الأحد ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم أحمد الخميسي

طفل في قفص

الوقت ظهرا والجو حار والهواء متجمد بلون القصدير الأبيض. الطريق غير ممهد مثقوب بعشرات الحفر، تغطيه برك الماء الصغيرة، وتعلو فيه أكوام من التراب والحجارة. مشى وهو يتفادى الحفر في طريقه إلى محطة القطار. على جنب كان ثمة ونش ضخم برافعة وسائق مختف في الأعلى داخل كابينة عالية يحرك جرافة الونش في الأرض. حاول أن يرى وجه ذلك السائق. عدة مرات من قبل كان يتوقف ويظلل عينيه بكفه ويرفع بصره لأعلى فلا يرى شيئا سوى كاسكتة فوق رأس السائق تتحرك يمينا ويسارا.

يتجاوز الونش ويواصل سيره. يلهث. يفكر أن الحياة وقت للعب، ووقت للحب، وقت للعمل، ووقت للتساؤل. وهو في السن التي يكون كل شيء عندها قد ضاع، ولم تبق سوى قدرة العقل العجيبة على التفكير وإدامة النظر في المرآيا التي بداخله. أحيانا كان في غمرة الأسئلة الثقيلة يخاطب الله برجاء وحيد، أن ينساه هنا، في هذه الحياة، يتركه على الأرض، ويقسم لله أنه إذا تركه فإنه لن يفعل أي شيء، لن يحب امرأة جديدة، لن يضع أملا أو قلبا ما في هدف، لن يصارع من أجل شيء، أو ضد شيء، لن يصادق مخلوقا، لن يكلم أحدا، بل ولن يغادر بيته أبدا. كل ما يتمناه أن ينساه الله هنا على الأرض بحالته التي هو عليها الآن، لا أفضل ولا أسوأ، ليجلس وراء نافذة يراقب مجرى الحياة، كيف تتطور العلوم بسرعة مذهلة، كيف يضخ الشباب الدماء في قصص حب جديدة، وكيف تحمر وجنات الفتيات في أول الغرام. سيجلس هادئا ساكنا تماما يتأمل كيف تنمو الأشجار وكيف يغيب القمر وتهب الرياح وكيف يعلو موج البحر دافقا زبده الأبيض على الشاطيء. إذا نسيه الله هنا، فإنه لن يتدخل في شيء، أي شيء، فقط سيظل يتنفس ويرى ويتابع دون أدنى حركة، مثل حجر ساكن مفكر وشاعر.

 واصل سيره في الشارع، وفجأة جاءت من خلف ظهره دراجة عتيقة وتجاوزته فظهرت أمامه متحركة للأمام. كان عليها رجل بجلباب يتمايل على الناحيتين مع ضغطه على دواستي الدراجة فينتفخ جلبابه من أسفل بالهواء.. خلف الرجل مربوط على مسند قفص صغير كالذي تباع فيه الفاكهة. في داخل القفص جلس طفل صغير لا يتجاوز الخامسة، يهتز مع حركة الدراجة، شعر رأسه يتطاير في الهواء، وقد تشبثت قبضتاه الصغيرتان بحافة القفص. تابع القفص وظهر الطفل ببصره، وفجأة استدار الصغير برأسه للخلف ناظرا إليه، حينئذ رأى وجهه كاملا. شعر مهوش وجبين عريض بشكل لافت للنظر، شفتاه منفرجتان عن بسمة واسعة وأسنان متفرقة. وفي لحظة سدد الطفل إليه نظرة سريعة سعيدة ساخرة، حكيمة وآسية، مشبعة ببهجة مريرة، مثل إنسان في مأزق لكنه سعيد به يجد فيه معنى مفرحا و ساحرا.

صفت روحه كأنه لم يعش كل تلك الأعوام المرتبكة. وسرعان ما أدار الطفل رأسه للأمام وعاد يتطلع إلى بعيد متشبثا بقوة بحافة القفص.. أرسل بصره للحظات خلف الدراجة وهي تبتعد، وهو يحاول أن يدرك معنى نظرة الطفل. أهو فرح بركوب دراجة تجري في الهواء ؟ لكن من أين جاءت تلك النظرة المنتشية بحب الحياة بحكمة وأسى؟ 
 واصل سيره ببطء. وتجنب تلا صغيرا من الأتربة، وحين رفع عينيه رأى الدراجة البعيدة على الطريق وهي ترتد راجعة نحوه. الجلباب الذي ينتفخ من أسفل يمينا فيسارا، والطفل داخل القفص. وأمام عينيه مباشرة مرق وجه الطفل..
استدار الطفل برأسه للخلف. صغير ضئيل قليل مثل نقطة من حياة داخل قفص يبتسم له بحنو ومرارة وسرور غامر.

تجمد مكانه، وأحس أن قلبه ينخلع من مكانه، وغمره ذهول مثل سماء صافية، وتعلق بصره بالدراجة التي تنأى، وجاشت كل نفسه بحب ودموع، ومد ذراعا في الهواء نحو الدراجة البعيدة هاتفا في الصغير : يا ابني.. يا ابني.
ودارات صيحته مثل دوامة صغيرة في الهواء.
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى