الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
بقلم ضرغام فاضل

الكنز ـ القسم الأول من أربعة

في يوم من أيام الصيف الحارّة ..وبالتحديد في يوم الجمعة ..تلقّى الصديقان بدر وصهيب مكالمة من صديقهما سامي, يدعوهما فيها لمرافقته لأمر ضروري..حاول الصديقان معرفة هذا الأمر,الذي يستدعي حضورهم في يوم إجازتهم..والذي غالباً مايقضّونه بصحبة الأهل وزيارة الأقارب..أو القيام بنزهة برفقة الأهل.ولكنّ سامي أكد لهم أن الأمر ضروري.فماكان من الصديقين إلا أن يلبيّا طلب صديقهما. وهاهما يقفان في إحدى الساحات العامة القريبة من سوق شعبية.
كان الموعد في الساعة التاسعة صباحاً..وهاهي الساعة تشير للتاسعة والربع ..وسامي لم يحضر..قال صهيب متذمّراً:
  أيعقل هذا ؟؟ نحضر حسب الموعد وحضرة الأستاذ سامي متخلّف عن الحضور!! .
ابتسم بدر وهو يرى الانزعاج في نبرة صديقه :
  الغائب عذره معه ياصهيب ..
تأفأف صهيب..وأدار وجهه صوب جهة أخرى..بينما أردف بدر :
  تبدو منزعجاً جداً..خيرا ًإن شاء الله ؟
أجابه صهيب :
  لأنّني كنت متوقعاً أن أحضر لأراه واقفاً بانتظاري..وليس العكس تماماً..طبعاً هذا إذا افترضنا أنه سيحضر ..
أطلق بدر قهقة عالية..ثم قال :
  لا..اطمئن ..لقد حضر والحمد لله..انظر إنه يعبر الشارع..بعد أن رآنا .
قبل أن يعبر سامي الشارع لوّح لأصدقائه بيده..ثم عبر الشارع ..وعندما صار قريباً منهم :
  السلام عليكم .تأخّرت عليكم أليس كذلك ؟
بعد أن ردّ الصديقان على تحيّة صديقهما ,ضحك بدر مستهزئاً:
  صاحب الدعوة يأتي متأخّراً.أعاننا الله على زمننا هذا.
عرف سامي أن( صهيب) متضايق من تأخيره..فوضع يده على كتف صديقه الزعلان..وقال مطيّباً خاطره :
 أولاً أودّ أن أعتذر عن تأخّري عليكم,لسبب خارج عن إرادتي..وأقدّر لكم تلبيتكم دعوتي لمرافقتي في جولتي ..
ازداد غضب صهيب..عندما سمع كلمة (( جولة ))..وقال مستفهماً..وقد عقد حاجبيه ليتأكّد ممّا سمعه :
 ماذا !! تقول جولة ؟؟
تدخّل بدر ليغيّر الموضوع,بعد أن أحسّ أن ( صهيب) صار يتحجّج,من أجل إحداث مشكلة ربّما تعكّر عليهم صفو هذا اليوم..إذ قال بعد أن ألقى نظرة سريعة على السماء الصافية من فوقه :
 أتعرفان ؟ أن الجوّ غير ملائم للتنزّه.
ردّ عليه صهيب..بعد أن أطلق ضحكة استهزائية :
  ومن قال لك إنه دعانا للقيام بنزهة ؟وإنما جولة ..ألم تسمع تصريحاته قبل قليل ؟؟
وضع سامي يديه على كتفي صديقيه..وقال لهم وهو يحثّهم على المشي :
 هذا صحيح.. فأنا لم أدعكم للتنزه.. بل لتشاركاني فرحتي بالحصول على مكتبة أنيقة,اشتراها لي والدي تقديراً لتفوّقي في الدراسة..
وهنا جاء دور بدر هذه المرّةكي يثور على صديقه مستفهماً:
- توقظنا من نومنا..وتجعلنا نتناول فطورنا خلال ثوان فقط..وتحرمنا من راحة يوم الجمعة..كلّ هذا من أجل أن نشاركك فرحتك بالحصول على مكتبة ؟ !!.. ياأخي ألاتخجل ؟؟
  ضحك سامي ..ثم أجاب :
 ليس هذا كلّ شيء..
مدّ صهيب كفّه الأيمن ..وبحركة مبالغ بها صافح سامي ..وهو يقول مبتسماً ابتسامة مصطنعة :
  باسمي وباسم كل الأصدقاء..أقدّم التهنئة الحارة بمناسبة حصولك على مكتبتك الأنيقة..والآن..أستودعك الله..
وسحب بدر من يده ..استعدادا ًللاتصراف ..قائلاً:
  هيا يابدر..لنعُد إلى البيت ونكمل تناول فطورنا ..
استوقفهما سامي..وقد غيّر من نبرته وصار أكثر جديّة :
 ماهذا؟ماالذي جرى كما اليوم ياإخوان ؟! اسمعوني حتى أكمل...أتتحجّجان بأيّ حجّة لتتركاني..والسلام .؟
فانبرى بدر ليوضّح :
 ياأخي والله ظننا أنّ مشكلة كبيرة تنتظرنا..مما دعانا أن نترك كلّ شيء ونحضر ..
وأضاف صهيب:
 حتى إنّنا لم نتناول فطورنا مثل الناس .
سحب سامي صديقيه من يديهما ..وهو يقول :
 أحلى فطور ..في أحلى مطعم ..أنتما مدعوّان على حسابي قبل أن أفاتحكما بأيّ موضوع ..
لم يجد الصديقان بدّاً من مرافقة صديقهما سامي وتلبية دعوته لهما على الإفطار..وفي المطعم جلس الثلاثة إلى طاولة مستديرة..وبعد أن تناولوا إفطارهم راحوا يحتسون الشاي,وهم يناقشون سبب حضورهم هذا اليوم..بعد أن شرح لهما سامي كل شيء نظر في وجهي صديقيه ..ثم ماعاود أن سألهما مبتسماً:
  والآن.. هل عرفتما سبب دعوتي لكما اليوم ؟
أجاب بدر :
  نعم.. أنت محتاج لمساعدتنا في انتقاء الكتب التي ستملأ بها رفوف مكتبتك.. هذا شيء يسعدنا..
وتنحنح صهيب قبل أن يقول:
  ولكن يا سامي.. لست مضطرّاً لأن تملأ مكتبتك بالكتب خلال يوم واحد فقط.. عليك أن تتريّث في ذلك..
وأكّد بدر :
 هذا صحيح... يمكنك أن تقوم بزيارة المكتبات كلّما سنحت لك الفرصة,لتنتقي الكتب برويّة. كما إن هناك معارض للكتب تقام بين فترة وأخرى..وهي خير فرصة لشراء الكتب بثمن مخفّض.. وستجد مكتبتك بعد فترة وجيزة قد صارت عامرة بعنوانات كتب منتقاة بمهارة..
ضحك سامي ضحكة خفيفة ,قائلاً:
  صدّقاني أنا أعرف هذا جيداً..ولكنّني سمعت من صديقي حسام أنّ رجلاً يفترش الأرض صباح كلّ جمعة ليبيع مجموعات قيّمة من الكتب المستعملةوبأسعار مناسبة..
أدرك بدر فكرة صديقه الذكيّة ..فهزّ رأسه معجباً بها..وقال :
  يا للمفكّر والمدبّر!!
وأضاف صهيب:
 فكرتك جيدة..فإذا كان المال الذي معك يكفي لشراء عشرة كتب جديدة،فإنّه سيكفي لشراء عشرين كتاباً مستعملاً..
استعدّ الثلاثة لمغادرة المطعم..بينما قال سامي ممازحاً صديقيه :
  والآن يا أصدقاء..وبعد أن تفضّلت عليكما بإفطار شهيّ في مطعم راقٍ..عليكما أن تردّا لي الفضل..
ربت بدر على بطنه ..وقال:
  لا بأس..ما دامت البطن ممتلئة..
أرجع صهيب الكرسي الذي كان يجلس عليه إلى مكانه..وهو يقول :
 هيا.. قبل أن تشتدّ حرارة الجو..
ثم خرج الثلاثة إلى الشارع..وقد صار أكثر زحمة بالناس المتسوّقين والمتبضّعين.سار الثلاثة في شارع تجاري مزدحم جداً,وعلى جانبي الشارع وقف عدد من الباعة المتجولين,ممّن افترشوا الأرض لعرض مايبيعونه . قال بدر وهو ينظر بوجوه الناس من حوله ..ويعلي صوته كي يسمعه أصدقاؤه :
 إنني أعجب لأمر هؤلاء الذين يبيعون كتبهم بعدما تعبوا في الحصول عليها..ربّما قد قضّوا ساعات أو أياماً وهم يبحثون عن عنوان لكتاب واحد من هذه الكتب..
أجابه سامي :
 ربّما الحاجة للمال هي التي دفعتهم لذلك..أو قد يكون السفر أو أيّ ظرف آخر..
شقّ الأصدقاء طريقهم بصعوبة..باحثين عن رجل بالأوصاف التي أخذها سامي من صديقه حسام..رجل كبير السن,وبدين ..يبيع كتباً مستعملة..بضعة أمتار ..ثم صرخ صهيب مشيراً بيده صوب جهة ما,كمن اكتشف شيئاً:
  ذاك هو الشخص الذي نبحث عنه.
اقتربوا منه ..وعندما صاروا على بعد خطوات ..قال بدر مبتسماً:
 إنه يطالع في أحد الكتب.. يبدو أنه مثقّف..
ألقى الثلاثة التحيّة على البائع ..الذي كان العرق يتصبّب من جبينه..وبعد أن ردّ البائع ,بادر سامي بالسؤال:
 من فضلك يا عم..إنّنا نستأذنك في أن تسمح لنا بالاطّلاع على عنوانات هذه الكتب، لأنّنا ننوي
شراء مجموعة منها..
ابتسم البائع وكأنّه استغرب هذا الخلق والتعامل اللطيف ..فكما يبدو أن الناس في مثل هذه الحالات تعوّدت أن تقلّب صفحات الكتب والمجلاّت التي تباع دون أي استئذان ..أشار البائع لهم نحو الكتب مرحّباً..وقال :
  على الرّحب والسعة..وسأعاونكم في ذلك..
جلس سامي إلى الأرض ليكون قريباً من الكتب..وكذلك فعل بدر وصهيب..وراح الثلاثة يقلّبون صفحات الكتب المستعملة,يعاونهم البائع في ذلك .كان أوّل شيء يجذب انتباه الأصدقاء هو عنوان الكتاب..ثم نظافة أوراقه وسلامتها..وخلال وقت ليس قصيراً كان كدس كبير قد تجمّع قربههم. قال بدر وهو ينشّف العرق المتصبّب من جبينه:
  ياه.. لقد أمضينا أكثر من ساعة ونحن نتصفّح هذه الكتب..
راح سامي يصفّف الكتب بشكل منتظم لكي يسهل حملها ..وهو يقول:
 شكراً لكم..لقد كانت النتيجة طيّبة.. مجموعة قيّمة من الكتب..
تعاون الثلاثة على حملها..بعد أن دفع سامي ثمنها للبائع ..وطلب منه أن يهيّأ له مجموعة أخرى ..على أمل أن يكرّر زيارته في مرة قادمة ..وعده البائع خيراً,ولكنّه طلب من سامي أن تكون الزيارة في أيام الجمع فقط .وانطلق الثلاثة عائدين إلى بيوتهم .

* * *

ورقة صغيرة ..قلبت الموازين

وقف سامي أمام مكتبته الجديدة ..يتأمّل رفوفها..وكيف يوزّع عليها الكتب..هل حسب أحجامها وقياساتها..أم بحسب الموضوعات..أم ..ماذا ..جلس قليلاً على الكرسي,وراح يحكّ رأسه مفكّراً ..هل يطلب مساعدة صديقيه من جديد ؟ أم يستعين بأبيه ؟لكنّه قرّر أخيراً أن يضع الكتب على الرفوف من دون أن يعير أهمية لالقياساتها ولا لموضوعاتها ..على أن يهتمّ بذلك في المرّة القادمة ..وبينما انهمك بالترتيب وإذا بأحد الكتب القديمة يسقط على الأرض لثقله..انحنى سامي ليتناوله ..لكن.. لاحظ أن ورقة قد خرجت من بين أوراقه .التقط الورقة التي اصفرّ لونها الأبيض ..وهذا مايدلّ على أنها ورقة قديمة,مضى عليها عشرات السنوات..فتح سامي الورقة وراح يقرأ مافيها ..وفجأة تغيّرت ملامحه,وصعق مما قرأه ..رجع ليجلس على الكرسي ويلتقط أنفاسه .راح يتمتم مع نفسه بشكل لاإرادي :
 هل يعقل هذا ؟؟!ماذا أفعل ..الأمر خطير !!
نهض بسرعة متوجّهاً نحو الهاتف..بعد أن قرّر إطلاع صديقيه الحميمين بدر وصهيب على هذه المشكلة الجديدة ..وماهي إلا دقائق قليلة حتى كان الصديقان في بيت سامي ..
قال صهيب ممازحاً هذه المرة :
  نعرف جيّداً أنك تصدّقت علينا بإفطار في أحد المطاعم ,ولكن ..عيب عليك أن تذلّنا كل ساعة ..
ردّ بدر :
  ولاتنسَ أنه أكمل معروفه بأن دعانا على الغداء أيضاً قبل أن ننصرف ..
أجابه صهيب :
  أوه صحيح نسيت ذلك ..ولكن يبدو أننا مدعوّان على العشاء أيضاً .أليس كذلك أيها الصديق الكريم ؟؟
كلّ هذه الممازحات لم تحرّك في سامي ساكناً ..أو تجعله يبتسم ..
لاحظ الصديقان ذلك ..فاقترب بدر من صديقه ليسأله بجديّة :
  سامي ..ماذا هناك ؟يبدو أن الأمر جديّ هذه المرة ؟
دنى صهيب منهما سائلاً :
  هل من مشكلة عائلية ؟؟..أم أن ..رجاء ياسامي أنت تثير قلقنا..
أجاب سامي وهو مايزال واجماً :
  الأمر أخطر مما تتصوّرون ..
نظر صهيب صوب بدر وهو يقول متلعثماً :
  ياساتر يارب ..
توجّه سامي نحو مكتبته..ومدّ يده ليتناول من الكتاب الورقة الصغيرة المطويّة داخله..وناولها لبدر وهو يقول:
  هذه الورقة وجدتها بين صفحات أحد الكتب القديمة التي اشتريناها اليوم .
مدّ بدر يده وأخذ الورقة المطوية..فبدأ بفتحها, ونهض ليكون قريبا ًمن النور الذي ينبعث من خلال زجاج الشباك القريب منهم, وتبعه صهيب ليقرآ معاً:

(( حفيدي العزيز عبدالرحمن مكتبتي هذه هي هديّتي لك.. أما الكنزفسأتركه لك
لتنعم به وتعيش سعيداً، إّنه كل ما استطعت أن أحصل عليه من هذه الدنيا.. وهو موجود في بيتي
الذي تعرفه.. جدّك المخلص)).

أكمل الصديقان قراءة الورقة ..وراح الواحد ينظر في وجه الآخر..ومن غير أن ينبس أيّ منهم بايّ كلمة جلسوا يفكّرون ..سادت لحظات من الصمت المطبق ..وعندما طال هذا الصمت بادر صهيب بالقول:
  المسألة خطيرة يا شباب, وتحتاج إلى مزيد من التفكير..
واستدار صوب بدر ليسأله رأيه..لكنّه فوجيء بأنه قد أغمض عينيه,وكأنّه يعيش في عالم آخر..فهرع إليه ليعيده إلى وعيه..لكنّ بدر فتح عينيه فجأة ..وهو يقول :
  لاتخشيا..فأنا ما أزال في وعيي..لكنّني كنت أتخيّل كيف يكون شكل الثروة ..
قال صهيب موبّخاً صديقه :
  يا أخي خذ الأمر بجدية .الأمر أخطر من أن تمزح ..وتعال لنفكّر كيف نتصرف .
عاد بدر ليشارك صديقيه مناقشة الأمر بجدية..وهو يقول :
  سامحاني..فالصدمة كانت شديدة علي..وفعلا ًعلينا أن نكون دقيقين في اتخاذ أي قرار,قبل أن نقدم عليه .
تبادل الثلاثة أفكاراً كثيرة ..دونما فائدة ..إلى أن صرخ سامي فجأة :
  وجدتها .
اقترب منه الصديقان ..وهما متشوّقان لسماع ماتوصّل إليه سامي..فاستعجلاه بطرح فكرته ..إذ قال:
  هل تتذكّران الجملة الأخيرة التي قالها لنا البائع عندما طلبت منه أن يهيء لنا مجموعة من الكتب ؟
ردّ صهيب وهو يحاول استذكار كلمات البائع الأخيرة :
  نعم ..قال ..قال ..بصراحة لم أعد أذكر .
فتدخّل بدر ليقول :
  أنا أتذكّر..لقد طلب منا أن تكون زيارتنا له في أيّام الجمعة فقط ..
فتابع سامي القول :
  وهذا يعني أننّا لو ذهبنا للسوق في يوم الجمعة القادم ..فسنجده هناك !
ثم سأل صهيب بسخرية :
  ومالذي سيفيدنا البائع هذا ؟
أجابه سامي :
  لنسأله عن صاحب الكتاب الذي اشتراه منه ..اوكلّفه ببيعه ..
قال صهيب :
  رغم أنني أشكّ في أنّه يتذكّركل من باعه كتاباً..إلا أنّنا مجبرون ولسنا مخيّرين ..فلا طريقة أخرى لدينا..سوى هذه..علّه يرشدنا لخيط يقودنا للطريق الصحيح.
و أضاف بدر :
  إنها محاولة...لن نخسر شيئاً..
ثم توقّف عن الكلام فجأة..ونظر لساعته ..ثم اكتشف شيئاً غاب عن بال صديقيه ..فقال:
  أتعرفون ؟؟المفاجأة جمّدت تفكيركم ..ولكن الحمد لله ما أزال أنا بكامل عقلي وتفكيري ..
ردّ عليه صهيب :
  ادخل بالموضوع مباشرة ياعبقري زمانك .
قال بدر :
  لم الانتظار حتى الجمعة القادمة؟؟ ..مايزال الوقت عصراً,والشمس لن تغيب قبل أقلّ من ساعتين .
طرق سامي بأصبعيه وقال بعد أن تأبّط الكتاب :
  ياه ..إنه أحسن شيء قلته اليوم ..كيف غاب هذا عنا؟؟ .هيا بسرعة قبل أن يغادر مكانه .

* * *

زيارتان للسوق ..في يوم واحد

خلال دقائق فقط..كان الأصدقاء الثلاثة في السوق، خطواتهم كانت سريعة جداً..بحيث إنها جذبت انتباه الكثير من روّاد السوق..ولكن على مايبدو أنّ السوق كانت أقلّ زحمة بالناس بكثير..وهذا ماسهّل عليهم المشي بخطوات سريعة..كان الثلاثة يخشون الشيء نفسه ..وهو أن يكون البائع قد غادر مكانه ..ولكن عندما صاروا قريبين منه استطاع سامي أن يلمحه من بعيد, رغم أنّ عدداً ممّن يشترون منه قد غطّوا وجهه.فصرخ:
 الحمد لله ..مايزال موجوداً..بداية تبشّر بخير.
عندما وصلوا إلى البائع ..استغرب تكرارهم لزيارته..فقال مبتسماً :
 كنت متوقّعاً أن تكرّروا الزيارة ..ولكن ليس بهذه السرعة ..
ردّ عليه سامي :
 في الحقيقة ياعمي ..جئناك من أجل أن تساعدنا في شيء مهم وخطير ..
اندهش البائع من كلام سامي ..فحاول أن يستفسر منه..لكنّ صهيب قال:
 لاتستغرب ياعم..فالمسألة تتعلّق بأحد الكتب التي اشتريناها منك صباح هذا اليوم..فبعد رجوعنا اكتشفنا أن أحدها يحتوي على ورقة تشير إلى وجود كنز في بيت صاحب الكتاب ..
تغيّرت ملامح البائع ..بعد أن أخذ الموضوع منحى آخر,وصرخ ناسياً أن رجالاً قريبين منه من الممكن جداً أن يسترقوا السمع :
 كنز؟؟ أتقولون كنز؟؟
أشار له سامي بأن يخفض صوته كي لايسمعه القريبون منهم..ولكن يبدو بعد فوات الأوان.فهاهو رجل غريب الشكل يحاول أن يتقرّب منهم,بحجّة الوصول إلى كتب بعيدة عن متناول يده .
فاضطرّ البائع أن يخفض صوته ويعاود السؤال:
 طيّب ..ومالمطلوب مني ؟؟
أخرج سامي الكتاب ليريه للبائع ..وسأله :
انظر ..هذا هو الكتاب ..تمعّنه جيداً,وحاول أن تتذكر الشخص الذي باعك إياه ..
أمسك البائع بالكتاب..ثم هزّ رأسه ليقول :
هذا صعب..صعب جدّاً أن أتذكّرصاحبه..ربما يكون قد مضى على شرائي لهذا الكتاب أسابيع ..أو شهور بعيدة ..
وأضاف بدر :
أو ربّما أيّام قليلة ..
ثم سأل سامي البائع :
_طيّب ياعم ..حاول أن تتذكّر متى كانت آخر مرة اشتريت فيها كتباً, وممّن؟
اقترب الشخص المتطفّل أكثر..ليسترق السمع بشكل أفضل ..لكنّ البائع لم يلحظ ذلك .
فكّر البائع قليلاً..وهو يتمتم :
 متى ..متى ....قبل حوالي ....
ثم تذكّر البائع شيئا ًمهماً ..فقال:
  لا أعرف كيف غاب عن بالي ذلك ..يبدو أن العمر له أحكام .إيه..حفظ الله شبابكم ..
حاول سامي استعجال البائع ..فسأله بصوت منخفض:
  قل ياعمي رجاءً ماذا تذكّرت ؟؟
أجاب البائع :
  بعد أن أكملت فرش الكتب على الأرض صباح هذا اليوم ...
ثم فجأة غيّر الموضوع ..ليقول:
  بالمناسبة..أنا أوّل من يبكّر بالحضور لهذه السوق في صباح كلّ جمعة.
ثم يداعب ذقنه بسبّابته..وهو يحاول أن يستذكر:
  يعني يكون وصولي هنا حوالي الساعة الثامنة إلا...لا لا ..تقريباً السابعة والنصف ..
نظرالأصدقاء إلى بعضهم,وليس أمامهم سوى أن يسايروه ويجاملوه,رغم أنّهم بأشدّ حالات القلق ,وانتظار ماستسعفه به الذاكرة..على أمل أن يتذكّر الشخص الذي أعطاه هذا الكتاب.لكنّ سامي لم ينتظر البائع حتى ينتهي من موضوع حضوره المبكّر للسوق ..فقال:
  أرجوك ياعم ..حبّذا لو تحاول أن تتذكّر ماذا حصل معك بالضبط عندما حضرت هذا اليوم ..
استغرب البائع وقال :
  صباح هذا اليوم !! وكيف عرفت أنت؟
ابتسم سامي وهو يوزّع نظراته على صديقيه بدر وصهيب.بعد أن أدرك أن البائع ..وبسبب تقدّمه بالعمر قد ضعفت ذاكرته..وربّما يكون من الصعب أن يسترجع ذكرياته..حتى لو كان قد مضى عليها فترة قصيرة..ولكن لابدّ لهم من المحاولة ..ليس أمامهم سبيل آخر..فعاود السؤال:
  لقد كنت بدأت حديثك..بأنك تذكّرت شيئا ًمهماً..وهو أنك عندما بدأت بفرش الكتب على الأرض صباح هذا اليوم..ثم توقّفت عن الكلام ..فنرجوك أن تتذكّر ماذا حصل بعدها .
أجاب البائع :
  نعم كنتم تسألون عمّن باعني الكتاب الذي معك..وبصراحة تذكّرت أنني لم أشترِ كتاباً منذ مدّة ..وإنما آخذ الكتب من أصحابها وأعرضها للبيع,ومن ثمّ أتحاسب مع أصحاب الكتب, وآخذ حصّتي من أثمانها ..
حاول سامي أن يطوّل باله حتى آخر لحظة ..فسأل البائع :
  طيّب ياعمي ..يعني أنك لاتشتري الكتب..بل تأخذ نسبة من بيعها ..حسن ..مَن الشخص الذي أعطاك هذا الكتاب ؟
ابتسم البائع وقال لسامي :
  انتظر يابني .. دعني أكمل بقية القصة ..لِم تقاطعني أنت دائما ؟؟
بادله سامي الابتسامة معتذراً :
  آسف ياعمي ..تفضّل .
استأنف البائع كلامه..أما الشخص المتطفّل فقد صار أكثر دنواً منهم :
  قبل أن تجيئوا إليّ صباح هذا،كان قد حضر منذ الصباح الباكر فتىً بمثل أعماركم،وهو يتأبّط مجموعةكبيرة من الكتب..وطلب مني أن أبيعها له..ووعدني بأن يأتي بمجموعة أخرى في الجمعة القادمة, فأرجو أن يكون هذا الكتاب من ضمن مجموعة الكتب التي أخذتها منه صباح هذا اليوم..
رفع الشخص المتطفّل عينيه من الكتاب الذي كان يتظاهر بقراءته ..ونظر صوب الأصدقاء الثلاثة..ثمّ سحب نفساً طويلاً..وكأنّه هو من كان يتعجّل معرفة صاحب الكتاب أكثر من سامي وصديقيه ..ثمّ انسحب بخفّة من المكان بعد أن ألقى الكتاب الذي كان يتصفّحة بقوّة على الأرض,مما أثار انتباه البائع والأصدقاء ,ثم هزّ سامي رأسه مستغرباً تصرّف الرجل عديم الذوق هذا ,وقال للبائع :
  نشكرك ياعم..يعني أنّ الشخص الذي باعك الكتاب سيحضر في الجمعة القادمة,ليأخذ حساب الكتب التي بعتها ..وليعطيك وجبة أخرى ؟
أجابه البائع :
  نعم تماماً,ولكننّي أنصحكم إذا أردتم رؤية هذا الشخص أن تحضروا مبكّرين جداً ..لأنّه ربّما يفعل مثلما فعل اليوم ..أقصد أن يبكّر جداً بالحضور .
سأل بدر البائع :
  بالمناسبة ياعمي ..مااسم هذا الشخص ؟
ردّ البائع بخجل :
  بصراحة ..لقد فاتني أن أسأله ذلك ..
استغرب صهيب ..فسأل :
  إذن كيف ستسلّمه المال..وأنت لاتعرف حتى اسمه ؟
ابتسم البائع وهو يقول :
  لا اطمئن ..لأنني أتذكّر وجهه تماماً, وأستطيع أن أميّزه من بين ألف وجه .
شكر الأصدقاء الثلاثة البائع ..وطلبوا منه أن لايتحدّث بالموضوع أمام أيّ شخص كان ,حتى تتبيّن لهم الحقيقة .ثم ودّعوه على أمل معاودة الزيارة في الأسبوع المقبل .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى