الخميس ١٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم محمد إبراهيم العريني

هو والحفل

ها هي لحظات الغروب تتراكم ملتهبة، والنيل يتأجج خلف ذرى النخيل المتقدة، الليل يوشك أن يهبط والحمرة القانية تتحول إلي رماد، دقائق ويجثم الظلام فوق الأرض كغراب أسود قاتم في مساء خريفي، وها هو لا يزال يواصل المسير هائما في الأرض حيرانا ترهقه ظلال حاضره الكئيب، ويطارده حزن ضارب في الأعماق، تمتد أيادي الحيرة إليه ساخرة مشوهة، تشهر في سماء عينيه سيوفا من اليأس، وتمزق فؤاده بخناجر من الإحباط، تتشابك أفكاره المتضاربة في الأوج كخيوط العنكبوت، وتنغرز الآلام الشرهة في جسده المتعب كالإبر.

تضطرم الأفكار في عقله وصوت أطفاله يتردد في أذنيه مرارا، هذا صوت(فاطمة):

  أبي...أريد زيا جديدا للمدرسة فقد تقطع ردائي منذ أمد.

وهذا صوت(أحمد):

  أريد أدوات هندسية ومجموعة أقلام للتلوين، المعلمة تزجرني كل يوم وقد مللت من حجتي الواهية كل حصة أني قد نسيت أدواتي.

حتى الرضيعة (نعمة) يتردد صوت بكائها بين الحين والآخر بعد أن ألم بها داءٌ عضال ولم تفلح محاولات الأطباء في علاجها علي الرغم من كل ما تقاضوه من أموالٍ أجهزت علي ما تبقي من حُلي الأم البسيط الذي كانت تدخره للنوائب – كم تقول.

كلما تردد صدي صوت أبنائه وهم يطلبون أشياءهم البسيطة، أدخل يده في جيبيه وارتجفت أصابعه وهي تغوص في اللاشيء ثم تعود يده خائبة وهي لا تجد ما يكفي لتلبية أيا من رغباتهم، وكلما فعل ذلك امتدت فوق رأسه أصابع الحيرة، ودار في حلقة مفرغة من الخذلان والهواجس، وشعر بالمقت، بالغثيان، وحاول الفرار من عالمه الثقيل ولكن ليس إلي ذلك من سبيل.

لم يخرجه من دائرة أفكاره هذه ومشاعره الحزينة تلك إلا صوت صاخب، نظر حوله ليجد قصرا شامخا علي جانب الطريق مزدانا بالأنوار، وقد اصطفت أمامه السيارات، اقترب من المكان وازداد صوت الصخب، موسيقي وضحكات وطرقعات كؤوس، وجد نفسه يتحرك بلا إرادة ليقف أمام باب القصر ليطالع ما يحدث بالداخل، يبدو أن القوم يحتفلون، طاولات ممتدة عليها صحائف من أطعمة لم يرها من قبل،ولا يدري ما كنهها، وأشربه لم يذقها أبدا،ولا يدري ما طعمها، وعجب أشد العجب حين رآهم ينهون احتفالهم وقد تبقت معظم الأطعمة والأشربة كما هي، ثم كاد أن يصعق عندما رأي العمال يضعون ما تبقي في سلال القمامة، وذلك قبل أن يملأ كل منهم حقيبته خلسة دون أن يراه رب البيت.

انصرف من المكان وهو يتساءل: لم تُلقي الأطعمة الثمينة في القمامة ؟! ألم يكن من الأفضل أن يوفر ثمنها لشراء زي (فاطمة)وأدوات (أحمد)بل وربما لشراء دواء نافع للرضيعة؟

عاد أدراجه إلي البيت وهو يستغرب مما رأي، ويستعجب لما في هذه الدنيا من مفارقات، وعندما اقترب من باب الشقة كان بكاء الرضيعة لا يزال يتردد في المكان ولا زالت فاطمة تطالب بالزي، كما أن (أحمد) كان لا يزال مُصرًا علي شراء أدوات الهندسة وأقلام التلوين.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى