الثلاثاء ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩

هجرة البنفسج

بقلم: وجيهة عبد الرحمن

فجأة شعرت وكأنَّ ذلك الجدار المتين آخذٌ بالانهيار.

ربَّما هو الجنون أو نوبة من مقارعة الذَّات، هل تستمر فـي خداع نفسها وتبدو وكأنَّ شيئاً لم يطرق مسمعها ويوقظ فيها ذلك الملاك الذي لا ينفك يهمس في أذنيها كلمات معبَّئة بطهارة الشمس، و نقاء القمر، وجنون الزنابق.......

ها هـو يبدو الآن كإبليس رمادي ينفث ُفي صدرها كـلَّ سمومه لتهرب إلى قباب قلاع صنعتها من عطر البنفسج.. تحاول الصمود, لكن هل أكثر إيلاماً من أن تجد ذاتك تنفصل عن جسدك.. ليبدو الجسد كجثَّة ٍ هامدة لاحراك تقول: الهروب ضرب من الجنون لا...سأبقى...تتمتم ضائعة..!

ولا تدري كيف تصعد العليَّة... تحضِّر السلم الخشبي مع أنها تخاف طلوع السلالم، ومع ذلك هناك ما يدفعها لئن تصعد درجة تلو درجة....سأنزل.... لا.... سأصعد.... الحيرة تنهش جدران الذاكرة...!!

جلست القرفصاء على أرض العليّة، ثـم َّ اعتدلت فـي جلستها لتهيئ لنفسها وقت بقاء أطول فـي هذا المكـان القريب البعيد..
تلتفت وراءها لتسحب علبة خشبية مطليّة بلون البنفسج.. فقد كان ولعها بالبنفسج يفوق كل الألوان.... وربما كلَّ الأزهار...تفتح العلبة تخرج رزمة أوراق، ورزمة صور, لا تدري بأيهما تبدأ؟

هل تقرأ ما دار بينهما من حبٍّ دوِّنَ على الورق, ليشكِّل َ جسم رسالة تطيِّرها إليهما نوارس الوجد والحــب؟!!

أم تتصفّح تلك الصور التي جمعتهما في كل مكان, وفي كل مرة التقيا, ليبدوا كطائرين.. كنرجستين.. كوجعين لحبٍّ استُأصِل؟

هل ستقرأ رسائله إليها؟

هل ستنظر إلى صوره التي طالما حملتها معها في حقيبتها, لتريها للريح..للمطر.... لأوراق الشجر.... تحدِّثُها في طرقاتها.... لا تملُّ تُحدقُ فيها بعنفوان..... بوله...!!

لا تدري لماذا كان يراودها شعور بالألم حين كانت تنظـر إليهـا إحساس من الخوف لا مثيل لـه.....!!!!

ها هي ذي تعيش إحساسها... خوفها..... ألمها الأزلي العتيق عتق السنديانة التي ما غادرت فناء دارهم,إلا لأنَّها أُحرقت.... فسقطت...!!

بدأت بإحدى الرسائل, صفحة من الأمل كانت مزيّنة أطرافها بزهر البنفسج.... مقطع من الرسالة(إليك يا طفلتي التي أنجبها جنون هذا الكون.. أكاد الآن احترق... أعيش الملل والوحدة...إنّها آلامي الجبلية...تعالي ياأيها الطائر الخرافي لتمرّي على تلك الخرائب في روحي.. لتعزفي على قيثارة الخلود.... لحن الأفول...!!) ثم تضعها جانبا ً, لتلتقط صورة جمعتهما عند المغيب.. فيحدِّقان في شمس الغروب بصمت لا معهود, ثم تعود لتفتح مغلَّف رسالة أخرى..مقطع من الرسالة(..شوقي إليك يزداد..وانتظاري يطول..ليس لي إلا الكلمة, فهي تحلو بُعيد الغروب والمسافات. لتصل فتكون كالنصل ينبثق ُ من جوف عشقـي.....)
أجهشت بالبكاء,وبدأت يداها ترتعدان... أنفاسها ترتجف كطائر يريد المكوث في عشِّه ِ.. عيناها داميتان وقلبها أخرس...!!

تعيد إلى أذهانها حين كان يطرق الباب, كيف كانت تركض غير آبهة بشيء..... تفتح الباب، ترسـم قبلة علـى شفتيه, تسأله عن شوقه و ثم تسحبه إلى الداخل فتقص ُّ عليه يومها بالتفصيل بحركات طائرة... تارة تعانقه وتارة تجلس ُ إلى جانبه.... وتارة أخرى تجلس ُ قبالته فتحدِّقُ بإمعان:

يا الله كم تحبُّه ُ تقول ذلك في قرارة نفسها.....!

ومن ثم تستيقظ ذاكرتها, لتقع عينيها من جديد على الرسائل التي تكوَّمت أمامها, لأنّها حين كانت تقرأها لم تكن تعيدها إلى مغلفاتها,بل ترميها جانبا لتبدو كتلَّة بل تلة من الزفرات والوجع, وتلك الصور التي تناثرت هنا وهناك.. تحدّثُها و من ثم ترمي بها لتبدو هي الأخرى وكأنَّها عانت من زلزال عنيف بعثرها...

ها هي تعود إلـى وعيها الذي كـان قد دهمه الانهيار، فتبعد عن ذهنها كل خيبة أمل، وتتعلق عيناها بوميض ضوء خافت... تلملم ما بعثرته... تحمل صندوق أيامها الصدئة.....!!!!

تصعد السلم الخشبي وتهبط بهدوء،وبصمت... ثم تخرج إلى ساحة الدار الواسعة، و تُخرج من جيب مر يولها علبـة الكبريت، فتُحرق بعضا ًمـن أوراق الخريف الميتة المتناثرة لتضم إلى نيرانها رزمة الرسائل, ورزمة الصور، وخصلة من شعرها المسترسل لتعلن الأفول....وتترك النار تلتهم كل ما رمته إليها..تنهض، تدخل إلى غرفتها، تبدو الغرفة بائسة...باردة...هجرها الدفء ثم تحمل حقيبة ً, تعبِّئها...لا تترك لها أثرا ً فـي هذا المكـان الذي بـدا عليـه الخـراب....
تخرج من الباب الكبيـر إلى أحضان طريق ٍ واسعـة طويلة..... تقف.... لا تدري إلى أين..... بينما يظل ُّ المكان عبقاً...بأنفاسها...بلمساتها وضحكتها العالية..!!!

بقلم: وجيهة عبد الرحمن

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى