الاثنين ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩

رغاوي حمراء

بقلم: عبد الستار حتيتة

حتى حينما انتقلت للعمل في ضاحية فقيرة أخرى لم أنس ما حدث. كان الناس على المقهى يعرفون حكاية الرجل، الذي أصبح غسالة بمروحة، تخرج منها رغاوي حمراء تصدر أنينا..

يدخنون الشيشة ويقولون، بعدما تحوَّل لشكل برميلي غريب، إن هذا بسبب حبه الشديد لزوجته، وشعوره بالعار لفقره وضياع مدخراته.
أعملُ منذ سنوات محصلا لفواتير الكهرباء في منطقة النهضة شرق القاهرة. أمرُّ كل يوم، عبر الطرقات الترابية وأكوام القمامة، بين عمارات مطلية بلون أصفر منطفئ كئيب. وفي الخلفية يتسكع لصوص وكلاب وفقراء.
الرجل تقدم في السن حتى بلغ عامه الستين دون أن يعثر على عمل أو ينجب أطفالا.. أجالسه قليلا في شقته بالطابق الثاني.. واحدة من شقق إيواء المنكوبين مكونة من غرفة وصالة ضيقتين، وحمام ومطبخ صغيرين.. ذلك قبل أن ينتفخ قلب الرجل ويكبر، ويحوله أحد الأطباء غير المتخصصين، لغسالة تشبه البرميل تعمل بالكهرباء.

حين أطرقُ باب الشقة، يفتح لي الباب. لا نتحدث عن فاتورة الكهرباء الجديدة، التي تصل قيمتها عادة لعشرين جنيها. لم يكن معه نقود. يشعر بالوحدة الشديدة بسبب غياب زوجته عنه طيلة النهار. لهذا أصبح ما يحدث هو الآتي: يفتح الباب الخشبي الذي يعشش عليه العنكبوت، يبتسم بوجه جامد كوجه الجرو، بينما آثار الدموع بادية على وجنتيه المنطفئتين. أقول: الفاتورة. فيقول: أدخل، كأنه يعوي من الألم.

على مدار سنوات أصبحتُ أستمع يوما بعد يوم لقصة حُبه لزوجته، وكيف أنه لا يستطيع تحمُّل غيابها عنه ولو للحظة. يغمض عينيه.. يتحدث عنها كما يتحدث طفل عن أمه، وأنها بالنسبة له كالنسيم. إذا غابت عنه يختنق. ثم يبكي مصدرا صوتا كصوت كلب ضرب بحجر في ساقه.
من قبل كانت منطقة النهضة كلها تسمع عواء الرجل وصوت نحيبه.. بكاؤه يعلو حتى يصل للجوار.. أي لضاحية القاهرة الجديدة الثرية بالملاهي وقصور الأغنياء. للأسف استخدم رجال أعمل وأولادهم وبناتهم، نفوذَهم، وهم يلعبون على النجيلة الخضراء المروية ويشربون الويسكي ويدخنون السيجار، للتخلص من سحب الحزن التي تكسو مروج الغولف والتريض، بفعل نحيب الرجل.
على هذا استدعاه مأمور شرطة الناحية. حبسه خمسة أيام.. جعله يوقع على تعهد بأن يكتم نحيبه في صدره.. يبكي، نعم، لكن في داخله. استمر عدة أشهر على هذا الحال.. أخذ قلبه يتضخم وينتفخ في صدره ممتلئا بالحزن والدموع.

زوجته اعتادت أن تجدني أخفف عنه عذابه في أمسيات الخريف المقبضة. تدخل.. تأخذه في حضنها. تقول له: يا حبيبي، ياقرة عيني، يا ولدي الصغير.. أعلم إنني أعذبك بغيابي عنك.. لكن ماذا أفعل، لا بد أن يعمل أحدُنا، حتى نجد ما نأكله.. ثم تشرع في الضغط على صدره بالضمادات، لتخفف انتفاخ قلبه الذي كان يكبر ويكبر، ويدفع عظام صدره إلى الخارج.. حين يهدأ، يهز ذيله في أنين خافت يعبر عن الوجع.
تقول مبررة لي عظيم حزن زوجها: هو صعيدي، من المنيا.. والمنياوي يكره أن تخرج زوجته للعمل، بينما ينتظرها في البيت.

تدافع عنه، وهي تقدم لي الماء البارد من إناء فخار على حافة نافذة محطمة الزجاج: في شبابه كان حصانا.. يحمل أكياس الأسمنت وقوالب الرخام إلى الطوابق العليا.. لقَّبه مقاولو الأنفار في الضواحي المجاورة بالحصان. كل الطوب والأسمنت والحديد والسيراميك.. كل ما بنيت به المباني رفعها حصاني فوق كتفيه.. كان ينفق على البيت؛ بيتنا، ويرسل لشقيقيه في المنيا أموالا أيضا، لينفقوا منها نصيبا ويدخروا له منها نصيبا.. مرة خمسة جنيهات.. مرة عشرة جنيهات.. مرة عشرين جنيها..

حين تنهمك في تطييب خاطر زوجها، أجلسُ جانبا وألمح من شقوق النافذة أطفالا بلا سراويل هائمين وسط الكلاب على أكداس القمامة. أشعل سيجارة مفكرا في حال هذين الزوجين وفي حال ضاحية النهضة البائسة.. أسمعها تقول له كأنها تخاطب طفل: يا رجلي، يا سندي، الدنيا حطمتك.. أنا هنا جوارك، لا تزعل، أحضرت لك فولا وخبزا.. وسأعطيك جنيها لتروح عن نفسك في المقهى.
على الجدار تتحرك ظلال الزوجة، وهي جواره جالسة لا تتوقف عن الكلام.. بينما المصباح يضئ الجانب الآخر من جسد الرجل طريح الفراش منتفخا كبرميل..

رجُلُها كان يحلم بفتح كشك لبيع السجائر والحلويات من مدخراته حين يكبر. مرت السنين سريعا. وبعد سقوطه عدة مرات، من الطوابق العليا، بما يحمله من أسمنت وطوب، أدرك أنه تجاوز الخامسة والخمسين، فأرسل لشقيقه أن يأتي له بما ادخره، ويقضي معه عيد الفطر، لكن شقيقه احترق بالأموال في القطار قبل أن يصل إليه..
وحين لحقه شقيقه الثاني بباقي مدخراته، وليقضي معه عيد الأضحى، احترق هو الآخر بالأموال في القطار قبل حتى أن يصل إليه..
هنا شعر الرجل بالضياع.. تبدد حلمه نهائيا في أن يكون قادرا في أي يوم، مما تبقى من أيام حياته، على الإنفاق على البيت.

زوجته العاقر، هي ابنة عمه.. آخر من تبقى له في الحياة، بعد انقراض أسرتيهما بسبب الثأر وحوادث الإرهاب والنقل على الطرق والسكك الحديدية. أخذت الزوجة زمام المبادرة.. باعت مصوغاتها؛ خاتم الزواج وقرط صغير.. اشترت الغسالة الوحيدة التي كانت تملكها أسرة مقاول أنفار في النهضة.. غسالة أكلها الصدأ من أطرافها تشبه برميلا متوسط الحجم.. تضع فيها ملابس الجيران الفقراء. تملؤها بالماء.. تفرك عليه قطع الصابون الرخيص.. توصلها بالكهرباء؛ فتدور مروحة في قعرها، لتغسل الملابس مصدرة صوتا يشبه محرك سيارة قديمة.

ذاع صيت الزوجة وغسالتها العجيبة المركبة على ثلاثة إطارات صغيرة. أصبح الموظفون والعمال يطلبونها ليريحوا زوجاتهم من عناء غسل الملابس والبطاطين والمفارش.. تخرج مع البكور تجر غسالتها في شوارع النهضة بين عمارات الإيواء وبيوت مجاورة مبنية على عجل بلا طلاء. لا يتجمع في يدها ثمن الخبز والفول وإيجار الشقة وفواتير المياه والكهرباء إلا بالعمل حتى وقت العشاء.

ساءت حالة الرجل.. كان يشعر بالعار، بالخوف من أن يغوي أحدٌ زوجته، مع ثقته فيها. بالكاد يشد ثوبه الأسود، ويسند بدنه على حافة السرير. يقول: لو تركتني أموت.. ليس لي غيرها.. هي أمي وابنتي وزوجتي وأختي.. يا إلهي، هي الدنيا.. إذا خرجت من الشقة في الصباح أشعر أن الدنيا أظلمت، وإذا عادت في المساء أرى الشمس وقد أشرقت.
ظل الرجل على هذا الحال من العذاب. زاد شقاؤه حين منعته الشرطة من العويل والبكاء.. ظل ينتحب إلى الداخل وجسده يهتز.. برزت شحوم قلبه من بين أضلاع صدره.. هكذا ظل عاكفا في البيت..

في ذلك الوقت كنت أمر عليه يوما بعد يوم. عقب تحصيل الفواتير من بعض شقق النهضة الواقعة في صحراء جرداء خلف جبل المقطم شرق العاصمة.. أمضي معه ما تبقى من نهار. كان عدد من أهل النهضة الفقراء يشترون له أقراص الطعمية الساخنة، لكي يفرح، لكن دون جدوى.
ظل الأمر يحرق قلوبنا من الحزن، حتى جاء طبيب الناحية، وهو طالب قديم لم يكمل تعليمه في معهد لصيانة السيارات منذ عشرين عاما.. كان يعالج مرضى السعال والمفاصل والتليف الكبدي، بزيوت سوداء لا يعلم إلا الله من أين يأتي بها.. تفحص الطبيبُ الزوجَ الذي كان يوشك على الانفجار، وصاح: وجدت العلاج، لكن قبل أن أجري العملية، يجب على الزوجة أن تكتب موافقة بذلك، مع ما يمكن أن يترتب عليه من آثار.

لم تكن الزوجة هنا، فوقَّعت جارة لها على الإقرار بدلا منها. انفرد الطبيب بالرجل دخل غرفة النوم، وشرع في العمل. زوجته انخرطت في بكاء مرير حين عادت.. جلست جوار غسالتها، وجلسنا معها على باب الغرفة، في انتظار انتهاء العملية الجراحية.

بعد مرور ثلاثة أيام فتح الطبيب الباب.. يجر وراءه غسالة جديدة مركبة على أربع إطارات صغيرة. قال مبتهجا، وهو يمسح يديه من الدم والمسامير، في فوطة من فوط مسح السيارات: العملية نجحت. لدينا عدة امتيازات هنا: يمكن لزوجته أن تصطحبه معها للعمل، أينما ذهبت، وتغسل داخله الملابس أيضا. والآن من سيدفع لي أجر العملية.
حوَّل الطبيب الرجل إلى غسالة.. شرح لنا، سريعا، كيف طوى لحم الزوج وعظامه داخل ألواح من الصفيح. وبيَّن كيف ثبَّت قلبه المنتفخ في قعر الغسالة التي كانت تشبه البرميل أيضا.. وأشار إلى داخل الغسالة ليرينا المروحة الجديدة التي ستنظف الملابس كما لم تنظفها أي غسالة من قبل.

وتحسستُ في جيبي الأموال التي جمعتها اليوم من تحصيل فواتير الكهرباء. وخفت من عيون هؤلاء الفقراء المتجمعين حول طبيب الناحية.. كنت أرى فيها رغبة تريد أن تقول: أقرضنا مما معك من أموال الحكومة لسداد أجر العملية. لكن زوجة الرجل أنقذتني من هذه الورطة، حين عرضت على الطبيب أن يأخذ غسالتها القديمة، بعد أن أصبح لديها غسالة جديدة. فرح الطبيب، وجرها وراءه ومضى.
عمت الفرحة الجيران. جاء كل منهم بما لديه من طعام في بيته. فرشوا حصيرة مهترئة بجوار الرجل الغسالة، الذي كان يقف على إطاراته نابضا بالحياة في الصالة.
التفوا حول أرغفة من الخبز الرخيص وأقراص الطعمية والبصل.. قال أحدهم علينا أن نجرب الرجل الغسالة قبل أن نأكل. جلب كل منهم ما لديه من أسمال متسخة.. ألقوها في قعرها. سكبوا عليها الماء. فركوا فوقها الصابون، ومع دوران مروحة الغسالة، بدأت الرغاوي البيضاء ترتفع وترتفع، ثم، مع استمرار دوران المروحة، بدأ اللون يتحول إلى الأحمر، كلون الدم.. كل فقاعة من هذه الرغاوي الحمراء تئن وتتوجع وتصدر صوتا مثل صوت جرو خائف..

فيما بعد نقلتني مصلحة الكهرباء لتحصيل الفواتير من ضاحية فقيرة أخرى تدعى عزبة خير الله جنوب القاهرة. كنت كلما مررت على غسالة من تلك التي تشبه البراميل أتوقف قليلا لعلي أرى فقاقيع حمراء في رغوة الصابون المنتفخة.

بقلم: عبد الستار حتيتة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى