنية بتاريخ 21 نيسان 2006
 
جريدة الدستور صفحة 39 والصادرة يوم الثلااء الموافق 18 نيسان 2006
 
من بدوانه (مدن معبد – نشر ابن عبد الله 1989
 
ديوان (عطش النرجسات) للشاعر الأردني سعد الدين شاهين –الناشر دار الكرمل - عمان 2001

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى