الأربعاء ٢١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

امرأة ملتبسة

أمام المرآة المُضبَّبة بندى صباح فاتر، وفي كنف صوت (ديناشور) العذب، راحتْ تتذكّر طفولتَها لمّا كانتْ طفلا يلعبُ مع الأطفال ألعابَهم البريئة.

كان ذلك قبل ثلاثين سنة. وها هي كلمات الأغنية الرقيقة تطوي بحنانها الزمن الغادر، وتنقلها برعشة موسيقى إلى صورتها الأولى...

ودار بخلدها أنّ آلة السفر عبر الزمن التي يحلم بابتكارها جمهور الفيزيائيين ليست ولن تكون سوى الموسيقى الحالمة.

وهي أمام المرآة، وما تبدّد من على سطحها الناعم، الندى الديسمبري، تذكّرتْ اليوم الذي فيه تعرّضتْ إلى أوّل تحرّش جنسي.

صحيح أنّ المتحرّش كان طفلا مثلها، ولكنّ فعلتَه كانت بالنسبة لها مثل صدمة أخرجتْها من وجود إلى آخر. وهي في هذا الصباح الشاعري البارد، غير حاقدة على ذلك الصبيّ. بل إنّ ابتسامة تواطؤ قديم ندّت عنها؛ فلولا ذلك التحرّش البريء، ما فاضت الأنوثة عن جسدها وغمرتْ عقلَها وتفكيرها.

 أليس الأمر عجيبا أن تجيء الأنوثة دفعة واحدة على إثر مداعبة طفل؟

قالت لنفسها، ثم شدّتْ حمّالتيْ الصدر على صدرها الجديد، وقالت لصورتها في المرآة:

 من أنتِ ـ بالضبط ـ يا جواد؟

ثم مرّرتْ يداً خشنة على وجهٍ حَرِش، وندّتْ عنها تنهيدةٌ عامرةٌ بالحزن.

 عَلامَ تأسفين يا جواد؟ هل على المال أم على الرجال أم على وضعكِ المُلتبس؟

ثم تناولتْ موسى الحلاقة وشرعتْ تحزُّ من جذره الزغبَ الذكوري اللعين.

كانتِ الأمور ستكونُ عادية ومن دون ألم لولا مقالب الزمن.

قالت لنفسها. وتناولتْ ال(أبري شيف) الفرنسي المعطّر، ودعكتْ به بشرة وجهها. ثم التقطتْ من علبة التجميل، ملقاطا صغيرا وراحت تنتف الشعر العصي من تحت حاجبيها حتى صار الحاجبان في رقة وجمال هلال آخر الشهر. وعادتْ إلى رأسها تجتث منه الشيب المبتوت.

فجأة، رنّ مِهتافُها المحمول وراحت تكلّمُ شخصا من الذكور على الأرجح، إذ كانتْ تكلّمُه بكامل أنوثتها.

كانتْ تقول له:

 طبعاً لم أنسَ موعد الغذاء... انتظرني بالقرب من صالون الحلاقة الذي أعمل فيه...

ثم أضافت:

 حاذر ألا تلحظكَ مادام (جوزيفين) ربّة الصالون !

وكانت ـ على ما يبدو ـ سعيدة بموعدها، إذ عادت إلى وجهها تحمِّرهُ بمسحوق تجميل في لون (الأنتوسيان)، ورشّتْ على عنقها عطرا استوردته لها (جوزيفين) من فرنسا، وبهذا الصنيع، ومضَ في عينيها اللوزيتين الغارقتين في الكحل والزرقة، شعاعُ مكر لا هو نسائي ولا هو رجالي.

ولمّا بلغتْ (ديناشور) المقطع الذي يتغنّى بالطفولة وعلاقتها بالأمومة، حزنتْ عيناها من جديد.

وتجلّتْ لها في المرآة صورتُها لمّا كانتْ صبيّاً على وشك أن تستعمره مشاعر الأنوثة. ذلك الصبي الذي واتته الجرأة ليقول لنفسه (أنا أنثى في قفص)، يوم شعر بأنه سجينُ جسد ليس له وبأنّه أحد ضحايا نزوات الطبيعة.

الآن اسمه (جنان) بجبروت الهرمونات الأنثوية المتدفقة من خصيتيها الشاذتين. (جنان) المرأة الملتبسة.

(جنان) اليوم، أو (جواد) بالأمس؛ صحيح أن للطبيعة مكرها !

وهي اليوم غير قادرة على الإنجاب لأن الطبيعة لم تسعفها برحم، ولكن في مقدورها أن تتزوج وتتبنى طفلا أو طفلة.

ورنَّ مِهتافها من جديد:

 أوكي مدام جوزيفين! ... لن أتأخر دقيقة واحدة...معذرة.

وقبل أن تنصرف، ألقتْ نظرة أخيرة على وجه المرآة، ثم رمتْ على كتفيها العريضين معطفها الجلّناري، واحتذتْ حذاءيها الأحمرين وسحبتْ حقيبة يدها من على منضدة غرفة نومها، وهرولت إلى باب شقتها لتفتحه ثم تغلقه بعنف...

وما علمتْ أنّ المرآة التي تركتْ عليها صورتها قدْ تهشّمتْ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى