الثلاثاء ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم مروان نزيه مخّول

عن نملة

هيَ المرآةُ، مَن تحملُ سِرَّكَ عندما تقفُ أمامَها كما أنتَ، خاليًا مِن كلِّ ما هو ثانويٌّ سوى ذاتِكَ، ومع هذا، تُحبُّكَ جدًّا هذهِ المرآةُ.

اُنظرْ، ها أنتَ تقفُ أمامَها وعلى مرمى مِن نفسِكَ؛ معجَبًا بما توفّرَ لديكَ بقصدٍ أو بغيرِهِ، قنوعٌ وماكرٌ، ترى ماضيكَ لتضحكَ عليه، كَونهُ يسافرُ إلى ما الوراء بلا سببٍ مُقْنِعٍ، تملُّ منِ السخرية فتبكي عليه. تكتشفُ مِن ملامحِكَ الجديدةِ أنّكَ ككلِّ الرّجالِ؛ تُزاولُ عملَكَ بما أوتيتَ مِن شُحناتِ الشّمسِ السّالبةِ، فتبدو كأبيكَ، ويُقال عنكَ أنّكَ رائعٌ أيّها المثاليُّ الحديث، وأنّكَ كالنّملةِ مجتهدٌ، تحملُ المغزى إلى المعنى، وتطمعُ في التّواضُعِ مِن حيثُ لا تأتي الصِّفاتْ.

أيْ أنّكَ تستظلُّ بحبّةِ القمح الّتي على ظهرِكَ، كي تُجيزَ لنفسِكَ المشيَ معَ العمّالِ، في مظاهرةِ الأوّلِ مِن أيّار، بلا فارقٍ طبقيٍّ، أو حَقودٍ، يتربّص بكَ خلفَ رصيفِ غلطةٍ ساذجة.
اُنظرْ في المرآةِ.. لا تعجبْ أكثرَ مِن لزومِكَ فيما ترى مِن عباءةِ الجسدِ.

صحيحٌ أنّكَ ذو عينَيْنِ خضراويْنِ كالنّهرِ، تعزّزانِ فيكَ الثّقةَ، لكنّكَ على غيرِ عِلمٍ بأنَّ ما يولدُ معك ليسَ مِن فضلِكَ، بل هي هبةُ الملامحِ لأهلِ الجليلِ الغربيِّ لا أكثر.

حدّقْ أعلى مِن حالةِ الفرحِ المشبوهِ، علّكَ تَصعدُ إلى سفحِ السُّموِّ الواقعيِّ، أعلى؛ بمعنى أن تُطلَّ إلى أسفلٍ ضائعٍ في نواحي الصّراحةِ؛ تكتشفُ الطّمأنينةَ في ذاكَ المستقبلِ الحاضرِ، وإن كانَ غائبًا عن الماضي البهيميِّ؛ مستقبلٌ يَضمنُهُ لكَ التّأمينُ الوطنيُّ الّذي بفضلِهِ سيتأخّرُ المشيبُ عن رأسِكَ قدْرَ شعرةٍ، ويَضمنُ أشياءَ أغلى، كالمعنويّات!

ما أسعدَك!

تظنُّ نفسَكَ مسرورًا، وأنَّ البلوغَ سيتخلّفُ عن موعدِهِ اللّئيمِ معَك، هكذا تظنُّ نفسَكَ قد نجوْتَ مِنَ القلقِ الطّبيعيِّ بشأنِ الشّيخوخةِ التي تطرقُ بابَ السّنين خائفةً، عليكَ من نفْسِها.

أعرفُ أنّكَ تسكنُ في مكانٍ جميلٍ، وأنّكَ تستطيعُ في كلِّ صباحٍ كهذا، أنْ تنظرَ إلى مشهدِ الغروبِ الّذي يُزيّنُ صورةَ العائلةِ المُعلَّقةِ على رفِّ الذّكرياتِ، لكنّكَ لا ترى دُودةَ الخوفِ تنخرُ الحائطَ المهزوز.

لا أُنكرُ أنّكَ محظوظٌ، بل وأنّ لكَ والدَيْنِ على قيدِ السّلامةِ، راضييْنِ عنْكَ كما أنتَ؛ معافًى مِن مرضٍ وراثيٍّ أصابَ أخاكَ عام 78 وأهملَك..

اُنظرْ أيُّها المغرورُ في الشّبعِ؛ هل تكتفي بكوْنِكَ مُثقّفًا؛ تتيحُ لنفسِكَ أن تكونَ ذا موقفٍ شجاعٍ في كلِّ شيءٍ، كالسّياسةِ المحلّيّةِ، سدى؟

أعرفُ بأنّكَ تنفشُ ريشَكَ على كلِّ فضاءٍ مُتاحٍ، وأنّكَ نفسُهُ الّذي كتَبَ نثرًا عن سيّارةِ الإسعافِ، الّتي تأخّرتْ عن نجدةِ الفِلسطينيّينَ لأسبابٍ سماويّةٍ وإيديولوجيّةٍ، كالوعيِ الجماعيِّ على قارعةِ الوحدةِ الوطنيّةِ، الثّابتةِ في كذبةِ الأوّلِ مِن نيسان، والبَهدلة.

لديّ أمثالٌ عصريّةٌ، كهاتفِكَ النقّالِ ماركة "نوكيا" مثلاً، إنّهُ يُسعفُكَ أينما ذهبتَ، ليُغطّيَ أرضَ البرتقالِ الكئيبِ بالإرسال الخلويّ، الّذي تلتقي بواسطتِهِ بالحبيبةِ، بلا حاجةٍ إلى لقاءِ الشّفاهِ تحتَ نخلةٍ شاعريّةٍ ذبُلتْ في ديوان امرئ القيس.

اُنظرْ إلى نفسِكَ، لترى كم أنتَ جاهزٌ للجائزةِ في لعبةِ القدَرِ، ولتُطلَّ مِنَ النّافذةِ إلى ما توفَّرَ، فها هو شجرُ الحَور نابتٌ على ضفافِ وادي الحياةِ المجاورِ لبيتِكَ، والّذي نبَتَ خصّيصًا ليُؤكّدَ لك أنّكَ ابنُ الطّبيعةِ، بل ضيفها الّذي يقتنصُ مِن وحيِها ما يرغبُهُ مِن قصائدَ جديرةٍ بأنْ تَتفرَّعَ ترعًا، قبل الوصولِ إلى دلتا الأدب.

تمعّنْ كما تشاءُ، بثوبِكَ المُطرّزِ بالسّرورِ والتّخمةِ المرحليّيْنِ، علّك تظنّ أنّ الرّفاهيّةَ تَسكُنُ معَكَ، ولكنّكَ هنا، لا في مكانٍ خيّاليٍّ؛ في بيتِكَ المُكوّنِ مِن ثلاثةِ طوابق روحيّةٍ، تُطلُّ على سفحِ المدى المُلبّسِ بحجرِ نابلس النّادرِ، كالأنبياء والحجل.

اُنظرْ.. ها أنتَ ترى نفسَكَ مِن قريبٍ أو بعيدٍ، تحفظُ مُعلَّقةَ زُهيْرِ بن أبي سلمى عن ظهرِ قلبٍ، وتَحثُّ نفسَكَ على الشّعورِ بالكمالِ، لِما يَكفيكَ مِن طرفة بن العبد، وجان بول سارتر، والباهاماهاراتا، والشّاهنامه، وهاري بوتر، ومقدّمة ابن خلدون، وديوان آرثور رامبو، وليو تولستوي، فتغدو مُعقّدًا مِن كثرةِ الوفرةِ في سيكولوجيّةِ النّقصِ الحقيقيِّ.

أرجو ألاّ تفهمَني خطأً، الآنَ تحديدًا، سأُلحُّ عليكَ أن تنظرَ في المرآة بواقعيّةٍ مباشِرةٍ، علّكَ ترى هذهِ الرّاحةَ الحياتيّةَ غيرَ مدهشةٍ عمّا قليل، وحدك مَن سيكتشفُ فقدانَ الحياةِ الّتي هيَ نزهةٌ مؤقّتةٌ، قضيتَها تائهًا عن دربِكَ الثّكلى.

تأخّرتَ يا صديقي عليك، خصوصًا، عندما شغَلَكَ كلامي وتجاعيدُ الأمامِ الغامضِ، كثعلبٍ مدهوسٍ على الشّارعِ، فانحرفْتَ إلى رصيفِ الحقيقةِ سالمًا.

وحدهُ القدَرُ مَن سيختتمُ سيرتَكَ الذّاتيّةَ، عندما تُرهَنُ سيّارةُ خلودِكَ، لشاحنةٍ تُداهمُكَ بلا فراملَ، أو موعدٍ مع أيّةِ جنّةٍ وعدَتْكَ بتفّاحٍ وأنهارِ عسلٍ، تملأُ طاولةَ المطبخِ ذبابًا جائعًا وقناعة.
يقولُ بيتُ القصيد؛ ما أغبى مَن وَصَفَ الوردَ، ونسِيَ جمالاً طازجًا في الشّوكِ، ثلاثينَ عامًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى