الجمعة ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم حمدان رضوان أبو عاصي

اللغة المصاحبة في قصيدة (إلى غزة ...لا تصمتي)

 يقصد باللغة المصاحبة أو اللغة الجانبية الأداءات -الصوتية وغير الصوتية- التي تصاحب الكلام المنطوق وليست منه وتؤثر في معناه. وهي من موضوعات علم الأصوات الوظيفي. وتظهر أهمية هذه اللغة المصاحبة في إظهار المعاني الجليلة التي تختفي وراء الكلمات والألفاظ؛ ولذلك تعتبر جزءاً من علم ما وراء اللغة. ومن هذه الأداءات الصوتية: التنغيم، والنبر، والتزمين، والإيقاع. أما الأداءات غير الصوتية"، فهي: السياق، والحركة الجسمية المصاحبة للكلام.

وتهدف هذه الدراسة إلى إظهار دور اللغة المصاحبة في إجلاء المعاني الجليلة التي تختفي وراء الكلمات في قصيدة (إلى غزة ...لا تصمتي) للشاعرة ابتسام صايمة، ولا يظهرها إلاّ ما يرافق النص المنطوق من أداءات صوتية أو غير صوتية، ليست منه وتؤثر في معناه.

 وقد توصلت الدراسة إلى أنه يعدُّ من الإجحاف أن تقرأ قصيدة (إلى غزة ...لا تصمتي) للشاعرة ابتسام صايمة، دون إعطائها حقها في نطق سليم، ومستحقها من تنغيم، أو نبر، أو تزمين، أو إيقاع لغوي؛ ليظهر ما في نفس الشاعرة من معانٍ ومشاعر جياشة لا تظهر إلا بها.
لعل من الإجحاف بمكان أن يلقى النص الإبداعي الأدبي (شعراً كان أم نثراً) إلقاءً عادياً دون إعطائه حقه من نطق سليم، ومستحقه من أداءات صوتية، أو غير صوتية مصاحبة للنص الأدبي، الذي أُرِيد له أن يؤثر في سامعيه؛ لتصل الرسالة إلى غايتها المرجوة.
لأجل ذلك فإنه يتوجب على الملقي أن يعي كل ما يدور في نفسية الأديب أو الشاعر من أحاسيس ومشاعر، وأن يتمثلها ويتفاعل معها؛ لتظهر بالصورة التي يريدها الأديب، وتجول في خاطره. وقد أُطْلِق على هذه الأداءات أو القرائن الصوتية وغير الصوتية المصاحبة للكلام مصطلح اللغة المصاحبة أو اللغة الجانبية.
لقد اختلف علماء اللغة في مفهوم اللغة الجانبية أو المصاحبة للكلام، وفي السمات التي تختص بها، فمنهم من يرى أنها: "مصطلح يطلقه اللغويون على الجوانب الصوتية التي تصاحب الكلام، أي أنها ليست تلك الألفاظ التي ينطقها المتكلم، ولكنها حالة الصوت عند نطق الألفاظ ارتفاعاً أو انخفاضاً أو تنغيماً أو غير ذلك" [7/88].

ومنهم من يرى أنها تهتم باستخدام الظواهر غير الصوتية مثل تعبيرات الوجه، أو حركات الرأس أو العينين، والإشارة (بأعضاء الجسم) التي قد تفيد الموافقة، أو تضيف ظـلالاً معينة من المعاني إلى ما يقوله الناس [6/21]. 

والقسم الثالث والأخير من هؤلاء العلماء يجمع بين المفهومين، ويرى أنها تطلق على الجوانب الصوتية، وعلى الجوانب غير الصوتية المصاحبة للكلام، أي أنهم يرون أنَّ اللغة الجانبية أو اللغة المصاحبة تشير إلى ذلك الجزء من الحدث الكلامي الذي لا يتسم بأنه تركيب لفظي لغوي، أي إلى المتغيرات مثل: الطرق الاجتماعية المميزة، والإشارات الجسمانية، وتعبيرات الوجه، وتغيرات الصوت، ... الخ [6/21].

وتُعَدُّ اللغة المصاحبة (عند من يرون أنها تقتصر على الجوانب الصوتية المصاحبة للكلام) من أهم الموضوعات التي لها علاقة وثيقة بالأداء الصوتي المصاحب للكلام؛ لكونها تتعلق بحالة الصوت اللغوي عند النطق بالجملة، فالجملة بوصفها كلاماً منطوقاً لا يتأتى معناها المقصود بالألفاظ والتراكيب اللغوية فحسب، بل هناك وسائل وأداءات صوتية وغير صوتية تشارك في تحديد هذا المعنى وتؤثر فيه، من بينها اللغة الجانبية.
ويذكر بعض الدارسين المعاصرين: أن اللغويين رصدوا موازين معينة لهذه اللغة الجانبية تؤثر في معنى الكلام، سواء بإضافة معنًى جديدٍ على المعنى الأصلي للألفاظ والتراكيب اللغوية، وأحياناً تؤدي عكس ما تؤديه الألفاظ المنطوقة نفسها. وهذه الموازين هي: ميزان جهـارة الصوت، وبه تتحدد درجة ارتفاع الصوت، أو انخفاضه عند نطق معين. وميزان طبقة الصوت، وهو التنغيم الصوتي الخاص المرافق للنطق، الذي يعطي اللفظة مدلولاً جديداً. وميزان الصوت المنفتح، الذي يستخدم في الخطب الدينية والسياسة الموجهة إلى الجماهير، في الأماكن المفتوحة أو الساحات العامة. وميزان البطء والسرعة، ويقصد به السرعة التي يتخذها المتكلم ويحسها السامع نحو الكلام المنطوق، وقد تكون هذه السرعة: بطيئة، أو سريعة، أو متوسطة [7/89-92].

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ لهذه اللغات المصاحبة للكلام دلالات عرفية شأنها شأن اللغة العادية، وقد تؤدي أحياناً عكس ما تؤديه الألفاظ المنطوقة نفسها [7/92]؛ ولذلك فإنَّ هذه اللغات تعتبر جزءاً من علم ما وراء اللغة [6/21].

 وبغض النظر عما ذُكِر من موازين لهذه اللغة المصاحبة للكلام وليست منه، وتؤثر في معناه، فإنه يمكننا تقسيم مكوناتها وعناصرها قسمين: الأول منهما- العناصر أو القرائن الصوتية، مثل: التنغيم، والنبر، والتزمين، والإيقاع. أما القسم الآخر فهو ما يمكن تسميته "العناصر غير الصوتية"، مثل: السياق، والحركة الجسمية المصاحبة للكلام.

1- التنغيم:

يقصد بالتنغيم التنوعات الصوتية التي تكسب الكلمات والألفاظ نغمات موسيقية متعددة. وللتنغيم عند علماء اللغة المحدثين تعريفات عدَّة، منها:‏

 هو "ارتفاع الصوت وانخفاضه في أثناء الكلام للدلالة على المعاني المختلفة للجملة الواحدة " [4/198].

 هو "موسيقى الكلام" [1/124].

 هو "الإطار الصوتي الذي تقال به الجملة في السياق" [8/310].
يتضح من تلك التعريفات أن التنغيم عنصر صوتي تتراوح شدته بين الارتفاع والانخفاض، وذلك على مستوى الحدث الكلامي.‏

وتأتي أهمية التنغيم من تعدد البيئات اللغوية أو اللهجية بتعدد النغمات فيها، فلا تكون هذه النغمات بشكل عام منساقة على وتيرة واحدة في السياقات الكلامية، فمنها ما يكون مستوياً، أو هابطاً، أو صاعداً. فكل كلمة أو جملة ينطق بها لابد أن تشتمل على درجات مختلفة من درجة الصوت، ما بين عالية، ومنخفضة، ومستوية، ومنحدرة تتناسق وتتناغم لتُؤَدّي الكلمة والجملة.

ويرى تمام حسان أنه يمكن تقسيم التنغيم وفق شكل النغمة المنبورة الأخيرة في المجموعة الكلامية إلى: ما بين هابطة إلى أسفل وصاعدة إلى أعلى أو ثابتة مستوية، كما يمكن تقسيمها وفق مدى النغمة سعة أو ضيقاً إلى أقسام ثلاثة: المدى الإيجابي، والمدى النسبي، والمدى السلبي. وبذلك يكون مجموع التقسيمات عند تمام حسان ستة نماذج تنغيمية مختلفة، هي كل ما في اللغة العربية من نماذج للتنغيم، وهذه النماذج هي: الإيجابي الهابط، والإيجابي الصاعد، والنسبي الهابط، والنسبي الصاعد، والسلبي الهابط، والسلبي الصاعد [4/199].

وتتغير نغمة الكلام عند البشر بتغير المشاعر والأحاسيس التي تنتابهم من: رضى وغضب ويأس وأمل وتأثر ولا مبالاة، وإعجاب واستفهام وشك ويقين، ونفي أو إثبات، أو العتابَ، أو الاستحثاثَ، أو لفتَ النظرِ، أو الامتعاضَ فيستعينون بهذا التغيير النغمي الذي يقوم بدور كبير في التفريق بين الجمل، فنغمة الاستفهام تختلف عن نغمة الإخبار، ونغمة النفي تختلف عن نغمة الإثبات. وقد يكون التنغيم صاعداً كما في الاستفهام والتعجب أو التحذير. وقد يكون التنغيم مستوياً أو هابطاً أو يتراوح بين الهبوط والصعود في بعض الجمل كما في الخبرية والاستفهامية.

ويقول تمام حسان: أن النغمة الإيجابية الهابطة تستخدم في تأكيد الإثبات، وفي تأكيد الاستفهام بغير هل والهمزة، أما هل والهمزة فيستخدم فيهما النغمة الإيجابية الهابطة. وتستخدم النغمة النسبية الهابطة للإثبات غير المؤكد، مثل التحية. وتستعمل النغمة السلبية الهابطة في تعبيرات التسليم بالأمر الواقع، نحو: "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله"، وعبارات الأسف والتحسر. أما العتاب، والتمني فيناسبه النغمة السلبية الهابطة [4/203].

ولعل من الأمثلة التي توضح دور التنغيم في إجلاء وإظهار المعاني والمشاعر والأحاسيس التي تنضخ بها نفسية الشاعر، ما ورد في قصيدة الشاعرة ابتسام صايمة (إلى غزة ...لا تصمتي) [10/595]:

يا غزة المكلوم يا وجع الرجال
قولي ولا تخشَيْ سؤال
أشلاءُ مَنْ ؟ تلك التي نُثرت على شجر الحديقة
ودماءُ مَنْ ؟ تلك التي سالت على الطريق العتيقة ؟
فستان شهدٍ أم ضحى؟
أقلام يحيى أم محمد أم لمى ؟
تلك المبعثرة التي كانت تسمى غرفة تؤوي الصغار !!
كانوا هنا ..
في غمضة العين التي يا ليتها لم تستفق يوماً لتروي ما جرى !!
كانوا هنا وبلحظةٍ صاروا هناك

حقاً إنه ليس من العدل أن تقرأ تلك الأبيات دون تنغيم يظهر ما بها من هول وفظاعة وأسى. فإننا إذا ما قرأنا "يا غزة المكلوم يا وجع الرجال" بنغمة (صاعدة) كما هو الحال في أسلوب النداء سيكون الكلام إنشاداً عادياً، ولن تظهر المعاني والمشاعر التي تبتغيها الشاعرة، ولكنها تظهر قوية واضحة من خلال قراءة أسلوب النداء (يا غزة المكلوم) بنغمة نسبية هابطة، وتزداد هبوطاً لتصبح (سلبية هابطة) مع قراءة (يا وجع الرجال)؛ لتظهر ما في الكلام من أسى وهول وفظاعة مرعبة، وهل هناك من هول وفظاعة وأسى أعظم من (وجع الرجال في غزة). وقد تضافر مع التنغيم أداءات أخرى ساعدت في إظهار هذه المعاني منها: اختيار الكلمات، والسياق العام للنص وهو (حرب غزة بأهوالها ومآسيها)، والسياق الخاص للنص الذي يظهر في تساوق الكلمات الحارة، التي تحوَّل الأساليب الإنشائية والخبرية إناء يطفح ببركان من المشاعر والأحاسيس ما كان ليظهر إلا بالتنغيم.

بينما يفضل قراءة الأمر والنهي في قول الشاعرة "قولي لهم ولا تخشي سؤال" بنغمة إيجابية صاعدة؛ لتعبر عن: أنك يا غزة مازلت قوية وعزيزة ولن تخضعي بإرهابهم، وستبلغين العالم عن جرائم المعتدي.

وتستخدم النغمة النسبية الصاعدة في الاستفهام غير الحقيقي في البيتين الآتيين:

أشلاءُ مَنْ ؟ تلك التي نُثرت على شجر الحديقة
ودماءُ مَنْ ؟ تلك التي سالت على الطريق العتيقة ؟
لإظهار فظاعة الجريمة وهول ما حدث.

كما تستخدم النغمة النسبية الهابطة في:

فستان شهدٍ أم ضحى؟
أقلام يحيى أم محمد أم لمى ؟
لإظهار الأسى والحزن والشعور بالمرارة.
ثمَّ تتحول النغمة إلى سلبية هابطة في الأبيات الآتية:
تلك المبعثرة التي كانت تُسَمَّى غرفة تؤوي الصغار !!
كانوا هنا ..
في غمضة العين التي يا ليتها لم تستفق يوماً لتروي ما جرى !!
كانوا هنا وبلحظةٍ صاروا هناك

لتأكيد وإظهار التحسر والأسى، والشعور بالمرارة.

2- النبر:

النبر في عرف علماء اللغة المحدثين وضوحٌ نسبيٌّ (أو إبراز الصوت) يتميز به صوت، أو مقطع من بقية الأصوات أو المقاطع الأخرى التي تجاوره في البنية التركيبية، ويسخِّر المتكلم لتحقيق هذه الحالة جهداً عضلياً أعظم [4/194].‏

ويعتبر النبر أشيع في اللغات الغربية منه في العربية، بحيث يمكن أن يتغير معنى الكلمة في تلك اللغات بتغير موقع النبر فيها؛ ولذلك يهتم اللغويون بتحديده في قواميس تلك اللغات.
أما في العربية فإنَّ النبر لا يُغيِّر المعنى، لكنه قد يساعد السامع على الفهم [9/49]؛ لذلك يرى جلُّ الدّارسين المعاصرين أنّ العرب القدامى لم يهتمّوا بهذا النّوع من الدّراسة، وأنّ اللّغة العربية غير منبورة [3/73]. أما في العصر الحديث فقد زاد الاهتمام بظاهرة النبر في العربية من زاويتين:

الأولى: فيما يتعلق بدراسة اللهجات المحلية والمقارنة بين بعضها وبعض.
والأخرى: تتعلق بدراسة الأوزان الشعرية من جوانبها المتصلة بالكم أو النبر، والخلاف الذي نشب حول أهمية أي من هذين الجانبين وغلبته في العروض العربي.
 ويصف علم الأصوات الوظيفي وضعية أعضاء النطق في حالة النطق بمقطع منبور من خلال النقاط الآتية:

 تنشط جميع أعضاء النطق المشتركة في نطق ذلك المقطع.
 تنشط عضلات الرئتين بشكل مميز لدفع الهواء بنشاط أكبر.
 تقوى حركات الوترين الصوتيين وتتسع الذبذبات، ويتقارب الوتران أكثر في حالة الأصوات المجهورة.
 يزداد نشاط الشفتين إذا اشتركتا في النطق.
 تصبح حركة اللسان دقيقة محكمة حتى يضمن وضوح مخارج الأصوات، وعدم التباسها مع غيرها.
 يزداد الجهد العضلي لأعضاء الكلام عامة .
وتظهر أهمية النبر في توضيح المعنى المقصود، أو المراد إيصاله إلى ذهن المخاطب عند شواعر فلسطين في ديوان (لأجلك غزة) في مواضع عدَّّة، منها ما ورد في قصيدة (إلى غزة ... لا تصمتي) للشاعرة ابتسام صايمة في قولها:
قولي لهم
منْ حرَّق الزيتونَ في وضحِ النهار
بوحي بها: هذا هو المسئول عن هذا الدمار

هذا الجزء من المقطع يمكن قراءته دون نبر أيٍ من كلماته، فيكون المعنى: طلب تحديد المجرم الذي حرَّق الزيتون (سواء أكان المقصود شجرة أم حيَّاً سكنياً) في وضح النهار، دون خوف من أحد. ولكن إذا ما قرأناه بالنبر فإنه يساعدنا على فهم ما أراد الشاعر توصيله إلينا من معانٍ متعددة تختلف باختلاف الكلمة المنبورة. فإذا ما قُرِئت بنبر كلمة (مَنْ)، فإنَّ الشاعرة تقصد فضح شراسة الفاعل وشدة عنفه، ويكون المعنى المقصود: افضحي يا غزة هذا المجرم الإرهابي الشرس، هذا الوحش الكاسر الذي كان يظهر للعالم بصورة الحمل الوديع، المعتدى عليه.

أما إذا ما نبرنا كلمة حرَّق، فيكون المعنى المقصود بيان فظاعة الصورة التي تم بها العدوان وليس هناك أفظع من الحرق والاحتراق.
وبنبر ثالث على كلمة (الزيتون)، يظهر هول المكان الذي بدأت فيه الجريمة، وهو حيّ (الزيتون)، الذي يمثل قلب قطاع غزة، ويقسِّمه قسمين، ويمتلأ بأشجار الزيتون، والخضرة، والورش الصناعية والمصانع، والمنازل... وغير ذلك. فمن لا يعرف (الزيتون) لا يعرف (غزة). وما يلفت الانتباه هنا أن السياق الخاص للنص وضَّح أن المقصود بـ (الزيتون) في النص هو (حيّ الزيتون)، وليس شجر الزيتون، وإن كانت شجرة الزيتون ترمز للحياة في فلسطين بعامة، وبذلك يكون السياق الخاص بالنص والنبر قد تضافرا في إفهامنا معنى لم يكن ليكون لولاهما.
أما إذا وقع النبر على التركيب الإضافي (وضح النهار)، فإن ذلك يدل على فظاعة وهول الكيفية والهيئة التي تمت بها جريمة العدو، نهاراً جهاراً وبموافق الجميع... وهل هناك أفظع من أن يتفق الجميع على حرق شعب مسلم لا جرم له إلاّ أن يطالب بأبسط حقوقه في الحياة، وهي الدفاع عن النفس.

3- الإيقاع اللغوي:

ويقصد به التكرار المنتظم لمقاطع صوتية بارزة في اللغة المنطوقة من خلال تبادلها مع مقاطع أخرى أقل بروزاًَ، ويتحدد البروز بعوامل درجة الصوت، وديناميكيته، ومدته؛ ولذلك لا بد من توفر شرطين ليتحقق الإيقاع اللغوي، وهما:
أ- التكرر المنتظم والدقيق لعنصر أو أكثر من عناصره.
ب- أن يعبِّر عن جانب الإحساس والعاطفة. فهناك إيقاع يثير الحزن، وآخر يثير الفرح والسرور، وإيقاع يبعث الحماسة والحيوية أو الشهامة.
أما بالنسبة لأهمية الإيقاع في الشعر فيمكن تلخيصها في النقاط الآتية [2- عدد 1575/ 3-4]:

 إنه يشير إلى عدد من الدلالات السطحية والعميقة في القصيدة.
 إنه قد يبدو صدى لمعنى القصيدة، أو يؤكده، أو يطرح معاني وتفسيرات وظلالاً له، كما يمكن استخدامه لإثارة المعنى وللإيحاء بالصراع داخل بنية القصيدة، فهو أداة للكشف داخل بنية القصيدة،
 يُعَدُّ الإيقاع الموسيقي أقوى عناصر الجمال في الشعر، فالمتلقي غير العربي يطرب للشعر العربي في جرسه وإيقاعه؛ وهذا معناه أن الموسيقى (الإيقاع) عنصر جوهري في تشكيل النص الشعري، ويقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري، ويسهم في خلق مسافة جمالية تجعلنا نتسامى بعيداً عن العالم النثري.
 وقد تمثل الإيقاع اللغوي في القصيدة من خلال النقاط الآتية:

أ- تعدُّ القصيدة من الشعر الحرّ الموزون المقفى، فقد استخدمت الشاعرة تفعيلة البحر الكامل (متفاعلن)، وغالباً ما كانت تسكن الحرف الثاني (إضمار)، فتنتقل إلى (مستفعلن). وأحياناً تحذف (علن) من آخر تفعيلة في البيت، فتصير (متفا)، فتنتقل إلى (فِعلن). وقد كررتها الشاعرة بطريقة خاصة تتناسب والجو الخاص بحرب غزة وأهوالها

ب- استخدمت الشاعرة القافية المتنوعة لكل مقطوعة في القصيدة.

جـ- أكثرت الشاعرة في قوافيها من استخدام حرف (الراء المكررة، وليس الراء اللمسية)، وهي صوت لثوي مكرر مجهور، يظهر على صورة انحباسات وانفجارات متوالية؛ لعلها تعبر عما يجيش في نفسيتها من ثورة وغضب، وحزن وألم، وتحدي، وإظهار الهول، وما إلى ذلك من معانٍ مختلفة.

د- استخدمت الشاعرة ألفاظاً تتناسب والحالة النفسية التي تعبر عنها، ومن هذه الألفاظ: حرَّق- الدمار- ذبح- المذبوح- المكلوم- وجع- أشلاء- دماء- قتلت- سفكت.... الخ. مما يكسب النص ظلالاً لمعاني تعبر بجدارة عن أهوال حرب غزة.

4- التزمين:

يعرف علماء الأصوات التزمين بأنه السرعة التي يتخذها المتكلم ويحسها السامع نحو الكلام المنطوق، سواء أكان كلمة أم جملة، ويمكن وصف هذه السرعة بأنها بطيئة، أو سريعة، أو متوسطة. ويعتبر هذا النوع من الأداء الصوتي مرآةً تعكس عواطف المتكلم وانفعالاته؛ لذلك فهو عنصر مهم من عناصر الأداء الصوتي؛ لأنه يؤثر في تحديد معنى الكلام المسموع وفهمه، ويشعر المستمع بانفعالات المتكلم أو الحالة النفسية المصاحبة للنص.

ويمكن تحديد معدل النطق من حيث البطء والسرعة (قياس التزمين) من خلال تحديد الكم الزمني الفعلي الذي استغرقته الأصوات أو الكلمات المنطوقة، ثم تحديد عدد الأصوات الفعلية التي نطقت، ثم تُقَسَّم الأصوات المنطوقة على الزمن الكلي، فينتج معدل النطق، وذلك يُعرف عند علماء الأصوات بـ "قياس التزمين".
ويكشف لنا معدل النطق عن نوعية التزمين هل هو سريع، أو بطئ، أو سريع جداً، أو بطئ جداً، أو متوسط. ثم يأتي بعد ذلك دور الدراسة والربط بين نوعية التزمين والمعنى أو الدلالة.
ومن الأمثلة القوية التي تبين دور التزمين في توضيح المعاني، قول الشاعرة:

يا أمةً ما عاد فيها أي نَزْرٍ من كرامة !!
في غزة الأطفال يتحفون بالبرد الذي عرفوه مُذْ فقدوا البيوتْ
لكنها الأقدار يا عربَ المخازي والخيانة والسكوتْ 
دُفنت شهادة نخوةٍ كنا نظن بأنها يوما لديكم لن تموتْ 

أطفالنا قُتلت
ودماؤنا سفكت
وبيوتنا جرفت 
والآه تتلو الآه في نزفٍ مميت
يمكن أن تقرأ هذه الأبيات بأكثر من طريقة من طرق التزمين، وكل طريقة تعطي معنى غير المعنى الأول. فإذا قرأت المقطوعة الأولى بطريقة بطيئة، ونغمة هابطة، فإنها تفيد إظهار الغضب مع التوبيخ والشتم والإهانة والتحقير. أما إذا قرأت بطريقة سريعة فإنها تفيد الاستخفاف والاستهتار. وكذلك إذا قرأت المقطوعة الثانية ببطء، ونغمة هابطة، فإنها تعطي ظلالاً لمعنى الحزن والألم والتحسر والفقد. بينما إذا قرأت بصورة سريعة ونغمة صاعدة نسبياً، فإنها تكسب المعنى ظلالاً من الخوف والرعب واجترار الذكريات المخيفة.

5- السياق العام والخاص (سياق الحال والسياق النصي):

ويرى بعض الدارسين العرب المحدثين أنَّ المقصود بالسياق التوالي، وأنه يمكن تقسيمه قسمين: الأول- ما يمكن تسميته سياق النص، وهو توالى العناصر التي يتحقق بها التركيب والسبك. والقسم الآخر يسمَّى سياق الموقف أو الحال، وهو توالى الأحداث التي تصاحب الأداء اللغوي وكانت ذات علاقة بالاتصال [5/375].

ولا يخفى على أحد ما للسياق من أهمية في تحديد المعنى المقصود من الكلمة، أو الجملة، أو الكلام. وقد أدرك العلماء العرب الأوائل هذه الأهمية، ولعل من أوضح الأدلة على ذلك مقولتهم المشهورة "لكل مقام مقال"، وتركيزهم على اللغة المنطوقة، وتعرّضهم للعلاقة بين المتكلم وما أراده من معنى، والمخاطب وما فهمه من الرسالة، وتركيزهم أيضاً على الأحوال المحيطة بالحدث الكلامي [7/82-84].
لقد أدى السياق بنوعية: العام (سياق الحال)، وسياق النص (السياق اللغوي) في قصيدة الشاعرة ابتسام صايمة (إلى غزة ...لا تصمتي) [10/595] دوره بفاعلية كبيرة من خلال الجو العام للقصيدة، وهو مآسي حرب غزة. فلقد تلونت الحالة النفسية للشاعرة بكافة أطياف حزن غزة وألوانه، ثم أعادت تصدير هذه الألوان والأطياف -بعد أن صبغتها بطابعها الخاص- إلى غزة؛ لترسم لنا لوحة مؤلمة لما جرى في حرب غزة. وكأني بالشاعرة وهي تتغنى بآلام غزة وأحزانها قد زادتها آلاماً فوق آلامها: فهي تطلب من غزة وتحرضها على أن تقول: من حرٌّق حي الزيتون في وضح النهار ، وعلى غزة أن تقول من ذبح الصغار، وأن تبلغ عن وجع الرجال، وعمن فعل الخيانة والإصغار، ومن نثر الأشلاء على شجر الحديقة، وأن تقول للأمة التي ما عاد فيها أي نَزْرٍ من كرامة أن أطفال غزة يلتحفون بالبرد ..... الخ .... رويدكِ شاعرتنا.... أعلى غزة أن تخبر عن كل هذا الهول... رحماك بها ... وقولي اصطبري غزةَ واحتسبي.
فالوضع العام لحرب غزة بما فيه من أهوال وفظائع ومصائب ودمار وتحريق وقتل وتدمير أحياء وأبراج سكنية على رؤوس أصحابه، لغير سبب إلا إظهار العدو شراسته وقوة ردعه...الخ. كل ذلك تضافر مع الجو الخاص (السياق اللغوي) للنص في رسم لوحة مرعبة لحال غزة في الحرب. فحي الزيتون يحرَّق في وضح النهار أمام مرأى الجميع وسمعهم، والصغار تذبح، والتواطؤ والخذلان يلف غزة من كل مكان، وغزة تئن كلمى بآلامها ووجع رجالها، وما أدراك ما وجع رجال غزة ؟!!. إن نساء غزة لم تبكِ أو تولول على وجع رجالها، بل خزَّنَّهُ في قوارير شفافة، وعتَّقنَّه في قلوب الشواعر، اللاتي صغنه وصببنه في كؤوس أشعارهن، وطفن به على موائد الأدباء حتى شربنا جميعاً وانتشينا، ولكننا انتشينا بوجع رجال غزة.

وتستمر الألفاظ الحارقة المؤلمة في التتابع فالأشلاء نثرت على شجر الحديقة، والدماء تسيل على الطريق العتيقة، ولا يدرى ما هي هذه الأشلاء، أهي فستان الحبيبة شهد أم فستان ضحى؟، أم أقلام يحيى أم محمد أم لمى؟. لقد وفقت الشاعرة أيَّما توفيق في اختيار هذه الأسماء، وكان لها أثر كبير في إظهار التعاطف مع أهل غزة. ولعل السبب في ذلك يعود لكونها أسماء حقيقية لأطفال ذاقوا الويل دون ذنب فعلوه، فخلد ذكرهم من لا يغفل ولا ينام. أو لأنها أسماء أطفال، والعالم محايد عندما يصل الأمر إلى الأطفال، أم لأنها أسماء محببة عند سكان غزة أجمع، أم لأنها أسماء تمثل جميع فئات المجتمع الغزيّ وأطيافه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ويتتابع مسلسل الألفاظ الحارقة والمؤلمة المريرة؛ لتصور لوحات معبرة عما جرى في غزة... ولكنها لا تنتهي ببكاء أو عويل، إنما تنتهي بشموخ نساء غزة، ولا غرو فشاعرتنا كُتب في بطاقة هويتها: المهنة: مجاهدة ومقاومة. تقول شاعرتنا في نهاية القصيدة:

فحكاية الشعب الذي ذبحوه
 كي يفنى،
 سيبقى
مثل هذى الأرض
ولاّدٌ
وثابتُ كالشجر
فشعاره قاوم
وقاوم ثم قاوم
 تنتصر

 
6- والحركة الجسمية المصاحبة للكلام:

تعتبر الحركة الجسمية من أهم العوامل التي تساعد الألفاظ المنطوقة في توصيل المعنى المقصود للكلام، وأحياناً تعطي الحركة الجسمية معاني مناقضة للألفاظ نفسها. وتتخذ الحركات الجسمية أشكالاً مختلفة، وتتم أحياناً باليد أو بالرأس أو العين أو بالجسم الإنساني كله، وتتوزع عادة حسب المواقف المختلفة.
والجدير بالذكر أنَّّ الحركات الجسمية (بكافة أنواعها) ليست مسألة عضوية يستخدمها الإنسان كيفما اتفق، وإنما هي "نظام" -مثل النظام اللغوي- يتعلمه الإنسان داخل المجتمع، ولها أنماطه الخاصة بالثقافة؛ لذلك نرى العلماء الذين اهتموا بدراسة هذه الظاهرة اتجهوا مباشرة إلى تطبيق منهج اللغويين في البحث والدراسة.
كما تجدر الإشارة إلى أنَّ هناك تبايناً كبيراً بين المجتمعات في استخدام الحركة الجسمية، وفي مفاهيمها التي تدل عليها. فلكل مجتمع حركاته الجسمية الخاصة به، ومفاهيمها التي تختلف من مجتمع إلى آخر.
 وتعتبر قصيدة (إلى غزة ...لا تصمتي) كغيرها من النصوص الأدبية التي يمكن استخدام الحركة الجسمية في أثناء إنشادها؛ لتعبر عن المعاني التي تحملها الكلمات، وكذلك المعاني التي تختفي وراء الكلمات.
 

الخاتمة

 تناولت هذه الورقة موضوعاً من الموضوعات المهمة في علم الأصوات الوظيفي وهو اللغة المصاحبة أو اللغة الجانبية في قصيدة (إلى غزة ...لا تصمتي) للشاعرة ابتسام صايمة التي نشرت في ديوان (لأجلك غزة).
وقد تمَّ تناول هذه اللغة المصاحبة أو اللغة الجانبية من خلال مجموعة من القرائن أو الأداءات التي تصاحب الكلام المنطوق وليست منه وتؤثر في معناه. وهي: التنغيم، والنبر، والتزمين، والإيقاع. أما القسم الآخر فهو ما يمكن تسميته "العناصر غير الصوتية"، مثل: السياق، والحركة الجسمية المصاحبة للكلام.
وقد توصلت الدراسة إلى أنه يعدُّ من الإجحاف أن تقرأ قصيدة (إلى غزة ...لا تصمتي) للشاعرة ابتسام صايمة، أو أي نص أدبي آخر دون إعطائه حقه في نطق سليم، ومستحقه من تنغيم، أو نبر، أو تزمين، أو إيقاع لغوي؛ ليظهر ما في نفس الشاعرة من معانٍ ومشاعر جياشة لا تظهر إلا بها.
كما تبين أن اللغة المصاحبة تفيد النص: إما في تأكيد المعنى المقصود، وإما في إضافة ظلال جديدة للمعنى الأصلي، وإما تفيد الألفاظ معنى جديداً لم يكن موجوداً من قبل.
 

المصـادر والمراجـع

[1] أنيس، إبراهيم، 1961- الأصوات اللغوية. دار النهضة العربية، القاهرة، مصر، ص: 124.

[2] بدر، عادل، 2006 - سيميائية الإيقاع. في
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=66904"_blank" الحوار المتمدن"، العدد: 1575 بتاريخ 8/6/2006م، ص:1-2، 3-4 على الموقع الإلكتروني:
http:// HYPERLINK "http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp" \t "_blank" www. rezgar.com/debat

[3] برجشتراسر، 1982 - التطوّر النّحوي للّغة العربية. إخراج وتصحيح رمضان عبد التوّاب، مكتبة الخانجي، القاهرة ودار الرفاعي، الرّياض، ص: 73.

[4] حسان، تمام، 1986م - مناهج البحث في اللغة. دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ص: 198، 199، 203، 194.

[5] حسان، تمام، 1993 - قرينة السياق. بحث قُدِّم في (الكتاب التذكاري للاحتفال بالعيد المئوي لكلية ، دار العلوم)، مطبعة عبير للكتاب، 375.

[6] الخطيب، أحمد شفيق، - علم اللغة وفروعه. في موقع: منتديات "واتا الحضارية"، الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب، ص: 21. على الموقع الإلكتروني: http://www.Arabswata.org/forums/archif

[7] الراجحي، عبده، 1997 - فصول في علم اللغة. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، ص: 88، 98-92، 162،72-77، 82-97، 81، 82-84.

[8] عمر، أحمد مختار، 1976م - دراسة الصّوت اللغوي. عالم الكتب، القاهرة، مصر، ص: 310.

[9] فليش، هنري، بدون، - العربية الفصحى نحو بناء لغوي جديد. ترجمة عبد الصّبور شاهين، منشورات دار المشرق، بيروت، لبنان، ص: 49.

[10] لأجلك غزة، 2009- ديوان الشعراء العرب في معركة الفرقان 2009م. جمع وإعداد موسى إبراهيم أبو دقة، منشورات منتدى أمجاد الثقافي، ط1، ص: 595.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى