الخميس ١٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم أحمد نور الدين

ظلام واشتعال

حجرتي في قلب الليل... ظلام واشتعال. الجميع نيام والليل صاح. النار تلهب أحشائي. وخيالي ينطلق في جموح لا كابح له ولا ضابط. أنفض عني صورة ملحة وشعورا، أحاول خنق الرعشة التي تلف أعضائي جميعا، ولكنني أبدو عاجزة ضعيفة. أحاول أن أنام، والنوم يتأبى في عناد. يا الله.. أحاول أن أردع ناوزع نفسي بذكر الرحمن، وتصور العقاب، ولكن جهنم تبدو خامدة الساعة، ليس لها لهب ولا زفير. وفي هجوم مباغت تصدمني أمواج من اللذة الحارقة فأستسلم لها في قهر ممزوج بمتعة بالغة.

بعد انقضاء ما يقرب الساعة من الشقاء واللذة، أتمدد على ظهري فيما يشبه الغيبوبة. يبدأ الارتخاء بالسريان في أعضائي ومفاصلي، وتأخذ أنفاسي ممرا هادءا وئيدا. ومن خصاص النافذة تتسرب أنسام باردة فيبدأ الحلم بالنهوض، وتصعد في سماء ليلي نجوم الخواطر السحرية، فأغمض جفنيي وأغرق في الغياب.

ألقي تحية الصباح على والدي باحترام بالغ، أتناول فطوري، ثم أذهب إلى المدرسة.

في الصف يبدأ المدرس بشرح فصل جديد من كتاب الكيمياء. فأحدق في وجهه المسلط على صفحة الكتاب ولا أكاد أعي كلمة مما يقول، فكلامه جامد في جفاف لا يطاق. ونفسي تهفو على رطوبة بعيدة المنال في جو الحر هذا. ولعل أكثر ما يعيه فكري في تلك اللحظات المليئة بالملل هو وجه المدرس الذي لا يخلو من وسامة تستتر خلف بدانة وسن جوازت الأربعين بقليل. لا تكاد ساعات المدرسة الثقيلة على قبلي تنقضي حتى أسرع هاربة من السجن المقيت إلى بيتنا. وفي الطريق أعبر عدة شوارع وزواريب، تكون كلها تقريبا مكتظة في مثل هذا الوقت من كل يوم. وهناك، عند مدخل العمارة المتداعية قبل المنعطف يبزغ من فم المدخل المظلم شابفي مثل سني، ويحاول أن يستوقفني، أن يكلمني، لكنني أواصل في العادة سيري غير آبهة به، وكأن وجوده شيء لا يعنيني من قريب أو بعيد. لكنني في هذا اليوم بالذات أقرر شيئا مختلفا. عندما أتجاوز عنه متابعة سيري كدأبي كل يوم يلحق بي، كعادته، فأرمي خلفي بورقة بيضاء مطوية، ثم أحث خطايا إلى داخل المنعطف فأعبره ماضية نحو البيت.

أصل إلى الطابق الثالث من عمارتنا مقطوعة الأنفاس وليس بي تعب. أرمي كراستي وحقيبتي على الكنبة في حجرة نومي ثم أخلع المريول وأرتمي على السرير. يبدأ الإرتخاء بالزحف فوق جسدي ويبدأ فكري بالشرود فيتوه في سهول واسعة من الخيال الحالم. وأشعر فجأة بالندم والخوف. ثم أسأل نفسي بدهشة: "كيف واتتك نفسك على القيام بذلك؟!" هل أخطأت فيما قمت به؟ هل تسرعت في ذلك؟ وأنهض إلى النافذة وأجول بناظري على الشارع بما يحتويه من سابلة وعربات، ثم أرنو إلى البعيد، أتجاوز أشباح الأشجار، ورؤوس المباني، ويلامس بصري ناصع السحاب. إنني في حيرة من أمري والحياة مملة ثقيلة. أطلق زفرة طويلة، وأدور على عقبي مبتعدة عن النافذة، ولا أدري إين تسوقني قدماي.

تجمعني مائدة الغداء مع والدي لفترة قصيرة من الزمن، أنشغل خلالها عن الماكن المحسوس في عالم خاص أدمنت اللجوء إليه كل يوم وكل ساعة. لم أكن هكذا حتى من عام مضى. لقد كنت على العكس من ذلك هادئة البال، مطمئنة النفس، ولا يكدر صفاء روحي أي من الأقذار أوالهفوات المثيرة للندم والإشفاق، أما اليوم فيبدو لي أن راحة البال قد غادرتني إلى الأبد.

لا أدري متى يسلبني النوم وعيي، لكنني أصحو في سريري وظلمة شاملة تحيط بي، وأصوات كثيرة مبهمة تطن في أذني، فتثير في نفسي مشاعرا عميقة لا أستبينها بالكامل. ثم أنزل من على السرير وأعود أقف بالنافذة وقفتي المعتادة. أنظر إلى الخارج فلا أبصر سوى أنوار مشعشعة في فضاء الليل. ولكنني لا أحاول التركيز على التفاصيل، إنما أشخص ببصري إلى السماء العاطلة من النجوم، وتنفذ إلى نفسي كآبة غريبة لا أدري كنهها. ثم ينزل على وعيي بصورة مفاجئة صورة الشاب المحب الذي يعترض سبيلي كل عصر، وينتابني شعور بالحزن والإشفاق. لم يبدو لي من مظهره، أو سلوكه ما يشين. رغم الملاحقة والإعتراض، لم ينتقل إلي منه أي إحساس بالخطر أو القلق، بل كان وجوده القصير في يومي مثارا للبهجة والأمل.

لقد تابعت صباح اليوم الفائت ما كنت قد بدأته في اليوم السابق من إمعان في الفكر، وقد قر قراري على ذلك الخيار، فمضيت أنفذه بحزم رغم ما أثاره في نفسي من حزن عميق، وجرح مؤلم لا أدري حقيقته أو طبيعة وجوده داخل كياني المتبلبل الذي فقد طمئنينته وبات ينشد سلاما ضائعا في شعاب الجسد والخيال الجامح المتذبذب.

في تلك اللحظة من الليل، وتلك الظلمة المخيمة على مخدعي يطيب لي أن أبكي في صمت تحت وسادتي. فألوذ بحمى البكاء ساعة طويلة حتى يداخلني تعب مفاجئ، فأمدد أعضائي على السرير مرة ثانية، ويبدأ النوم بالتسلل إلى رأسي مع أمواج الصور والخيلات الزاحفة فوق جسدي في إيقاع مخدر للأعصاب. اليوم طويت صفحة في كتاب حياتي، وكان يداعبني الرجاء بأن يتفهم الشاب المحب موقفي ويقدر حرجي، فيسقطني من حسابات يومه، ويكف عن إعتراض سبيلي إلى الأبد.

الآن تتمازج الخيالات لتشكل عوالما من السحر المنسوج من الوهم اللذيذ، وأذوب في أعماقه متخلية عن أحاسيس الوعي، وتفاصيل المكان وقيوده. أترك خلفي ألمي وتعبي وحزني. أمضي في دوامة طويلة من الصور، والأماكن، والظلال. ولست أدري عند أي نقطة ينطلق النور الباهر في أعماق الظلمة، فأنهض من الغياب مشتعلة بنار الحلم، وتجتاح أعضائي رعشة شاملة، فأستسلم لها، ويكون ما يكون...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى