الأربعاء ٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم أحمد الخميسي

مظروف

وضع الأستمارة في مظروف ومرر لسانه علي الصمغ الجاف في طرفه وأغلقه. لم يطالبه أحد بالاستمارة. هو الذي قرر بنفسه أن يسلمها ليتخلص من وطأة الانتظار أو المباغتة. هكذا سيكون أفضل. وضع المظروف علي سطح المنضدة في الصالة لكي يذكره مرآه عند خروجه بأخذه وتسليمه للمسئول في الأحوال المدنية. لكن المظروف الأصفر ظل في مكانه نحو أسبوعين حتي غلفته طبقة خفيفة من غبار وفتات خبز ورماد. كان بصره يقع عليه من وقت لآخر، فيقول سآخذه أول مرة أغادر فيها البيت. بم تلهي عنه؟ لا يدري بالضبط. ربما تململ شيء في أعماقه غير مستريح للقرار، أو أنه اعتاد علي وجوده في مكانه فلم يعد يبصره، كما لا يري المرء الوقت حين يعتاد عليه، أو جدران المكان فتصبح وهي قائمة غير مرئية.

منذ أيام زاره أحد الأصدقاء القدامي وهو يهم بالخروج، فجلسا طويلا واستعادا ذكريات كيفما اتفق، وحين غادرا البيت معا نسي المظروف. مرة أخري تلقي اتصالا هاتفيا بشأن مكافأة نهاية الخدمة، وللحظة وهو يدفع ذراعه بعجل في كم القميص ومض المظروف في خياله ثم انطفأ في لهوجة ارتداء بقية ملابسه، وخرج. تذكره حين رجع، فقط وهو أمام الشقة يفتح الباب، فمط شفته السفلي باستسلام. وحين دخل قصد المظروف مباشرة، ورفعه ونفخ عنه الغبار ثم رشقه بين سطح المرآة وحافة إطارها. وقف يتأمله، كأنما ليحفر موقعه في ذاكرته، وقال لنفسه من المؤكد الآن أنني سألمحه عند خروجي. من وقت لآخر كان بصره يقع عليه فيجده مطلا من مكانه، مثل رأس ديك منكسرا ومرهقا يطوي مرارته بلا صوت.

صباح اليوم فتح باب الثلاجة فلم يجد علي أرففها المضاءة ما يؤكل ولا حتي قطعة جبن صغيرة. فقط كان ثمة طبق صيني واحد علي طرفه شريحة طماطم حمراء ضرب العفن الأبيض في حوافها. لابد من شراء أي شيء. خبز،علبة سردين محفوظ، ليمون، أي شيء. وضع يده علي مقبض الباب، منهكا من ثلاث ليال متعاقبة من كوابيس ونوم متقطع وصمت، وشاهد المظروف مرشوقا ونصفه العلوي مدلي لأسفل.

أخذه ببطء ودفعه إلي جيب الجاكتة الأيمن، وخبط عليه بيده خبطة خفيفة يؤكد لنفسه شيئا ما، ثم خرج.

أمام باب العمارة تمهل يجول بعينيه في حركة الشارع، ثم قطع الطريق إلي الجهة المقابلة، وسار ببطء علي الرصيف. تجاوز ثلاثة منازل عن يساره تحتها محلات كان يعرف أصحابها من زمن بعيد، ماتوا، وتولي أبناؤهم شئونها. أخيرا ظهر مبني الأحوال المدنية العتيق فتوقف لحظة، ثم دخل من البوابة الحديدية العالية ومشي في ممر ضيق طويل انتهي به إلي قاعة كبيرة ترامي فضاؤها الفسيح وراء موظفين برزت رؤوسهم من نوافذ صغيرة تراصت أمام أصحاب الحاجات حاملي الأوراق.

أخذ مكانه في صف عند إحدي النوافذ وعندما حل الدور عليه أحني كتفيه قليلا إلي مستوي النافذة ومد يده بالمظروف للموظف الذي تفحصه من الأمام والخلف وأعاده إليه قائلا: الشباك الثالث. اعتدل واقفا يمسح المكان بنظرة، فأضاف الموظف ببطء وبلفظ واضح: يمينك بعد شباكين بالضبط. خرج من الصف وتوقف مترددا بقلق وفي خاطره تأجيل العملية ليوم آخر، غدا،أو بعد غد مثلا. لكنه ما لبث أن نفض أصابع قبضته كأنه يطرد الشك والقلق.

مام الشباك رقم 3 وقفت امرأة ضخمة تتنفس بصعوبة وراءها شاب صغير السن يهز كتفيه باستهانة. انتظر خلف الاثنين صامتا.انتهت المرأة من عملها واستدارت تفسح بقبضتها طريقا تمر منه. وقدم الشاب أوراقه علي عجل. لكن الموظف الأصلع القصير تمتم بشيء، فاعتذر الشاب وقال وهو ينصرف إنه سيرجع بعد دقائق لأن مسكنه قريب. تقدم إلي الشباك، لكن الموظف نهض في تلك اللحظة بالذات، وانسحب إلي عمق القاعة الكبيرة وبدا أقصر مما كان في سيره بين الأعمدة الطويلة في القاعة. وتوقف بعيدا قرب خزانات مرتفعة حتي السقف امتلأت رفوفها بسجلات سميكة متربة.

مكث في مكانه أمام الشباك يتتبع بعينه اليسري حركات الموظف وهو يفتح أحد السجلات بين ذراعيه. طال الوقت وشعر بساقيه ترتعشان من الوقفة، فلوح بالمظروف في الهواء ليذكر الموظف بوجوده، ووقعت دورة المظروف المتكررة في مجال رؤية الموظف فحاد ببصره نحو الشباك، ثم عاد إلي عمله وهو يضم أطراف أصابعه، يهزها في الهواء، طالبا منه بالإشارة أن يتريث.

استند بمرفقيه علي الرقعة المبلطة الممتدة من حافة الشباك للخارج, ومال رأسه لأسفل يرتجف. الانتظار لحظة عقاب، أينما كان الانتظار، ولأي سبب. آلمه عظم مرفقيه، فاعتدل، وانتبه إلي أن الموظف القصير يتردد بين أحد المكاتب وأرفف السجلات بقلم في يده يدقق شيئا. ناداه في نفاد صبر: يا مولانا.. أنا هنا من زمن !

أقبل نحوه متبرما وجذب المظروف من يده وفتحه، فمال ناحيته بأذنه اليمني ليسمعه إذا تكلم. أشار الموظف بسبابته إلي خانة في أسفل الاستمارة وقال باختصار: وقع. وبينما يخرج قلما من جيبه كان الآخر قد انسحب إلي الداخل ثانية. لم يتمالك نفسه فصاح به غاضبا: يا مولانا.. يا محترم ! التفت الموظف إليه من بعيد ثم أحني رأسه بهدوء يسجل شيئا. علا صوته وقد أفلتت منه أعصابه: أيصح أن تتركوا الناس ينتظرون هكذا؟! تدخل آخر بصوت رفيع من شباك مجاور ناصحا: تفضل حضرتك استرح علي الدكة هناك حتي ينهي ما في يده. سار وأطرافه ترتعش نحو دكة طويلة موضوعة بمحاذاة الجدار وجلس وهو ينفخ بانفعال: عيب عليكم، عيب جدا.

في ذلك الوقت كانت الساعة قد اقتربت من الثانية ظهرا، وانصرف أغلب أصحاب المصالح، وبعد قليل لم يبق في المكان أحد تقريبا. شعر وهو جالس علي الدكة بنغزة خفيفة في عظم مرفقيه، ورأي نهاية شارعه المعتم، ونجوي جالسة بجنبها خلف سور الشرفة الوحيدة المنيرة معتمدة بمرفقها عليه سارحة في الفراغ المعتم أمامها بنظرة رصينة مستسلمة. وأخذ يعبر الجهة المقابلة للشرفة كل يوم، يسترق النظر إلي رأسها ونور اللامبة الأصفر الباهت يتشتت حوله، يخترق العتمة، صبيا عابرا دون أن يجرؤ علي رفع بصره نحوها، آملا كل ليلة أن ذلك السكون الهش الرقيق يولد من أجله هو. ما الذي كانت نجوي تنتظره بشغف كل مساء؟ أو من؟ . ورأي الشرفة وقد صارت خاوية، مطفئة، والسكون يعم البيت الفارغ، والشارع غارق في الظلمة وظلال القمر، فطالت حياته كلها بعد ذلك ترقبا لانبعاث النور في الليل.

حين فتح عينيه وجد المكان معتما، صامتا، رطبا. نهض واقفا ويده مدلاة إلي جانبه بالمظروف. ما من أثر يدل علي الحياة سوي صوت أنفاسه. أدار عينيه فيما حوله فلمح بصيص ضوء متسربا من تحت الباب، تحرك إلي هناك لكن الباب كان موصدا، ضرب عليه بيديه الاثنتين، وأرهف السمع فترامت إليه أصوات مبهمة متلاشية. استدار إلي القاعة وخطا حتي توقف أمام شباك الموظف. حدق في العتمة متوقعا أن يبرز مسئول من وراء حاجز أو خزانة حاملا شمعة، إلي أن أيقن أنه وحده في الظلمة والصمت.

تلاحقت أنفاسه وهتف بقوة ويأس وغضب: أيعقل هذا؟

وتردد صوته بين الأعمدة كالرعد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى