الخميس ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم جميل حمداوي

أشكال مسرحية أمازيغية مغربية

تقديم:

عرف الأمازيغيون المغاربة مجموعة من الأشكال الدرامية والظواهر المسرحية، وقد تشكل من مجملها تراث أنتروبولوجي احتفالي غني، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على مدى سمو حضارة الأمازيغيين وعراقة ثقافتهم التي تضرب في الجذور أصالة وعلوا.

هذا، وقد استوعبت الحضارة الأمازيغية على مستوى الفنون والجماليات إرث الحضارات المجاورة كحضارة الغرب والشرق وأفريقيا، واستطاعت أن تصهر هذه الحضارات في قالب فني درامي أمازيغي متنوع ومثمر وفطري واحتفالي جذاب، ما زلنا نعتز به إلى يومنا هذا أيما اعتزاز وفخر.

إذن، ماهي أهم الفرجات المسرحية التي عرفها الأمازيغيون في المغرب؟ وماهي مكوناتها النظرية والميزانسينية؟ هذا ما سنتعرف عليه في ورقتنا النقدية هاته.

 ظاهرة بيلماون أو بوالجلود:

من أهم الظواهر المسرحية الشعبية الفطرية التي كانت معروفة في المغرب قبل ترسيخ الممارسة المسرحية المولييرية، وهي فرجة شعبية ذات أبعاد لعبية وطقوسية وشعائرية، وتهدف إلى التسلية والإمتاع والترفيه، نذكر ظاهرة بويلماون التي كانت تعتمد على فعل التنكر، واتخاذ القناع وسيلة للإخفاء والاحتفال الكرنفالي. والمقصود بهذا الكلام أن بيلماون فرجة درامية شعبية تقام بعد عيد الأضحى، فيتخذ القناع فيها من جلود الحيوانات وخاصة من جلد الخروف أو الماعز، فيتحول إلى احتفال تنكري شعبي لإثارة الناس والجماهير الشعبية الحاضرة، ولاسيما الأطفال الصغار منهم.

ومن المعروف أن هذه الظاهرة الفرجوية الاحتفالية كانت منتشرة في بعض المدن المغربية كفاس ومراكش وطنجة، دون أن ننسى المناطق الأمازيغية ومناطق الجنوب المغربي بصفة خاصة.

ومن المعروف لهذه الظاهرة الفرجوية الشعبية تسميات عدة. ففي أمازيغية الجنوب والوسط، نقول: بويلماون، وبالريفية نقول: يويرماون، فكلمة إيرم بمعنى الجلد. وفي الدارجة المغربية تسمى هذه الظاهرة الاحتفالية ب" بوجلود"، أي صاحب الجلود كما في مراكش ونواحيه،أو نطلق عليها كلمة " هرما" أو هرما ﯖرﯖاع أو هرما بوالجلود ( إحالة إلى الشيخ الهرم) كما في منطقة حاحا ودكالة. وتسمى أيضا بكلمة الشويخ (تصغير لكلمة الشيخ) كما في الشياظمة. وفي جهات أخرى من المغرب كالشاوية، يطلق عليها هرما بولبطاين. ويمكن تسمية بويلماون أيضا ب" بوهو" أو "بوعو"؛ لأنه يخيف الأطفال بمنظره الكروتيسكي وبقناعه المتعدد الأشكال، وكان البوهو في المغرب يتقدم موكب البساط مرتديا جلد الكبش، وبلحية اصطناعية طويلة ويحمل في يده سبحة كبيرة مصنوعة من التين المجفف.

وعلى العموم، فاحتفال بويلماون كان يقيمه الناس في اليوم الثاني مباشرة بعد عيد الأضحى، فيلبس أحدهم جلد الخروف، فيقدم مجموعة من الفرجات الدرامية المسلية الزاخرة بالفكاهة والدعابة والبساط، وغالبا ما كان اللاعب المتنكر يتجول بالمداشر والأحياء مرفقا بعازفين يعرضون مالديهم من عروض فرجوية ممتعة وساحرة، وكانوا يكافأون بهدايا مادية وعينية ( البيض والدجاج واللحم...).

ومن هنا، فإن فرجة بويلماون تعتمد على مجموعة من المقومات الفنية مثل: فعل التنكر عن طريق استخدام قناع جلدي حيواني، والانصهار داخل الاحتفال الكرنفالي، وتقديم مجموعة من العروض الشعبية المبنية على البساط والتشخيص الدرامي الشعبي الارتجالي، وتوظيف الكروتيسك والباروديا والتهجين والفكاهة والمفارقة، والاستعانة بفرجات طفلية ضمنية عبر إثارة الخوف والرعب في نفوس الصغار، واستعمال الغناء والموسيقى ( الغيطة والطبول...).

وتتجلى درامية هذه الظاهرة الفنية في طابعها الاحتفالي الكرنفالي الشعبي والجماعي حيث يلتحم الجمهور مع الممثلين المتنكرين، وفي هذا السياق يقول حسن بحراوي:" يمضي موكب بوالجلود في طريقه بين غناء ورقص واعتراض سبيل المارة فيزور بيوت الوجهاء كالباشا والقايد أو الأمغار أو حتى بعض الأولياء ومقدمي الزوايا الذين يستقبلونه بسرور ويكرمون وفادته بما ملكت أيمانهم، وهكذا يتلقى الموسيقيون والممثلون الذين يرافقونه البيض وقطع اللحم والنقود وسوى ذلك مما يقتسمونه فيما بعد أو يعدون به احتفالا يكون بمثابة زردة يحضرها جميع المشاركين.

ويمتد هذا الاحتفال التنكري البهيج ليومين أو ثلاثة وربما استمرت الفراجة طيلة الأسبوع إذا ماصادف الحماس والتشجيع من لدن المتفرجين."

يتبين لنا- إذن- أن بويلماون فرجة شعبية درامية قائمة على فعل التنكر موجهة بالخصوص إلى الأطفال الصغار من أجل إمتاعهم وتسليتهم.

 ظاهرة إمذيازن:

عرف الأمازيغيون المغاربة ظواهر مسرحية أخرى كظاهرة الفنانين المتجولين المعروفين ب"إمذيازن"، والذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر، ويتجولون بين القرى والأسواق في فرق جماعية، وهم يغنون، ويرقصون، ويستعرضون حركاتهم البهلوانية وتشكيلاتهم الجسدية، و يقدمون عروضهم المسرحية على غرار الشعراء البهلوانيين أو شعراء التروبادور في الأدب الفرنسي إبان العصر الوسيط. وهؤلاء المتجولون معروفون في منطقة الريف المغربي بدفهم الخشبي الدائري المغلف بالجلد الرقيق، ونايهم القصبي المتميز، وألبستهم الخاصة.

ويوجد هؤلاء الفنانون الشعبيون كذلك في الأطلس الجنوبي الشرقي، ونذكر هنا بخاصة الفنانين المنحدرين من قبيلة "آيت حديدو"، والذين كانوا يسافرون عبر مناطق المغرب في شكل جوقة كاملة. " في حين كان المغنون المتجولون القادمون من سوس يصحبون معهم، في غالب الأحيان، صبيانا راقصين لا تبرأ سمعتهم من اللوم...".

وكان الهدف من هذه التنقلات هو الحصول على المكاسب المادية والأعطيات التي كانت تعطى لهم بعد الحفلات الدينية والمناسبات العائلية كالولادة والعقيقة والعرس والمولد النبوي.

 ظاهرة أورار أو أورارن:

لا ننسى ظاهرة درامية احتفالية شعبية أخرى عند الأمازيغيين تتمثل في حفلة العرس الأمازيغي الريفي "أورار/ أورارن"، وكانت هذه الأعراس بمثابة مسرح شعبي احتفالي يندمج فيها الحاضرون مع العارضين في احتفال بهيج، قد يمتد من المساء إلى الصباح لمدة تصل إلى أسبوع كامل أو أكثر.

ويستند هذا الحفل الدرامي الفطري في الحقيقة إلى توظيف الجسد كثيرا بطريقة كوريغرافية راقصة فردية وجماعية، تعتمد على هز الأرداف والأكتاف والأرجل علوا ونزولا، وضرب الأقدام على الأرض قوة وفحولة وشجاعة؛ لأن ذلك يذكر الأمازيغيين بالرجولة الحقيقة، ويحيلهم على نضالهم المستميت في مقاومة الأعداء الأجانب.

هذا، وترد في هذه الحفلات الشعبية الأمازيغية البهيجة قصيدة تامديازت بأنماطها الشعرية، وتحضر الموسيقى بأنواعها الخلابة، وتكثر الأهازيج النسوية والذكورية، ويختلط الجميع في رقصات احتفالية مثيرة للجمهور المتتبع، والذي بدوره يشارك في الحفل، فيكسر الجدار الرابع عبر التحامه بالفنانين والمبدعين والمغنين والراقصين الأمازيغ.

 ظاهرة إزران أو إزلان:

كان لشعر " إزران أو إزلان" مكانة هامة في نفوس الأمازيغيين، وخاصة "إزران" الحب والهوى، أو "إزران" التعيير والهجاء، أو"إزران" الحروب والمقاومة. وكان الإنشاد الشعري يرافقه غالبا الرقص الفردي أو الرقص الثنائي أو الرقص الجماعي، حيث كان الراقصون يستعينون بضربات الأيدي أو الأرجل أو ضربات السيوف والمعاول أو البنادق. وقد" كان للشعر عامة مكانة مشرفة عند الطوارق الصحراويين. وكما ينتظر من هذه القبائل المحاربة بطبيعتها، فإن شعرها الملحمي هو الغالب في إنتاجها. وكانت أشعار الطوارق يتغنى بها في" مجالس الحب" المدعوة" آهال". وقد كانت هذه المجالس عبارة عن تجمعات أساسها التسلية الجماعية، يقصدها الناس من مسافات تبلغ مئات الكيلومترات، كما أنها كانت تقام تحت رئاسة امرأة من أرستقراطية الطوارق مشهود لها بالذكاء وبثقافتها الأدبية، أو بموهبتها في ارتجال الشعر. وكان التجميع يبدأ أثناء السمر حول الخيمة المشرفة على التجمع، بحيث ينهمك المشاركون في المقارعة بالقصائد الملحمية والكلمات الحلوة، وإنشاد المقطوعات الشعرية المختلفة....".

ويبقى" إزلان" المرتبط بالرقص والموسيقا والغناء والارتجال من أهم مظاهر التمثيل المسرحي عند الأمازيغيين في العصر الوسيط إلى يومنا هذا. وذلك، أن " الفتيان والفتيات يقفون وجها لوجه في صفين، فيلقي أحدهم بجملة يعيدها كل فرد بدوره، ثم تلقى جملة أخرى، وهكذا... وفي نهاية كل بيت من الشعر، فاصل غنائي ينشده الجميع بدرجة صوتية حادة، ويصاحبه قرع على الطبول ورقص على شكل تموجات جسدية. وقد تمتد هذه الجلسات بعض الأحيان إلى آخر الليل وينتهي الضرب، وإيقاع الشعر، وحركات الرقص على خلق نوع من التنويم يضيع فيه العقل والقلب....".

 الأشكال اللعبية الاحتفالية:

ظهرت عند الأمازيغيين أيضا مجموعة من الأشكال اللعبية الاحتفالية الأخرى التي شكلت ما يسمى بالظواهر المسرحية الفطرية أو ما يسمى بفترة الأشكال اللعبية التي اتخذت أبعادا طقوسية واحتفالية، وكان يشارك في هذه الأشكال اللعبية الأطفال الصغار والشباب والكبار على حد سواء.

ومن هذه الظواهر الفطرية ما قبل المسرحية نجد: فولعلاع، وشاح ماجّاح، وقاشقاش، وأقلوز، وإيمدقان، وإيمذيازن، وأورار، وأقنوفار، وثيحوجا نتوافيت، وثيحوجا طامزا، وبيکو صورو تايني، وزيمزامزو، وأوليما، وثيخامين، وموراي تاسريث، وثاسريث أونزار، ولابويا، وإيزران، وپيصو، وأرمّاس، وسبحاينو خاليق، ورقام، وريپالاو، وتولاّ، وءاندار ثاشنيفت، وأمسجباذ...

وكان الإخراج المسرحي في هذه المرحلة عملا جماعيا فطريا بطريقة عفوية لعبية عشوائية، وكان الممثلون جميعهم مخرجين يقومون بعملهم بكل بساطة وسذاجة فنية. ولا يمكن الحديث هنا عن الإخراج المسرحي بالمفهوم المعتاد للإخراج إلا من باب التجاوز ليس إلا.

خاتمة:

تلكم - إذن- أهم الظواهر المسرحية الفطرية التي عرفها الأمازيغيون المغاربة منذ تواجدهم في بلاد تامازغا إلى يومنا هذا. بيد أن هذه الظواهر الفلكلورية الشعبية بدأت تنقرض من يوم إلى آخر، بعد أن دخلت رياح التغيير من الغرب والشرق على حد سواء.

وهكذا، رأينا الإنسان الأمازيغي يستبدل عاداته وأعرافه وتقاليده الثقافية والحضارية بعادات لا تمت بصلة إلى آبائه وأجداده. وقد أثر كل هذا سلبا على هويته وكينونته ووجوده، فأصبح الإنسان الأمازيغي اليوم مقصوص الجناح تهميشا وإقصاء، يحس بالوحدة والعزلة والاغتراب الذاتي والمكاني والثقافي والحضاري. وكل ذلك، حينما ضيع بنفسه أصالته الهوياتية، فاسترخص كينونته الإنسانية، ثم ازدرى فلكلوره الشعبي أيما ازدراء، ثم انساق وراء تقليد الغرب والشرق محاكاة وتجريبا. وبذلك، يكون الإنسان الأمازيغي قد فرط في أهم مقومات وجوده الحضاري والأنتروبولوجي الحقيقي، والذي يتمثل في المحافظة على الفنون والآداب بصفة خاصة وتراثه الشعبي بصفة عامة.

- حسن بحراوي: المسرح المغربي، المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1994م، ص:72؛
- حسن بحراوي: المسرح المغربي، ص:73؛
- حسن المنيعي: أبحاث في المسرح المغربي، منشورات الزمن، الطبعة الثانية 2001م، ص:11؛
 
- هنري بوسكي: البرابرة، سلسلة ماذا أعرف؟ عدد718، ص:89-90؛
- هنري بوسكي: البرابرة، سلسلة ماذا أعرف، عدد 768، ص:128؛
 
- هذه الظواهر الاحتفالية الأمازيغية سنشرحها - إن شاء الله- في دراسة مستقلة لاحقة؛
- انظر:د. جميل حمداوي: المسرح الأمازيغي، منشورات الزمان، الطبعة الأولى سنة 2009م؛

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى