الجمعة ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم جودت جورج عيد

بـهـلـوان مـيـرا

بهلوان... الحركة لا تنتهي والأبعاد لا تنتهي! يقفز بدون شبكة أمان وبدون أي ضمان، في مغامرة يومية تبدأ كل صباح من تلك الصّباحات الرتيبة والعاديّة التي تتسكع في شوارع التعريفات التي، أيضا، لا تنتهي وفي مقاهي الأرصفة التي تنسج حكايات عن ناس وناس مضوا ويمضون... بهلوان يمارس النزق والكيان، يمارس الشبق، يمارس الهذيان ويقفز بحذر في الهواء عاليا ويطير! رغبة جامحة تجتاح وحدتي لمعايشة هذا البهلوان الذي يعشّش في ذاتي المنصهرة مع ضجيج الشارع المزدحم الذي يحملني ويحمل كل الناس إلى الطرف الآخر بحثا عن الرزق!

تمتد المسافة بين بيتي في الناصرة وبين عملي الجزئي في ملبّس/ بيتاح تيكفا وتحملني إلى ألوان الشارع والحقول الممتدة من حولي والاختناقات المرورية ورائحة القش المحروق في بساتين القرى العربية المترامية على جانبي الطريق السريع والجفاف يشقق وجه الأرض ليختلط بالدخان... ليحجب الرؤية، فتجدني أدخل ذلك المشهد الصباحي وبرفقتي صوتٌ يملأ فراغ السيارة ويحاول مراوغة الموسيقى والكلمات ليستقر في لولبيات أذني... في لولبيات نهاري الذي يبدأ في ذلك الشارع حتى وصولي إلى ملبّس! كما قالوا لي هكذا كانت تسمى مدينة / بيتاح تيكفا، مع أنني، حاولت عبثا، أن أجد معالم ملبّس وراء البنايات والورش والدكاكين والمطاعم الكثيرة والأبنية الصناعية والتجارية، لكني بالكاد أرى السماء هناك وأزهار الزينة التي تزين بعض المفترقات ومداخل البنايات الحديثة، وأجد ملامح الوجع الدفين المنسي فينا والواقع الذي نعيشه بكل إصرار وبكل ثقة رغم كل المصاعب التي يواجهها بهلوانٌ يقفز بذكاء وبمغامرة ليجعل اللحظة مقدسة في صراع البقاء فوق (الحبال المشدودة).

الموسيقى جذابة، في هذه المجموعة الجديدة من الأغاني تحت عنوان بهلوان، وتثير الخلايا النائمة في خضم الأفكار المشتتة، وصوت ميرا عوض يدعوك إلى الانتظار قليلا والتريث حتى انتهاء المطر! تيمرق الشتا ويبطل في غيوم تخبّي السما ردّلك جواب! أين الإجابات في دوامة الاستفهام الملبدة بالغيوم؟ فأنا أحب المطر كما الزهر وكما الأطفال عند مشارف الشتاء وأجدني أنتظر انتهاء المطر المنتظر! وأصلّي له وأراوغه في طقوسي المزركشة لأن ينتهي، لتظهر السماء وأجد الإجابة، لكن الآن، لا تسألني ولا تستعجل لأن الشمس عم تتركني بكير، لمَ العجلة؟ في بستان يفوح منه عطر رومانسي يجتاح حالة الاكتظاظ الذاتي! أتريَّث قليلا... وأجدني أنتظر المطر بشغف! وأحلم بطوفان يعبق برائحة الأرض والحواكير والورد! ليتغلغل معالمَ الوجع والواقع لكل إنسان في هذا الوطن، ليجد لنفسه حيزًا على الخارطة اليومية في محيط يمحو كل شيء من ثقافتنا، في ذاك الاكتظاظ المحيطي في نهاراتنا اللاهثة نحو الغد والى ما بعد الغد! وصوت ميرا كأنه صدى الجبال المنسيّة الدّفينة تحت تراكم التاريخ أو كأنَّه حكاية يحملها الموج إلى الميناء لتتفجَّر وتمارس مواجهة الواقع حتى وإن كانت هناك غيمة مغطيّة القمر الليلة وأنت أكيد تعبان...، أعجبتني الموسيقى في انسيابها، في تمرّدها بمداخلات فنية للآلات الموسيقية المختلفة وفي انسجامها مع الكلمة والصوت، لتعبِّر عن نزواتي، انكساراتي وانتصاراتي من خلال رومانسية اللحن والمضمون لأكون ال- أنا ولأكون ال- إنسان!

بتدوّر عن الراحة... أي راحة والناس تعبانة والناس بعيدة والناس وحيدة، نتعب من الاغتراب في الوطن ونتعب من البحث عن التعريفات وعن جوازات السفر ما بين الحدود وعن تصاريح الدخول أو (ممنوع الدخول) في مدارات الزمكان والكيان والجندريَّة... ونكون!

يستوقفني التنوّع في هذه المجموعة، الذي يعرض بالأساس حالات عاطفية وترى من خلاله حالات اجتماعية عديدة والتي تقدم دعوة جديدة، من خلال هذا الإنتاج، من ناحية المضمون والموسيقى والصوت الذي يفرض ذاته في غياهب الغياب الثقافي، فنجد لحظات من التمرد ونجد مَواطن فرح وإبداع إلى جانب بعض مَواطن الضعف في بعض المقطوعات، إذ قد تكون بعضها خالية من الموسيقى والكلمة الشعرية وهناك بعضها، والتي أسرتني، فهي حالة ذكية جدا، شفافة سهلة تعتمد اللهجة الفلسطينية العاميّة التي تتحدث بلغتي البسيطة والتلقائية وتحمل رموزا حياتية عاديّة دون تصنّع، بحيث تمثّل هذه اللهجة شريحة كاملة منسيّة. إننا نحن هذا التنوع، في اللحن وفي التجديد الذي يحمل زهرة من بستان الثقافات العديدة التي نزاولها، رغم الشوائب والمصاعب، فقد استطعنا بلورة ثقافة من خلال تثاقفنا مع الآخر وبالاحتفاظ بعناصر أساسية تميز ثقافتنا العربية الفلسطينية. هناك شيء جذاب في هذا التَّثاقف مما يجسر بين الشعوب ويجعل السلام أغنية جميلة، فنجد في هذه المجموعة الكلمة في اللهجة الفلسطينية العامية ونجد الكلمة في اللهجة العربية الفصحى ونجد الأغاني في اللغة الانجليزية مشتركة مع العربية والأغاني في العبرية مشتركة مع العربية وهنا أشعر بقوة ثقافتنا في التداخل الفني مع كل هذه الثقافات دون الخوف من الانحلال أو الانصهار، إنما الإثراء المتبادل. ليشكل جزءًا من ثقافة شعب صامد يعيد لملمة ذاته.

هناك دعوة للخروج من قولبات، فُرضت أم لا، ودعوة للتغيير بشكل غير مباشر، دعوة للابتكار، فنحن نملك القدرة والجرأة... ككيان ولد بشكل غير عادي في ظروف تراجيدية ويعيش بشكل غير عادي في ظروف غير منطقية. بهلوان ميرا يطرح حالة نعيشها كفرد، كمواطن وكشتات، بكل الجوانب الحياتية في صراع البقاء لمجتمع يفرض حضوره شيئا فشيئا فينا فنجدنا نحاول بلورة معالمَ أنفسنا ليكون لنا حيّزا مميزًا. نحن الصامدون في كل حالات الطقس، نعيش الواقع ونحاول النهوض في زمن الإحباط الفكري والإجهاض السياسي المجتمعي، نجد أنفسنا أمام واقع عاصف يحتّم المواجهة والنجاة، كالفينيق نقوم من الرماد لنطلق للريح أجنحتنا الأسطورية ونحاول إيجاد معايير تخصّنا في خضم بلورةٍ لمرجعية وانتماء.

أجد الأغنية في هذه المجموعة تعكس صورَنا من خلال ديباجة تتركب من عدة هويات دون الدخول في متاهات التعريفات والضياع، بل ممارسة الواقع بجرأة وبفخر بما نحمل من ثقافة وتاريخ وعراقة وفرض حضورنا دون تردد، لأن المحيط قد لا يمنحنا فرصة لنكون كما نحن، إنما كما يريده المحيط هذا أو ذاك، ويدخلنا في قضايا ليست بالضرورة واقعيّة أو تخصنا، بالذات في ظل غياب قيادة وبوصلة وثوابتَ واضحة.

إن هذا الإنتاج، مثل بعض الأعمال الثقافية المحلية مؤخرا، يظهر بأننا حالة ممكنة من الإبداع ولنا ثقافتنا وفكرنا وتميزنا كأقلية في البلاد وكمجتمع له رواية خاصة ويعتمد فكرًا فنيًّا ثقافيًا يتماشى مع تجربته وصراعه وبفخر!

بهلوان هو أنتَ وأنا وأنتِ وهي وهو وكلنا... هو الإنسان الباقي الذي يعيش مغامرة تلوَ الأخرى!

أشكرك ميرا لهذه المشاركة التي وضعت نقطة أخرى في صورة ملامح وجهنا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى