الأحد ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

أبّا العَرْبي

كان يمرُّ من حيِّنا كلَّ يوم ساعة العصر. بقامته الرقيقة ولحيته البيضاء. ويدُه اليسرى في جيبِ جلبابه عند العبور. لم يكن يعطينا نقوداً وهو في اتجاه ال(مارشي). ويدُه في جيب جلبابه عند الإياب... آنذاك كان يعطينا نقودا بيده اليمنى.

نحن جماعة الأطفال الأشقياء، كنّا نقبّل يدَه في احترام وخشوع. كنّا نحبُّ يدَه لأنّها بيضاء ناعمة ودافئة. كم كنّا نحبُّ إطلالتَه اليومية علينا! كان أبّا العرْبي مثل أبينا، يحبُّنا ويدعو لنا بالصلاح والنجاح. ومرّت السنوات، وكبرنا، وظلَّ هو كما كان... لا يتغيّرُ فيه شيء. «أبّا العرْبي لا يكبر لأنّه بلغ أقصى حدّ في الكِبر» كنّا نقول لبعضِنا. فقال واحدٌ منّا:
ـ أبّا العرْبي لا يشيخ ولا يتقوّسُ له ظهرٌ لأنّه رجلٌ طيّب.

وقال آخر:
ـ أبّا العرْبي لا تأكلُ منه السنون لأنّ الله يحبُّه.

وقالت سعاد:
ـ الله يحبُّه لأنّه يحبُّ الخير.

وقال طفلٌ نزقٌ بدأ الشاربُ يظهرُ له:
ـ أنا لا أومنُ بهذه الخرافات.

فتناظرنا في حزن وقلنا له:
ـ لا تقل مثل هذا الكلام يا نور الدين؟

فقال لنا:
ـ أبّا العرْبي مثل جميع الناس، يفعل الخير ويفعل الشر، يمرض ويكبر، ولكنّنا لا ننتبه إلى ذلك وقريبا سيموت.

آلمنا كلامُ نور الدين، فأبعدناه عن مجموعتِنا إلى أن ظهر لكلِّ واحدٍ منّا شاربٌ، وبرز صدرُ سعاد، ولم تعد تلعبُ معنا، ولم نعد نلعب مع بعضنا... لأنّنا كبرنا. فلم نعد نرضى بنقود أبّا العرْبي القليلة. صرنا نتكئُ على جدران البيوت في انتظار ما لا يأتي. كنّا نحلم بفتاة، بتذكرة السينما وبالسفر.

وجاء أطفالٌ آخرون لتقبيل يد أبّا العرْبي الذي لم يتوقّف عن منحهم النقود لكي يشتروا بها الحلوى. ظلَّ على نفس الصورة: يدٌ في جيب الجلباب، ويدٌ تعطي النقود.

فجاء طفلٌ نزقٌ لا أذكر اسمه، ورشق الرجلَ الذي يحبُّه اللهُ بحجر، فتكسّر شيءٌ مّا تحت الجلباب. شيءٌ أخفاه عن أعيننا المتلهفة لرؤية النقود عدّة سنين. فسال سائل أحمر اعتقدناه دماً، وتساقط زجاج أخضر خِلناه شظايا عظام الرجل الطيّب... ولكنّنا كبرنا وصرنا نعرف. وعرف هو بأننا عرفنا، فنظر إلينا نظرة إشفاق، وأحنى رأسه واختفى إلى الأبد...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى