الجمعة ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٢
مذكرات الاسيرة اللبنانية المحررة سهى بشارة
بقلم سهى بشارة

الحلقة الخامسة - الاجتياح

لم أحتفل يوماً بعيد ميلادي.

ولا سيما ذلك العيد الذي بلغتُ فيه الخامسة عشرة، فالخامس عشر من حزيران / يونيو، في العام 1982، لم يكن جديراً بأي احتفال، وكنا نعد العدة لمغادرة بيتنا في اتجاه منفى آخر في الجنوب. وكان أعدائي على مدى نظري: الإسرائيليون يعسكرون لدى بوابة مدينتي منتصرين.

كل شيء بدأ لأيام قليلة خلت في لندن. ففي ليل الثالث والرابع من حزيران / يونيو، تعرض الديبلوماسي الإسرائيلي المعتمد لدى بريطانيا، شلومو أرغوف، لاعتداء مسلح، وكانت إصابته بالغة. وللحال، اتهم الإسرائيليون منظمة التحرير الفلسطينية بأنها وراء العملية، على الرغم من أن المنظمة أدانتها وأنكرت أن يكون لرجالها أي صلة بها. وكما بات مألوفاً، ردت إسرائيل باعتداءات واسعة طاولت جنوب لبنان. وفي مقابل ذلك، عمدت منظمة التحرير الى قصف الجليل الأعلى. ولما كان لبنان مترئساً دورة مجلس الأمن، صدر عنه إعلان يدعو الفرقاء الى وقف إطلاق النار، غير أن الأمور جرت على العكس تماماً، إذ دخلت الدبابات الإسرائيلية بقيادة أرييل شارون الى بلادي في الخامس من شهر حزيران / يونيو وبدأت عملية ما سُمي "بسلامة الجليل".

في البدء، لم تكن أخبار الاجتياح الجديد لتُحدث أي ذعر لدى أهل بيروت. إذ كان السأم بلغ بنا حده، لأنه لم تكن المرة الأولى أو الأخيرة التي دخلت فيها إسرائيل الى الأراضي اللبنانية. وعلى الرغم من الوسائل غير الاعتيادية التي استخدمها المجتاحون، لم يشعرنا ذلك بالخطر الداهم. وكان ثمة يقين راسخ لدى أغلبية رجال السياسة اللبنانيين بأن الإسرائيليين يزمعون التقدم الى عمق الجنوب اللبناني لغاية تطهير الجيوب التي يشكّون في أنها مخابئ للمقاتلين الفلسطينيين، إلا أنهم سوف يرتدون الى ما وراء حدودهم، تاركين أمر حماية حدودهم للميليشيات التي تشكل لهم صمام الأمان.

مع ذلك، كان في بيروت الغربية أشخاص يتنبأون بأن الإسرائيليين سوف يقومون باجتياح كبير بغية تصفية حسابهم النهائي مع الفلسطينيين، وكان من بين هؤلاء المتنبئين الحزب الشيوعي اللبناني. فإذا الوقائع تثبت مخاوفهم وتوقعاتهم: ومضينا نشهد على مر الساعات الطويلة في ذلك النهار ما بدا لنا عصياً على التصديق. إذ رأينا جيش الدفاع الإسرائيلي يتخذ له مواقع ثم لا يلبث أن يتقدم. وأعانت تقدم القوات الإسرائيلية البرية قوات أُنزلت من السفن الحربية، فجعلت تحيط بالفدائيين وبحلفائهم القوات المشتركة. وقريباً من دير ميماس، سقطت قلعة الشقيف في أيدي هذه القوات المهاجمة. وانطلقت قوافل المدرعات شمالاً باتجاه بيروت، من دون أن تعالج بعض جيوب المقاومة في طريقها المظفر ذاك.

وأخذ المواطنون اللبنانيون من سكان بيروت الغربية، وقد تمالكوا أنفسهم، يعدون العدة لحصار محتمل، من دون أن يعوا حقيقة ما يجري. وكانت عمليات القصف المتبادل بين أحياء المنطقتين الغربية والشرقية ازدادت عنفاً وشراسة في الأشهر الأخيرة، فأجبرتنا على التعايش معها. غير أن حياتنا اليومية، بقدوم القوات الإسرائيلية، صارت لا تطاق. فُقدَ الخبز من الأسواق لأيام غير قليلة، وامتلأت المستشفيات بالمرضى المصابين، ولم تعد أعداد الممرضات كافية، وازداد النقص في الأسرة. وبإصرار من الصليب الأحمر عمدتُ مع بعض الأصدقاء في الإتحاد الى توزيع الإعانات على ذوي الحاجة من المهجرين الذين أُسكنوا على عجل في مدرسة مصادرة لهذه الغاية.

واشتد التوتر بل راح يزداد كلما تقدمت أرتال الدبابات الإسرائيلية واقتربت من العاصمة.

للمرة الأولى في حياتي أراني في مواجهة عدوي. وإذ غشيتني هذه الفكرة، صرت أترجح بين الخوف منه وتحديه. وفي حين كان سكان المدينة قد تواروا في الملاجئ، كنا نمضي، أنا ورفاقي. للعب بكرة السلة غير بعيد عن القذائف المتساقطة هنا وهناك. وكنت أبطئ الخطو كلما عمت الإستنفارات وفرغت الشوارع من الناس كلياً.

بدت المعركة، وعلى الرغم من كل الإستنفارات، غير متكافئة. ولم تدم الإشتباكات بين الفرق الإسرائيلية والقوات الفلسطينية واللبنانية المشتركة، إلا ساعات. إذاً، كان لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي أن تتقدم ساحقة على نحو لا يرحم ولئن بات هذا الجيش يتهدد الوجود العسكري السوري في لبنان، فإن المعارك التي توالت فصولها بين الطرفين سرعان ما رجحت كفة جيش الدفاع. ولما كان الطيران السوري قد مُني بخسائر فادحة في صفوفه، جعل يُخلي المجال الجوي عملياً، لطيران العدو. أما في المجال البري، فقد أُصيبت الفرق السورية المدرعة إصابات كبيرة فاندحرت. وفي الناحية الغربية، أغارت القوات الإسرائيلية على خلدة، وهي بوابة بيروت الجنوبية. غير أن الهجوم لم يسفر عن تقدم ظاهر لها. واشتد الضغط، وعبثاً تواصلت إعلانات وقف إطلاق النار على مدى الأيام في شهر حزيران / يونيو. أما جبل لبنان فكان عرضةً للقصف الثقيل من المدمرة الأميركية "نيوجرسي"، التي كانت ترسو في عرض البحر قبالة بيروت، بعد أن كلفتها واشنطن بمهمة الدعم في ساحة المعركة هذه. ولا شك أن هذا الدوي الهائل الذي ما برحت مدافع المدمرة تصدره كان جديداً علينا. ورحتُ أسائل نفسي: كيف يمكن للناس في الجبال أن يصمدوا حيال هذا الدوي المرعب والقاتل؟

وبعد حين، عمدت الفرق الإسرائيلية الى الإلتفاف على بيروت الغربية، فدخلت القطاع الشرقي منها، الذي كان تحت سيطرة الكتائبيين، من غير قتال. حتى إذا تمركزت هذه القوات على خطوط التماس القديمة، وصارت بيروت الغربية محاطة بما يشبه الكماشة، أنهالت القذائف من العيارات الثقيلة للغاية عليها، وشاركت كل قطاعات السلاح البرية والجوية والبحرية لدى العدو بالقصف. وكانت الأرض تزلزل تحت أقدامنا كلما سقطت قذيفة أو صاروخ متوسط المدى.

ولم يقبل الرابع عشر من حزيران / يونيو عشية مولدي حتى صرنا محاصرين عملياً.

وفي هذه الأثناء تولى عمي إبعادنا عن أجواء المعارك. ما دام يستحيل على والدي أن يغادر المكان في ظل هذه الظروف، كما يستحيل عليه أن يبقي عائلته في حال الخطر الحتمي. كذلك، رأيت والدتي أشد إصراراً على عدم البقاء. وكان الإسرائيليون رموا في ليل 27 و 28 من حزيران / يونيو بمناشير فوق بيروت الغربية، مخطرين الناس فيها، على نحو ما فعلوا في دير ميماس لسنوات خلت، بضرورة مغادرة المدينة حفاظاً على أرواحهم. وما كاد صباح اليوم التالي يشق أنواره حتى رأيت سيلاً لا ينتهي من البشر النازحين من بيروت الغربية، وكنت محمولةً في خضمه على الرغم مني ومن جسدي. ومع ذلك، لم نكن في الهم سواء. فالأغنياء كانوا الأسبق الى مغادرة بيروت، بالطائرة، أو بسياراتهم. أما الذين بقوا حيث هم فكانوا من الفلسطينيين، بالطبع، ومن اللبنانيين الأشد فقراً، أو الذين لا يجدون لهم أي ركن أو ملجأ في البلاد كلها.

وكان رحيلي عن بيروت نوعاً من التمزق، والمغادرة، والفرار. وكان لي، كذلك، نوعاً من الهزيمة. وظللتُ أعاند بكل ما أوتيت من قوة. ورحت أقول في سري: يجب أن أبقى حيث أنا وحتى النهاية ، في منزلي.

بيد أن والدتي هيأت نفسها لمغادرة منزلنا، لم تكن إرادتي لتعني لها الشيء الكثير. وبدون أن تناقشني في رغبتي أمرتني بأن ألحق بهم، هي وأختي وأخي وعمي صبحي. كان ينبغي لنا أن نغادر المكان، وفيما كنا خارجين إشترطتُ على والدتي عدم المبيت في القطاع الشرقي المسيحي، في نوع من التنازل الزهيد. ذلك أنه توجب علينا إجتياز المنطقة التي غدت ممراً للإسرائيليين، تيسّر لهم من خلاله السيطرة على المدينة.

كانت تلك المرة الأولى، منذ زمن بعيد، تطأ فيها قدماي بيروت الشرقية، بعد أن اجتزنا خط التماس المفتوح استثنائياً الى الغرب، لأجل أن يستكمل الإجتياح خططه. كنتُ جالسةً على المقعد الخلفي من السيارة لما عبرت بنا ممر المتحف المريع، والقائم على مقربة من قصر الصنوبر، في حين مُنع الفلسطينيون من عبوره منعاً باتاً. حتى إذا بلغنا الجانب الآخر من المتحف، طالعنا عالم آخر، لا يشبه بشيء ما آلت إليه أحياؤنا، ففيما كان قطاع بيروت الغربية مدمراً بفعل أعمال القصف، بدا الجزء الذي يسيطر عليه الكتائبيون سليماً، أو يكاد. أنا الآن، غادرتُ لتوي مدينة في حال الحرب، وها أنا في عالم صاعق في تفاهته، في مدينة ككل المدن، بمتاجرها والمتنزهين فيها، وبمقاهيها المكتظة بروادها، مع أنني لم أجتز سوى بضع مئات من الأمتار بعيداً عن منزلي. ولما كنا ارتحلنا في وضع مزر، بعد أيام من القصف بلياليها، اقترحت علي والدتي بأن تشتري لي ثياباً لتلهيني عما بي. لكني والغضب يمتلكني، أبديتُ لها ممانعة لا تقبل الجدال.

استلزم إخلاء بيروت الغربية من سكانها وقتاً طويلاً. وكنا مجبرين على المبيت لدى أقرباء لنا في المنطقة الشنيعة. ولساعات الليل الطويلة كنت أجتر غضبي. وصببتُ جام حقدي على الأرض كلها، وعلى هؤلاء اللبنانيين الذين استقبلوا الإسرائيليين وأعانوهم على فتح بيروت، والذين كفوا، بنظري، أن يكونوا لبنانيين حقاً. وحقدتُ كذلك على عائلتي التي اختارت سبيل الفرار، ولزمن طويل للغاية.

وأدركني الخوف، هذه المرة، من أن يذهب كل شيء سدىً. وفي الغد، أُعدّت لنا سيارة بيجو بيضاء فتكومنا فيها. كنا عشرة ركاب، في سيارة لا تتسع إلا لخمسة. ثم كان الإنطلاق. أما الطريق فبتنا نعرف أنها تتخللها حواجز إسرائيلية. وما أن ظهر أول حاجز حتى بادر عمي الى تمزيق أواقنا الثبوتية، حتى أنه أصر علىتمزيق بطاقة تعريف لي صادرة عن الصليب الأحمر اللبناني. وعبثاً احتججتُ على الأمر. فقد بدا عمي والحال هذه، شديد العزم، لا يلين. وقد برزت نقاط التفتيش التي أقامها الإسرائيليون خير مصداق لمخاوف عمي. فكانت هذه الأخيرة نقاطاً يتعرض فيها المارة للإهانات ليس إلا. أما أعمال التحري فكانت تتم باللغة العربية، وعلى نحو متواصل. وكنا مجبرين على الإنتظار لساعات طويلة تحت لهيب الشمس من غير أن نبل شفاهنا. وفي أحد الحواجز، رأينا طفلاً يبكي لأنه عطشان فطلب أهله من الجندي أن يتفضل ويتكرم بكأس من الماء، فما كان منه إلا أن رفض.

ومضت السيارة بنا والتفّت حول المدينة من الجنوب، وسارت بمحاذاة الشاطئ. هناك رأينا جنوداً إسرائيليين في مايوهات السباحة مستلقين على الرمال هانئين بأشعة الشمس وكأنهم في بلادهم.

وبعد ثماني ساعات من المسير المتصل، أمكننا أخيراً أن نبلغ دير ميماس.

عدتُ إليها بعد غياب دام خمس سنوات. وكان لقائي بجدي وجدتي وعمتي يفيض بالمشاعر والتأثر. ولم ألبث أن عاينتُ، في مدى بصري جيشاً شُبّه لي أنه لبناني. وتراءى لي، أنى وجهتُ ناظري، لظلّ جندي إسرائيلي، وأدركت فيما بعد أن هؤلاء الرجال المسلحين والمرتدين بزة عسكرية وطنية إنما هم في خدمة الدولة العبرية. وراعني استعمار القرية في زمن يسير، وإغراقها بالسلع الإسرائيلية. ورأيت كل الناس يرتدون مطرزات عسكرية مصنوعة لدى أعدائنا وموزعة مجاناً عليهم. وكنا أينما توجهنا وجدنا جنودهم ومعلباتهم.

فقررت، وعلى نحو عفوي، أن أقاطع كل بضاعة تأتي من هنالك. كان ثمة مناخ ضاغط يسود القرية التي بدت منقسمةً شطرين: الأول مؤيد، والآخر معارض. المؤيد، ويمثله المتحالفون مع إسرائيل، أما المعارض فيمثله خصومها. ذلك أن النزوح الجماعي من بيروت، ولئن أعاد الى القرية عائلات تنتمي الى اليسار، شأن عائلتنا الغائبة عنها منذ العام 1978، فإنه حمل كذلك شباناً كبروا في العاصمة وكانوا متعاطفين مع الطروحات التي باتت موضع تأييد في بيروت الشرقية، وعادوا الى القرية.

ولم تمض على حلول الكتائبيين في البلدة أيام معدودة حتى حاولوا أن يفتتحوا مركزاً لهم، ذلك أنهم ظنوا أنفسهم، لوهلة، مدفوعين الى النجاح. غير أن مساعيهم سرعان ما باءت بالفشل، لأن الإسرائيليين لا يرضون عن قوى أخرى سوى عن حليفهم سعد حداد. وما لبثوا أن خنقوا في المهد بعض الحملات الدعائية التي كان من شأنها أن تشيع التوترات بين هؤلاء الكتائبيين وقوات سعد حداد. وفي الواقع، كان ثمة لبنانان يتساكنان في دير ميماس كيفما اتفق، غير أن كلاً منهما كان يتجنب الخوض في المسائل الشائكة، ولا سيما في حضرة الآخر، وكنت ترى كتائبيين وشيوعيين متواجدين في النادي الرياضي نفسه الذي أُنشئ ظرفياً.

بقينا في القرية الى نهاية تشرين الثاني / نوفمبر. وكلما حاولت أن أستل غضبي الذي حملته معي من خلال دروسي، عاودني التفكير في إسرائيل وفي واجبي كلبنانية في مواجهة عدوانها. وكانت بشرى ولادة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، في السادس عشر من أيلول / سبتمبر ، قد غمرت كياني فرحاً. وقلت في سري: أخيراً بريق الأمل.

ومن عجائب الأمور، أن تكون هذه البشرى زفت للناس بعيد مقتل بشير الجميل، حليف الإسرائيليين والذي فتح بوابات بيروت لجيش الدفاع الإسرائيلي، والذي عرّض المدنيين لأخطار محدقة، وبات بوجودهم المرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية، وذهب آخر أمره ضحية عبوة مفخخة. ولئن حزنت لموته على هذا النحو، فإن خبر مقتله هذا أراحني نوعاً ما.

فكان توليه السلطة قد أثار حمية الكتائبيين في بلدتنا، فأتوا يهللون فرحين بذلك الإنتصار تحت نوافذ بيوتنا. حتى إذا أُعلن مقتل بشير الجميل رأيت قسماً من أهالي دير ميماس يعلنون حدادهم واضطرابهم العميق.

وهؤلاء كانوا قسماً من البلدة ليس إلا.

ولم تمض أسابيع قليلة حتى وافانا والدي الى القرية. وكان حصار بيروت الغربية أحدث فيه عميق الأثر. إذ بقي وحده في حينا الى جانب بعض أصدقائه من جيراننا. فعاشوا سوية مرارة الأحد الأسود: حين تواصل القصف على منطقة بيروت الغربية على مدى أربع وعشرين ساعة بلا توقف. ولما كان منشغلاً على الدوام، على الرغم من طوفان النار التي أحاطت به، وجدته غير قادر على الطعام والشراب، لفترات غير قصيرة. فأُنهك ومرض واضطر عمي الى إخراجه وحمله الى القرية. ههنا، راح يروي لنا على طريقته (أي باستنظاقه ودفعه الى الكلام) أرهب ساعات الحصار التي قضاها في بيروت، وبنبرة بطيئة هادئة. كيف أنه أمكنه ورفاقه أن يخرجوا جريدتهم الى النور، كل صباح، رافعين بذلك التحدي على الملأ. وروى كذلك رحيل المقاتلين الفلسطينيين، يقوم بحراستهم جنود قوات الأمم المتحدة، من ذوي القبعات الزرق، وذلك إثر الإتفاق الذي عقد بين ياسر عرفات والإسرائيليين، والذي سعت المنظمات الدولية الى التفاوض بشأنه بين الطرفين المتقاتلين.

وراح والدي يصف الدموع التي سُكبت، والوهن والصمت المطبق اللذين حلاّ على المدينة وهي تودع هؤلاء الأخوة المنهزمين والمكروهين من بعض منا، ويغادرون موطن لجوئهم البائس مبحرين ولمرة أخرى باتجاه المجهول. وعلى حد ما روى والدي، فقد تملك البلاد شعور من المواساة، نادر بإجماعه. ذلك أن والدتي شاءت أن توافي والدي الى بيروت في الفترة عينها، وكانت تبدي ريبة حيال أبو عمار، غير أنها مضت ترسل عبارات المواساة حياله وترثي لوضع شعبه وقواته، وللمرة الأولى على ما أذكر. كان صفحة وطويت. بيد أني ظللتُ على يقين بأن هذا الرحيل لن ينهي المسألة على الإطلاق. وكان من الأكيد لي أن الإسرائيليين أثاروا الذريعة الفلسطينية، وأحسنوا استخدام انقساماتنا ليطيلوا وجودهم في لبنان، لآماد غير معروفة.

غير أن الكلمات الأشد إيلاماً كانت تلك التي وصف بها والدي، مخيميّ صبرا وشاتيلا، والمجازر التي ارتكبت فيهما ضد سكان هذين المخيمين الواقعين جنوب بيروت. آلاف من الأشخاص لقوا مصرعهم في هذه المذابح، التي كان الإسرائيليون مجرد شاهدين فيها لكونهم يراقبون مداخلهما. وخرجت الأحزاب الوطنية اللبنانية وعرفات، وسرعان ما حُملت إسرائيل وحلفاءها، وميليشيات سعد حداد، والقوات اللبنانية والكتائب المسؤولية الكاملة.

ولأسابيع عديدة، أخذ والدي قسطاً وفيراً من الراحة لدينا واستعاد قواه. وبعد ذلك، رأيته يستغل فرصة سانحةً له، وهي انفتاح الحدود مع إسرائيل: أن يمضي هو ووالدتي الى أرض العدو، وللمرة الأولى في حياتهما قاصدين، زيارة قريبة لهما في القدس الشرقية. والحال أن هذا النوع من العلاقات العامة دأبت الدولة العبرية على تنظيمها بهدف المباعدة بين لبنانيي الجنوب وإخوانهم في بيروت. وفي القدس الشرقية، راح والدي يقنع الفلسطينيين بأنه يشاطرهم آراءهم، وأن اللبنانيين ليسوا جميعاً عملاء لدى إسرائيل، ولم يتوصل الى إقناعهم بذلك إلا بشق النفس. وبقيت لفترة طويلة أسائل نفسي وبمرارة، عن الدافع الذي جعل والدي، المناضل الشيوعي منبتاً، يقتنع بإمكانية عبوره هذه الحدود قاصداً الجهة الأخرى، وموافقاً عدونا في أهدافه.

لدى عودته، سارع الى تصويب وضعنا. ولئن غادر، في بيروت الغربية، منزلاً أصابته القذائف وأمعنت فيه تدميراً لمرتين متواليتين، فإنه ظل مصراً على عدم إقامتنا في منطقة محتلة، فيما كان الإسرائيليون يباشرون الإنسحاب من بيروت. وعلى أي حال، كنت على يقين بأن بأس المقاومة، التي ينخرط فيها أمثالي، سوف يكون كفيلاً، وحده، بإجبار الإسرائيليين على التقهقر.

إذاً، مضى والدي برفقة والدتي الى العاصمة لتقدير حجم الأضرار اللاحقة بمنزلنا، وعلى الفور قاما بأعمال ترميم سريعة في المنزل، وأرسلا في طلبنا لموافاتهما الى بيروت.

وبعد انقطاع دام أشهراً عديدة، عدنا الى بيروت الغربية، واستعدتُ أصدقائي وحللتُ في حي الأثير لدي.

ومع أن كل شيء بدا على حاله، فقد تبين لي أن كل الأوضاع تبدلت. ولم تعد أخبار العمليات الحربية التي تنشر عبر الإذاعة مقتصرة على القتال الأخوي والعقيم، بل صار لعمليات المقاومة ضد الإسرائيليين حيز في النشرات الإذاعية أيضاً.

وإذ أجلتُ النظر في مدينتي، التي أرغب في أن تكون على صورتي المرجوة، شعرتُ للمرة الأولى بأن الجيش اللبناني يمارس علينا رقابة خفية. ومع أن اتحادنا لم يكن محظوراً، إلا أن كلاً منا صار ملاحقاً عن كثب. وجدتُ هذا الوضع باعثاً على الضحك، وعبثياً، لأن هذا الجيش بنظري يخطئ الهدف كلياً، غير أننا كنا مجبرين على أخذ الأمر بعين الاعتبار.

حدثان كان لهما أن يطبعا عودتي الى بيروت. ففي الثاني والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر، والذي يحتفل فيه اللبنانيون بعيد الاستقلال، قررنا أن ننظم مظاهرة احتجاج ضد الوجود الإسرائيلي. وأعلمنا بعدم موافقة الجيش اللبناني على هذه التظاهرة. تجاوزنا الأمر وقررنا أن نضع في مقدمة الحشد فتياناً تتراوح أعمارهم بين العاشرة والرابعة عشرة. وكنا على يقين بأن العسكريين لن يجرؤوا على المساس بفتيان عزل. ولكننا أخطأنا في تقديرنا، إذ لم يتوان الجنود عن إطلاق النار على الحشود فجرحوا الكثيرين من الشبان الذين تم نقلهم الى المستشفيات . ولم تمض على تلك الحادثة بعض الأيام حتى قام شاب لبناني يدعى بلال فحص، بأول عمل انتحاري ضد عربة إسرائيلية مدرعة. فقررنا للتو أن نطبع ملصقات نحيي فيها بطولة الشهيد، ومضينا نعلق هذه الملصقات، تحت جنح الظلام، على جدران المدينة. فكنا ننطلق اثنين اثنين، شاب وفتاة، وكلما صادفتنا دورية في عملنا اصطنعنا المغازلة صرفاً للنظر وتمويهاً.

وفي خلال أشهر الرصاص هذه، جرت عمليات شجاعة ضد الفرق العسكرية الأجنبية التي انتشرت في بيروت. ودفع الجنود الأميركيون والفرنسيون ثمناً باهظاً لتدخلهم الى صالح إسرائيل. وعلى الرغم من أنني شديدة التحفظ حيال العمليات الإنتحارية وحيال العنف بذاته، إلا حين يكون وسيلة النضال المتبقية في يد المظلوم، وجدتُ هذه العمليات لا مفر منها لإحلال السلام في بيروت. لقد كانوا في الواقع طرفاً في حرب لا توفر أحداً ولا شيئاً. والحق، أن تعلّمي السياسة تضاعفت وتيرته، خلال سنة 1982 الرهيبة هذه. وقد عمل الإجتياح الإسرائيلي علىترسيخ قناعاتي أيما ترسيخ.

كنت في الخامسة عشرة من عمري، وقد أعددت نفسي لمباشرة العمل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى