الاثنين ١ شباط (فبراير) ٢٠١٠
دراسة حكائية

أمثالنا الشعبية وحكاياتها معي

علي عوض الله كرار 

يقوم بدور البطولة في هذه الدراسة الحكائية مثلٌ شعبي هو «يدِّي الحلق للي بلا ودان»، وعلى جانبيه وجوانب أشقائه من أمثال أخرى؛ تلعب الأغاني والأفلام دور المؤثرات السمعية والبصرية.

وقد سمعت، ولأول مرة في حياتي هذا المثل الذي ذكرت، عام 1960، ما بين وحدة ما يغلبها غلاّب في 58 وبين 61 حيث عاند هذا الغلاّب وقام عسكرياً بمهمة الفصل بين طرفيّ الوحدة.. وبعبارة أخرى: سمعت هذا المثل لأول مرة وأنا بين الفرحة التلاميذية الممتدة خيالاً من الموسكي لسوق الحميدية بصحبة الصبّوحة(1) التي طمأنتنا بقولها: أنا عارفة السكة لوحديّه؛ وبين حزننا الشديد خوفاً من فقدان يوم الإجازة الممنوح من «ناصر. كلنا بنحبك.. ناصر. وحنفضل جنبك» تكريماً لهذه الوحدة التي بدا لي أنها تكره المدارس والمدرسين مثلي. اللاااااه. هناك دول عربية أخرى غير سوريا، هناك نحو عشرين دولة عربية بـ 20 يوماً من الإجازات. ليت العالم العربي كان 200 دولة، وتلاميذ الدنيا كلها تقول مغتاظة:
يدّي الحلق للّي بلا ودان

طبعاً بالإنجليزي والفرنساوي والطلياني والأسباني وكل لغات العالم. من لا يعرف لغة أجنبية واحدة من هذه اللغات يكون فصله عن الغلاف الجوي للكرة الأرضية ضرورة حتمية. طبعاً ليس مائة × المائة. نحن ننجح في اللغة العربية بالعافية، ومازالت البطاقات التموينية الناصرية تعترف بنا وتمنحنا بسعر التكلفة زيتاً وسكراً وصفني به محمد قنديل «أبو سمرة السكرة»(2) والأغنية الشعبية صنعت منّي تاجراً لمادة غذائية استراتيجية «علي يا علي.. يا بتاع الزيت»(3) فأصيب سعري بهبوط حاد في بورصة نظرات بنات الحتّة «ليه؟ معرفش، ويمكن أكون عارف، وعامل مَعْرفش».

وعلى أي حال، لقد سمعت هذا المثل من والدة زميلي، وهي سيدة مثل معظم السيدات المنطبقة عليهن تلك الأغنية القديمة والمستمرة لوقت أفنى عدة أجيال «طالعه من بيت أبوها.. داخله بيت الجيران»، أي لم تدخل مدرسة، ولا تعرف حرف الألف من كوز الذرة، وبالعكس حاول بعض الرجال الفصل معرفياً بين هذا الحرف وذاك الكوز؛ وذلك للوازم اقتصادية، توفر الجهد العضلي للفراش الليلي بالمنزل، أو تقسم هذا الجهد بين عمل إضافي بعد انتهاء ورديتهم بالمصنع، وبين طراوة الفراش ولهيبه المستعر.. وإضافة إلى فكرة توفير الجهد العضلي المتماشية مع فكرة الدولة في التوفير الذي أغرت به تلاميذ المدارس، وصار لكثيرين منهم دفاتر توفير يفرحوا بها مثل أي شيء رسمي اسمهم مكتوب فوقه بخط رائع. ولم تكن هذه الأشياء، حتى هذه اللحظة، كثيرة. هي فحسب شهادة الابتدائية ودفتر التوفير!
ويدي الشهادة لمن بلا سيادة أو حتى قرش زيادة*

لم أكن منتبهاً لهذا المثل «يدّي الحلق للي بلا ودان»، دُنيانا كانت مزدحمة بالأمثال الشعبية مثلما تزدحم شوارعنا الآن بالسيارات، حتى أنني لم أشعر بالأولى. بل بالحالة التي أحدثتها. حالة أشعرتني بأننا أبناء بلد واحدة. لا فرق بين نوبي وصعيدي وفلاح وسواحلي إلا بطعم الكلام الخارج من الحنك. قاموسنا الوطني المشترك تعبيراته هي تلك الأمثال الشعبية.. وأيضاً الآن لا أشعر بالثانية. بالسيارات وخصوصية كل منها. بل بالحالة التي أحدثتها فحسب. بالزحام الذي وحّد المصريين وجعلهم أبناء مرض واحد هو «ضغط الدم»: المفتاح الأساسي لكثير من أمراض أخرى:
ويدّي الصحة للي بلا زحام*

وتزاملت فكرة توفير الجهد العضلي مع فكرة رفع قيمة الأجر/ الراتب/ الماهيّة/ القبض.

اللفظان الأوليان لا يدهشان المتأمل. للأول علاقة وثيقة بالثقافة الإسلامية: «أعطوا الأجير حقه. قبل أن يجف عرقه». والثاني عربي فصيح جاء من «الرُتْبة» أي: المنزلة والمكانة، والراتب هو الأجر المالي المتناسب مع مكانة الأخير ومنزلته لدى صاحب العمل.

أما اللفظان الأخيران فهما ذوا علاقة غير مباشرة باللغة العربية:

لفظ «الماهِيّة» جاء من (مَاهَ)(4) أي: ماء.. وأحياناً ما كنت أسمع شخصاً يقول لآخر: مَيِّتك قد إيه؟ وطبعاً ليس لدى المصريين اسطمبة واحدة للمعنى الواحد، شرط أن تحتوي الاسطمبات «= التعبيرات» المختلفة على الكلمة الأساسية «ميِّتك»، وألا تعمل تلك التعبيرات على زحزحة المعنى الأساسي، وبالتكرار الذي يُعلم الشطار عرفت أن المقصود من السؤال «ميتك قد إيه؟» هو: ما هي قدرتك المالية لشراء شيء ما من بين مجموعة اختيارات موجودة؟ وعلى ضوء الإجابة يحدد التاجر للمشتري «العَرْبون» الذي يجب دفعه، وعدد الأقساط الشهرية، وقيمة القسط.

وربما يعود ارتباط الماء بالثروة(5) إلى الحياة الرعوية القديمة، حيث كانت آبار الماء هي الثروة الأساسية، بدونها لا يستطيع ساكنو الصحراء اقتناء ثروات أخرى كالجمال والماعز والخراف والأحصنة.

واللفظ الرابع والأخير هو «القبض»، وحتى الآن لا أعرف سبباً لهذه التسمية: القبض. والتي لها علاقة بالعساكر والمخبرين وأقسام الشرطة. ما علاقتها إذن بالأجر والراتب. كأنهم كانوا لا يثقون في استلام رواتبهم، ولابد من القبض عليها. أو لأن كلمتيْ الأجر والراتب تعود إلى المانح العاطي. أي إلى صاحب المصنع. أما فعل القبض فله علاقة بالقبضة التي تُشغّل الماكينة، وتنتج.

لهاتين الفكرتين عافَر عدد من رجال العائلة والجيران لفك الخط، ومعرفة كتابة الأرقام. المسائل البسيطة للجمع كانت سهلة. مسائل الطرح البسيط كانت صعبة. مسائل الضرب والقسمة كانت أصعب، رغم أنهما من لزوميات حياتهم الاجتماعية الخاصة بالعلاقات، لا الأرقام.. كانت هناك مدارس ليلية لمحو أمية الكبار، وكان هناك أيضاً اجتهادات ذاتية من خلال معاونة بسيطة من أي أحد بالكاد يعرف الكتابة. كان الناس يتطوعون لخدمة بعضهم البعض و..
من قدم السبت. لقى الحد قدّامه.

ولكن هذا المثل تم تجميده بفعل تطورات اقتصادية طوفانية جعلت الناس تسترجع هذا التعبير الجهنمي:
إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك.

وهو تعبير له مشهد سينمائي معكوس، لا أتذكر اسم الفيلم، ولا مخرجه، ربما ستيفن سبيلبيرج في «إنقاذ الجندي رايان» أو ستانلي كوبريك في «خزانة معدنية مملوءة بالرصاص» أو في فيلم آخر، لست أذكر الآن. في هذا الفيلم اختبأ جنود تحت جثث قتلاهم لينجوا من طوفان الهجوم عليهم.

في المراجعة الأخيرة لهذه الدراسة الحكائية ذكّرني صديقي إسلام عاشور بفيلمين آخرين:

«العدو على الأبواب» عندما اختبأ القنّاص «الممثل جود لو» تحت جثث زملائه لينجو من هجوم المدرعة الألمانية، وفيلم «خلف خطوط العدو» عندما اختبأ الطيار تحت جثث ضحايا المذابح في البوسنة أثناء حرب التطهير العرقي في التسعينيات.

وبالعكس مما سبق: شاهدت مؤخراً الفيلم الفرنسي الجزائري «البلديّون»: وبه مشهد لجندي جزائري أضطر لاستخدام جثة زميله كساتر يحمي به نفسه فيما بندقيته فوق الجثة مصوّبة نحو الألمان الذين يحاولون إحتلال قرية فرنسية.
وتأويلي لهذا المشهد الرمزي «والحقيقي أيضاً» هو:

الذي يموت كجندي؛ لا يموت في الحقيقة، مهمته لم تنته بل تغيّرت من مدافع إيجابي عن الحياة إلى مدافع سلبي عنها.. وبالمناسبة: لقد نال الذين لم يصنعوا الانتصار ترقيات والتُقطت لهم صورٌ تذكارية. لا لشيء سوى أنهم فرنسيون، والآخرون من وطن آخر «لجزائر»:

ويدُّوا الترقيات للّي بلا تضحيات*

ولأن مشاعر الظرفاء من الفقراء لا تطاوعهم على وقوع مثل شعبي، عاشروه لأجيال طويلة، في براثن فريزر زمن مقلوب، نراهم يحاولون إخراجه إلى الفاعلية الحياتية مجدداً، وهم على ثقة من أنه هيهات أن يعود كما كان، انعكاساً لصفة جميلة، بل سيعود بهيئة كارثية قد تنفع أن تكون مَصْلاً أو لقاحاً يمهد لشفاء ذلك الزمن الذي نرميه بعيوبنا. وأقرب النماذج إلى ذهني هو ما ذكرته منذ بضعة سطور:

من قدّم السبت. لقا الحد قدّامه

وقد تمّ تحريفه ليتناسب مع ما حدث من انحرافات سياسية واقتصادية، ومن ثم اجتماعية:

من قدّم السبت. ملاقاش حد قدّامه**

أو من قدم السبت. لا لقى حد ولا اتنين حتى خميس وجمعة معبروهوش*

وقد يتسابق المصريون فيما بينهم في الظرف:

_ من قدّم السبت. ملقاش حد قدامه.

_ ده أونطجي.

_ ليه يا عم؟

_ يبقى التقى مين؟ وفين؟ وقدّم له خدمة. والناس صبحوا زي اليهود قاعدين كل سبت أجازات في بيوتهم.

فك الخط كان يساعد العامل- لو أراد- على الانتقال من فئة العمال الشقيانين العرقانين إلى فئة العمال ذوي الياقات المكوية. نظراؤهم في أوروبا لهم اسم يوازي اسمهم: ذوي الياقات البيضاء. عندنا يتم توفير الياقة البيضاء ليوم الفرح والزواج. الأبيض فضّاح. قذارته تظهر بسرعة. تقلل من الإحساس بأفندية الموظف(6) أو المُتموظف من العمال. البنيات على درجاتها. والسماويات على درجاتها والرماديات على درجاتهاهي ما كان يفضله الناس حتى الآن(7).

فك الخط- كما ذكرت- كان يساعد العامل على الانتقال إلى فئة العمال ذوي القمصان المكويّة تحت مراتب السرير. وبعد زواجه واستقراره يحرص على عمل مرتبة قطنية إضافية يضعها تحت المرتبة التي عملها أهل زوجته. بيته لابد أن يكون مفتوحاً دوماً لقريته، فيما بعد صار مفتوحاً لعائلته فحسب، وفيما بَعد هذا البَعْد صار مفتوحاً لأسرته فحسب. ومنذ وقت قريب صارت فكرة أن ينفصل كل واحد بحياته عن أي آخر حتى ولو كان أخاه هي الفكرة التقدمية. والحمد لله فالمقاهي الآن أكثر عدداً من ذباب زمن التواصل!

أود أن أتحدث عن هذا الفك الإنساني المفترس. لكن ليس هنا مجاله. هنا مجال فك الخط الذي ساعد بعض العمال على الفصل بين أذرعتهم وماكيناتهم(8)؛ والانتقال إلى فئة العمال من أصحاب الذقون التي كادت الأمواس تجعلها أشبه بمرايا عاكسة لشعور متبسم بألف باء السلطة، مما قد يدفع عامل لا ينفصل لحظة عن عرقه؛ إلى التّفْتفة الصوتية الهامسة والممسوسة بحقد على زميله الذي صار متميزاً عنه:

يدّي الحلق للّي بلا ودان

ولما كان وقت فراغ العمال من أصحاب القمصان المفرودة تحت المراتب طويلاً؛ عقدوا علاقات موشاة بشرب الشاي وتدخين السجائر، مع عمال من فئة أخرى تجمع ما بين شقا وعرق عمال تشغيل الماكينات، وبين مكانة تعلوهم بحكم ضرورتهم الحتمية للمصنع. انهم فئة الفنيين من كهربائية وميكانيكية ولحّامين وخراطين وزيّاتين.. وهاتان الفئتان(المكويّون والفنيون)، بحكم طبائع عملهما على علاقة بإدارات المصنع الوسيطة، وهنا يكمن صراع خفي بين هاتين الفئتين؛ فواحد من هنا أو هناك؛ سيتقلد يوماً منصب مشرف العنبر (غزل/ نسيج/ صباغة.. مثلاً) فماذا يفعل كل منهما؟ لا منفذ سوى النقابة، فليرشحا نفسيهما- مع آخرين طبعاً- لخوض انتخاباتها، وغالباً ما ينجح واحد منهما. ومن هنا تبدأ رحلة صعود إلى مستوى اجتماعي واقتصادي وسياسي قد يفوق كثيرين من مهندسي المصنع، وموظفيه الكبار خريجو الكليات والمعاهد، أو المدارس الصناعية والتجارية المتوسطة. ولا أستبعد أن يكون واحد منهم قد وَشْوش زميلاً له قائلاً عن هذا الفتى القادم من تحت الماكينات، أو عن صاحب القميص الباعث لضحكات مكتومة، فهو غير ذي صفة: لا هو مكرمش، ولا هو مكويّ. وبما أن الضحك المكتوم يفصل ما بين حروف الكلمات مغتالاً بعضها، فإن الموظف ابن التعليم الذي يفتخر به والده، وهو يقدم الشهادة الحكومية الدالة على علو كعب ابنه، إلى أهل البنت التي يود أن يطلب يدها لذاك الابن الذي أمال بأذنه ناحية حنك زميله المختلطة حروف كلماته بضحكاته:

_ لم أسمعك جيداً.

_ كنت أقول لك:

يدّي الحلق للّي بلا ودان

أجاب زميله:

_ دا مثل من أيام النظام الإقطاعي وانتهى.

_ مفيش حاجة بتنتهي. الأمثال لها صفة أساسية من صفات الزواحف.

_ إيه هيه؟

_ بتغير جلدها.

_ وأكتر كمان من تغيير الجلد. لها من السحالي صفة تغيير اللون حسب طبيعة الأرض والأشياء.

_ كده صح.

_ بعد ثورة العسكر في 52 حصلت تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية.

_ فاهمك. ماشي. كمّل.

_ وبالتالي حدث انقلاب في المثل اللي بيقول «يدي الحلق للي بلا ودان» إلى:

يدّي التمام للي بلا عَلاَم*

_ وآدي أخرة سهر الليالي يا عين:

ندِّي الاحترام للي بلا مقام*

_ آااه. إنت كده بتنتمي للبرجوازية الرثة.

_ من غيظي.

كان لابد لهذا المثل الشعبي أن يتمتع أيضاً بتنويعات نظرية فيثاغورس الهندسية (المثلث القائم الزاوية/ والمنفرج/ والحاد) فيُقال:

يدّي الحلق لمن له ودان*

المثل الأساسي يتناسب مع عصر ما قبل حركة يوليو 52، وتنويعته تتناسب مع ما بعد الحركة إياها، وحتى الآن، حيث صارت الوشاية مهنة سرية وعادة يومية لها مقابلها من الخدمات والامتيازات.

_ أنسيت والدة زميل الإعدادية؟

_ لا لم أنس طبعاً.

رحلة هذا المثل الشعبي معي لابد من خوضها، ومع هذا أرى أنه لابد من ذكر بضع مُعطيات عن هذه السيدة:
لم تكن تعمل. كانت ربة بيت. شُغل المرأة يتدحرج جيئة وذهاباً في نظر الناس بين العيب والحرام. عن الزوج يقولون: هو رجل البيت..عنها هي يقولون: ست البيت.. لا يقولون: امرأة البيت أو سيدة البيت.. وإلا كان في هذا شبهة مساواة بينهما. وبالتالي تقليل من مكانة الرجل الذي تمنى أهلها حينما طلب أهله يد ابنتهم لإبنهم؛ أن يستّتها في البيت مُعَززة مُكرّمة، رافضاً أن يشتتها بين بيوت الأثرياء لتغسل وتمسح وتطبخ؛ حتى ولو كان أكلهم لا يخرج عن البقوليات. وطبعاً هي بنت أصيلة لأمثالها الشعبية، ومنها:
اللي خرج من داره. إنْقل مقداره(9).

كان عمرها يقع ما بين الثلاثين والأربعين. يصعب التحديد. البُلهنية تُنقص المرأة أعواماً. وهَمُّ الليل والنهار يزيدها أعواماً فوق أعوام.ليس لي مفر من وضع السن بين رقمين مزدوجين. يتحدان في الصفر الموضوع في منطقة الآحاد، ويختلفان رغم تجاورهما الرقمي في منطقة العشرات.

وكنا في الثالثة عشرة من العمر. في قلب رقم التشاؤم. زميل وجار كان يسبقنا بعام في المدرسة قال لي (مُتَفَلْحسا) بثقافته المأخوذة نقلاً عن لسان أخته التي كانت أبلتي في الابتدائية:

_ عباس محمود العقاد اللي أنت شفتو لابس كوفية حوالين رقبته في الصورة اللي في المجلة بتاعة أختي ساكن في بيت نمرته 13 ومع كده ربنا نجاه من الألمان اللي وصلوا لغاية العلمين قرب الإسكندرية.

قلت له وأنا أرتعد:

_ بس لما دخلت أنا وأنت وأصحابنا. فاكر. من سنتين كده. سينما باكوس وشفنا فيلم محمود المليجي «المنزل رقم 13». إيه اللي حصل؟ مش عربية دخلت على الرصيف وكانت هتموتني. مش كده وبس. دا أنا كنت كل ما أتغطى باللحاف عشان البرد وأنا نايم في بيتنا.يطلعلي محمود المليجي يخوفني بعينه اللي مبتتقفلش خالص. فأبعد اللحاف عن عيني اللي فضلت مفتحها لحد ما سمعت الله أكبر وعرفت إن الفجر طلع. ونمت. نمت ومعايا فاتن حمامة. بس الحمد لله. كانت معايا في فيلم تاني هيّه وشادية بيغنوا سوا. ألو. ألو.. إحنا هنا. ونجحنا أهو في المدرسة..

وأكمل صديقي ضاحكاً:

_ بارك لنا، وهات لنا وياك هدية كويسة.

_ أيْوا يا عم يا بختك. أخوك في الكويت.

تذكرت كلام جارة لأسرته قالته لأمي حينما تقابلا مصادفة في السوق، وهذا الكلام نقلته أمي ونحن جميعاً- أفراد الأسرة- حول الطبلية نتناول طعامنا. نقلته وسط كلام لم ينقطع طوال تربّعنا. لذا لم يثبت في ذهني الكلام الخاص بزميلي وأسرته. بعد سنوات تخلّص هذا الكلام مما ليس له علاقة بزميلي فاتضح وتجسد في ذهني. قالت أمي:

_ جارتهم ديّه بتقول عليهم. يدي الحلق للي بلا ودان. كانوا فقرا خالص. أخوهم الكبير اضطر يطوّع في البحرية عشان يأكّلْهم. واللي أصغر منه خَدُو مقاول عشان يمسك له الحسابات في الكويت. وأخته الكبيرة وقعت لها واحد عنده مصنع صغير مش عارفه بتاع إيه. وبهدايا الكويت قدروا يشغلوا البنت اللي أصغر من أختها أبلة في الابتدائي. يا حسرة. دا مش بس:

يدّي الحلق للّي بلا ودان

دا إدّاهم الحلق والغوايش وسلاسل الدهب والخلخال اللي معدش حد يلبسه أو حتى يعرفه.

بعدها بسنوات أكملتُ بيني وبين نفسي كلام الجارة الحسودة:

إلا لو شاف فيلم «رنة الخلخال» بتاع برلنتي عبد الحميد أو سمع من أغنية محمد رشدي: خلخال برنة يرقّص الجلابية. أو الليلة الكبيرة لجاهين ومكاوي:

يا ولاد الحلال. بنت تايهه. طول كدا.

رجلها الشمال. فيها خلخال. زيِّ دا.

لم نكن نعرف وقتها عن العقاد سوى أنه رجل معقّد وكلامه معقّد وكتبه ألغاز. ثم أنه لا يعنيني في شيء. شرلوك وأرسين وأجاثا وسمير وتهته وباسل وميكي وبطوطة وطرزان وشيتا وزورو أبو سيف طويل ورفيع وزوزو أبو شعرة واحدة على رأسه.. كانوا كلهم أصدقائي، لكن أنا كنت أنانياً. في الوقت الذي أكون فيه أنا وزملاء الإعدادية «زي السمن على العسل» أنساهم في كرتونتهم، ولا أتذكرهم إلا في وقتٍ نكون فيه أنا وأصحاب الإعدادية «زي الشريك المخالف» و«زي الفريك اللي ميحبش شريك»، وأحس أن واحداً منهم قد صار «في الوش مرايه وفي القفا سِلاّية»، وإن واحداً ثانياً لم يتعلم من أمه إن «يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا صَنّتها» وإن «الأدب فضلوه عن العلم». ماذا أفعل حينئذ؟ «أبعد عن الشر وأغني له» أصدقائي ليسوا شراً طبعاً «ما عدو، ولا غريب إلا الشيطان» الذي يوسوس في صدور الناس. تجميد العلاقات لأجل غير مسمى هو خير علاج. والعلاج هو أن أعمل «وِدْن من طين وودْن من عجين». وعلى العموم فهذا انتقام إلهي لأنني نسيت أصدقائي محبوسين في كرتونة تحت السرير. اكتشفت أنني كنت محبوساً أيضاً في كرتونة أمثال شعبية، جدرانها غير مرئية. كنت، وربما مازلت، عبداً بالحس، أو بالغريزة، لتلك الأمثال التي لم ألتفت إلى وجودها إلا في أحد الشهور الرمضانية في برنامج الفوازير(10) بتاع آمال فهمي. تقول حكاية بالشعر ثم تقول بصوتها الكمنجاتي كما وصفه أخي السيد:

«ونقول كمان».

وقبل أن تقول معيدة ما قالته تكون أمي وأختي الكبيرة هانم، وأخي الكبير حسين، والأصغر منه سيد، يسبقون بعضهم البعض في قول المثل الشعبي المنطبق على الحكاية. أحياناً يقولونه في نفس واحد. أحياناً يتباطأ أحدهم في تذكّره. أحياناً لا يجيد أحدهم قوله بالضبط.أحياناً لا يعرفه واحد أو اثنان منهم. أحياناً لا يتذكرونه. أو حتى لا يعرفونه أصلاً. إلا أمي، وكأنها فاتن حمامة في فيلم «يوم مر ويوم حلو»(11) الذي شاهدتُه، ومُت حباً في تمثيل حنان يوسف، بعد أكثر من ربع قرن من انفصالنا عن سوريا الشرابات الـ(All size)شريكة أقدامنا في الأعياد الدينية، طبعاً الوطنية لأ، والقومية «لأَِّيْن اثنين». المشترك الوحيد بينهما وبين الأعياد الدينية هو الأجازات، وأحياناً تتحالف السينمات مع هذا المشترك. كل علاقتي بسوريا كانت شهراً واحداً في العام. شهر رمضان؛ شهر قمر الدين وجوز الهند والزبيب، إلى جانبهم All size سوري. بلد موقعة ميسلون وجول جمال الذي استشهد في البحر أثناء العدوان الثلاثي على مصر..أخرجت الشراب من كيسه مرات عديدة. استنشقته. كدتُ أن أفكّه من الورقة الذهبية الملصوقة في فردتيه ناحية الأستك، نهرتني أختي:

_ لم يأت العيد بعد.

ليلة العيد تكون كل ملابسي الجديدة قدّام عيني فوق الكنبة:

_ يا ليلة العيد آنستينا.

ولا أشعر بنفسي إلا وأمي توقظني لآكل الكعك مع الشاي أبو لبن ثم تدفعني بحنان إلى الحمام لأقوم بنفسي، إِذْ أصبحت رجلاً، بمهمة دعك جسمي بالليفة والصابون وكيزان المياه الساخنة.. أجوع مرة أخرى.. آكل من البتي فور والبسكويت والغُريّبة. تعمل لي أمي شاياً آخر. لونه هذه المرة لم يختف تماماً. أشبه بلون قشر الموز. هذا جميل. لا أحب أن أشعر بأني أشرب لبناً بالشاي. بل شاياً باللبن، وحينما انتهي أقوم من قعدتي وأخطف كيس الأُول سايز وأرتديه في قدمي، وتتبسّم أمي ناظرة لابنتها الكبيرة التي تحاول تعليمي كيف أرتدي ملابسي؟ وأبدأ بأيها؟ امتعضتُ.. الشراب أولاً وليس القميص. نظرت أمي إلى نظرات ابنتها التي كتمت ضيقها من تدليل أمها لأخيها الصغير الذي بدأ يَتَفَرْعَن عليها بعد حصوله على حتة شهادة سوف تتوزع غداً مع شهادات الميلاد والانكلستوما.

يا ليلة العيد آنستينا.. وجدّدتي الأمل فينا
هلالك هَل لعْنينا.. فرحنا له وغنّينا
وقلنا السعد حَيجينا.. على قدومك يا ليلة العيد
جمعت الأُنْس ع الخلان.. ودار الكاس ع النُّدمان
وغنى الطير على الأغصان.. يحيِّي الفجر ليلة العيد
حبيبي مركبه تجري.. وروحي في النسيم تسري
قولولو يا جميل بدري.. حرام النوم في ليلة العيد

كنت أحرص على رفع رجل بنطلوني وأظهر «الأول سايز» لأصدقائي وأنا أمطه لأعلى. ثم أمطه من أستكه بالعرض. هل قال أحد منهم علناً:

الغربال الجديد له شدّة

أم: الشراب الجديد له مَطّة*

وهل قال أحدهم سراً:

يدّي الحلق للّي بلا ودان

أم: يدي الأُول سايز للي جزمته من (باتا)*

ربما آه. ربما لأ. ربما آه ولأ. ولأ وآه. كنا مازلنا في الثالثة عشرة من العمر، ولم ننتبه بعد لهذه التعبيرات التي ابتكرها كل شغيلة الشعب المصري، وعلى غير اتفاق، طوال آلاف السنين. وأقسم بالله العظيم أنه لو اجتمع علماء الاجتماع من كل أنحاء الكرة الأرضية لمدة عشر سنوات، وتفرغوا للتعبير عن أحوال المجتمع المصري، من خلال ما به من علاقات وبأوجز العبارات الدالة؛ ما استطاعوا..بُوركت يا أيها الشعب الكادح. خلقت دستورك بنفسك عبر المعاناة. كل دساتير الحكومات تغيّرت. تم التلاعب فيها. ما عدا دستورك أنت. وهو دستور ديمقراطي.. تترك ما تود تركه منه. لن يعاقبك أحد. دستورنا ونحن أحرار فيه. ويحق لأي مواطن أن يغازل أي مثل فيه بالتعديل الباسم أو بالتحريف الكاريكاتيري.. آااه. متى يصبح القلم فأساً، والورقة أرضاً طينية، والروح المثقفة سيّالة كنهر النيل فوق صفحة الأرض؟

أما المأثور الحي الفاعل فهو يحتاج إلى متابعة ورصد التغيرات التي تطرأ عليه مع تغير الأفكار والمجتمعات والتداخل الثقافي الذي يحدث بينها(12).

يا لك من أنانيّ يا أنا. أنت عبد للأمثال دون أن تدري. ومع ذلك لا تسلم تلك الأمثال من نزواتك مثلما لا تسلم من نزوات الأيام.. ربما لأن لها علاقة بعلاقاتك مع الأصدقاء «بدءاً من أصدقاء الإعدادية». حين تكون معهم تنسى أصدقاء العزلة المنزلية:

من لقى أصحابه. نسى أحبابه

وغالباً ما نقولها بالعكس:

من لقى أحبابه. نسى أصحابه

الصاحب حبيب. والحبيب صاحب. لا فرق. أو يجب ألا يكون هناك فرقاً. هذا عن نفسي أنا. أيام الإعدادية، وقبلها وبعدها كان هناك فصل بين هاتين الكلمتين. كلمة الصاحب تعني زميلك أو جارك. وبشرط أن يكون في سنك. ينقص عاماً أو يزيد عاماً. هذا أمر عادي.خارج هذه المواصفات فالأمر فيه إنّهْ «حاجة غلط». ولا ينفع- مثلما هو الآن- أن تقول عن البنت بتاعتك: إنها صاحبتي أو صديقتي أو الجيرل فريند.. يعني إيه؟! بنت صايْعَهْ. ما يقال هو الآتي:

البنت اللي علقها فلان/ دي صيدة علان/ دي بتاعة ترتان/ فلانة دي فيشة فلان ده.

وكلها تعبيرات دالة على إحساس متشبع بروح الملكية رغم أن أهاليهم بالكاد يملكون ما يسترهم من العوز.. ونصف هذه التعبيرات تتعامل مع البنت كـ«صيدة» يجب ذبحها ثم تعليقها في خطاطيف محل الجزارة.. أما بالنسبة لهذين التعبيرين الأولين فهما قوسيّ حياة الكدح البشري، منذ أن ظهر الإنسان حتى الآن: حياة الصيد والقنص«مرحلة ما قبل اكتشاف الزراعة». ثم حياة الدكاكين الخاصة بتعليق ذبائح تم ترويضها من آلاف السنين «وظهرت مع بدايات الحياة المدنية».. أما التعبير الثالث فهو مكمل للاثنين الأولين، رغم أنه منفصل عنهما: ما يتم اصطياده هو جسد وروح.. وإن ذُبح وعُلق فقد صار جسداً فحسب. فإن تم التهامه انتهى من المعدة بعد ثمانية ساعات أو أكثر قليلاً.. ولفظة «بتاع أو بتاعة» تعني أنها مجرد شيء للمتعة واللذة، وليست جسداً وروحاً لهما متطلبات أوسع دائرة من دائرة المتعة واللذة ورغم أن الأخيرة دائرة ضيقة، ووقتية، إلا أنها تضيء الروح التي تصبح غرفة لجسد ذاب وسال وصار في حاجة لما يمنعه عن التلاشي حتى يعود مرة أخرى من حالته الاستثنائية إلى حالته المعتادة، في ذات اللحظة التي تنسال فيها الروح وتذوب في الجسد فالتة من الإمساك الحسي. وبهذه الإضاءات المتبادلة تدرك كل من الروح والجسد ما في الآخر من إمكانيات لا تنتظر سوى تشغيلها على قدر وعي النفس التي تحملها، وقدراتها، وما تريده وفقاً لطموحات تلك النفس الأمارة بالسوء، الأمارة بتغيير الكون إلى ما تعتقده أنه الأفضل.. وفي هذه الحالة تنشط خاصية التغذية المرتدة التي تجعل هذه الثلاثية: الوعي والقدرات والإرادة تقوِّي بعضها بعضاً صعوداً إلى خلق سوبرمان لكل نشاط إنساني. وليس مهما أن تكون الروح هي فيشة للجسد أو تكون كُبْساً تنزلق أطرافه في مَنَايم الجسد، في الحالة الأولى تُنتج الماديات، وفي الثانية تُنتج الآداب والفنون وغيرهما.

يبدو أنني متأرجح بين قبول التعبير الرابع، والتحفظ عليه، لا أقول أرفضه: «فلانة فيشة فلان».
على الأقل هو انعكاس لعصر الكهرباء. وبالأصح هو انعكاس لتمدّين بيوتنا وتخلصّنا من هباب(13) اللمبة الجاز. المصباح الكهربي كان فرحتنا لمدة سنة على الأقل بدءاً من منتصف المرحلة الابتدائية على ما أذكر. وقتها كان تعبيراً مودرنً. والآن اشتعل مخي لثوان.لا أكثر. بهذا المثل المبتكر عن بنات اليوم:
بنات بتوع Work.. وبنات بتوع وِرْك*

يا لك من أناني يا أنا. ألم تقل:

من لقى أصحابه. نسى أحبابه

هم في كراتينهم ينتظرونك.. يودّون استنشاق الهواء.. الرطوبة ستأكلهم.. حاضر يا أيها المخبر بوارو.. ها أنا قادم إليك.. وإلى غاباتك الأفريقية يا طرزان وصيحتك المشهورة، ها أنا أنضم من جديد إلى فريق كشافتك يا باسل.. لم أخن صداقتك يا ميكي.. قابلت غريمّيك توم وجيري بسينما مترو في الصيف الماضي كمكافأة لأنفسنا الذاهبة للسنة الأولى الإعدادية.. لكن أنا عملت بالمثليْن اللذين عرفتهما من أمال فهمي وأمي أو من غيرهما؛ لا أتذكر:

من فات قديمه تاه

أو كما في أغنية مصرية جديدة:

من فات حبيبه تاه

والمثل الثاني هو:

إن كان حبيبك عسل. متلحسوش كله

وأيضاً بالمثل الذي عرفته نظرياً وأنا في ريعان الشباب، وأيقنت بصحته الواقعية بعد أن دهمتني الشيخوخة:

ابعدْ حبه. تزداد محبه

ويقولها المتصوفة:

ابتعد تقترب

وفي أغنية بالأحضان لحليم:

 أَبْعِد عنك. قلبي يقرّب. ويرفرف ع النيل عطشان. بالأحضان. بالأحضان

ونجاة الصغير تغني:

القريب منك بعيد.. والبعيد عنك قريب
 كل ده وقلبي اللي حبك.. لسّه بيسمّيك حبيب

والمثل الشعبي يقول:

الشيخ البعيد سرّه باتع

والمثل الشعبي أيضاً يقول:

أهلك لتَهْلك

أي كن دائماً قريباً منهم؛ محتمياً بهم. ألسنا نطلق عليهم: أقارب؟

لكن المثل الشعبي يقول:

الأقارب عقارب

تبدو الأمثال متناقضة:

هل الاستناد إلى الأهالي «= الأقارب» «= العائلة» «= العزوة» نجاة من المهالك؛ أم هم المهالك ذاتها؟

يقول مثل آخر:

ما يحمل هَمّك إلا اللي من دمك

وعلى ضوء التناقض الغبي الذي تعيشه الأمة «أي أمه» في لحظات التيه، قد يبدّل المثل كلماته فيما بينها على النحو التالي:

ما يشرب دمك إلا اللي يحمل همك

تناقض الأمثال هنا ليس من النوع الذي يفني بعضه بعضاً، لكنه من النوع الذي يعبر عن تناقضات الإنسان ذاته، وعن بحثه الدائم عن بدائل يتبع إحداها للهروب من ضائقته «مادية كانت أم معنوية».

ويبدو أن أمثالنا الشعبية شيوعية؛ لها علاقة مستترة بفلسفة ماوتسي تونج في التناقض الناشئ عن صراع دال على حركة دالة على حياة ذات وجهين يمنحان الحياة قيمة مستحقة الدفع لعجلة التاريخ اللافف الآن حول نفسه في مفترق الطرق وسط علامات مرور صدئة متآكلة الحروف والأشكال والألوان. كل ذلك قد يربك البشر؛ لكنه لا يربك تناقض العم ماو:

إما أن تقوم بين الأقارب حرباً أهلية:

أنا وأخويا على أبن عمي...

وقد تلتئم جراحهم في حالة غزو أجنبي:

... وأنا وابن عمي على الغريب

والآن أُستبدل الشطر الثاني وصار هكذا:

وأنا والغريب على ابن عمي**

وأمثالنا الشعبية ترى في الذكور عامة- دون الإناث- سلطة مستبدة:

العم غَمْ.. الأخ فَخْ.. والخال وَبال

وكذلك:

اللي أمره ما يهمك. سلّط عليه جوز أمك.

لكن الأمثال تقول أيضاً معاكسة ما فات:

اللي له ضهر ما ينضربش على بطنه

وتقول كذلك:

اللي مالوش خال. يعمله خال

وأيضاً:

الخال والد

وأسمهان تغني حزينة:

ولا عندي لا أب ولا أم ولا عم. أشكي له نار حبك.

لكن أنا والحمد لله لي عائلتي الخاصة سأخرجها من الكرتونة وأطلع معها إلى السطوح.

وفي ركن مظلل من السطوح الذي حوّلته أمي إلى قرية: فراخ وبط وفرن خبيز وغسيل منشور على حبال، تربعت فوق حصيرة لم تهترئ تماماً، وسرحت مع صديق من أصدقائي ناسياً دُنياي، وحتى نداء معدة البطن التي لا تنسى أبداً ميعاد القعدة حول الطبلية وتناول الغداء، عرفت فيما بعد أن أمي كانت تمنع أخوتي من مناداتي للأكل، حينما أنزل أرى ابتسامتها قد أخذت وضعاً خاصاً وهي تضع الطعام أمامي وحدي على الطبلية وكأني سيد البيت.. أضع أصدقائي الموجودين مازالوا على صفحاتهم في مجلة «سمير» إلى جوار الأطباق التي أنزل عليها التهاماً على نحو لم أرني صنعته من قبل.. هل كان اهتمام أمي بي يضايق اخوتي الكبار الذين هم في سن الزواج، هل قال أحدهم:
يدي الاهتمام للي بلا دراع شغّاله

تجيب اللقمة والهدمه

وتسد ديون البقاله

المكتوبه بلا ضمير أو ذمّه

في دفتر شُكُك مشكوك في أمره

وقت البطون تتوه العقول

هذا ما يقوله المثل الشعبي، لكن عقلي قد يكون خامداً، خاملاً، متكاسلاً، وقد يكون في أوج نشاطه لا يتوه إلا في بطون الراقصات العاريات في فرح ساهر بشارعنا، ومع ذلك. بعد فاصل من نوم عميق أرى نفسي في قمة النشاط الروحي والذهني. عشرات العوامل تصنع درجة النشاط التي يكون عليها، وعلى العموم، عقلي يتّقد، يتأرجح، بعد الإفطار بساعة، يفور مثلما اللبن الحليب فوق وابور الجاز. يفور بعد دقائق معدودات من هذه الساعة؛ وحسبما هو طول اللهب. والطول شدّة وقوة وسرعة. لكن أمي لا تدفع الكباس وترجعه سوى مرتين أو ثلاث. اللهب القصير يلغي عنصر المفاجأة المتمثل في فوران سريع يطفح على جدران الكسرولة من الخارج؛ وبالتالي ضياع الدسم المخبوء في القشدة.. بعد سنوات طويلة استخسرت ضياع هذا الفوران الطافح على جدران الأيام. اشتريت ورقاً أبيض، وتركت الفوران ينزلق من خلال ذراعي الأيمن إلى الورق عبر أقلام اخترتها سوداء اللون حتى تثقب عيني حين مراجعتها، فأرى بعضاً من نفسي. وفي الغالب، عقلي يتقد ببطء بعد وجبة الفول والفلافل. ويهرول بعد وجبة من الجبن والحلاوة. ويجري مسرعاً بعد إفطار شهي من عسل أسود مخلوط بطحينة بيضاء. صباحات السنة كلها لا تخرج عن هذه الثنائيات الثلاثة إلا في حالة مرض واحد من أفراد الأسرة: سندوتش فينو من الجبن التركي إلى جوار بضع حبات من الزيتون الأسود. شراؤهما من البقال الجار إعلان عن وجود مريض بالأسرة. ما أن يتلقى البقال الطلب بأذنه حتى يسرع لسانه قائلاً: خير إن شاء الله. وطبعاً وضع الرأس- قبل الإفطار-تحت صنبور المياه الباردة بحكم مواسيره الرصاصية اللاقطة لبرودة الليل؛ وبعد نهاية الإفطار تناول كوب الشاي الساخن المزوّد بالحليب وجزء من القشدة هما خير مساعد على التنشيط المنضبط. ويظل عقلي متقداً حتى قبيل افتراش الشمس لكامل السطوح، ويمكن لمن أراد؛ أن يحذف حرف الشين ويضع السين ويقول: افتراس الشمس لكامل ظلال السطوح. عندئذ أتحرك من مكاني، وأقعد فوق درجة سلم محمية من الشمس بحائط غرفة، وأكمل رحلتي مع أصدقائي الورقيين إلى حد الحقيقة.. الشعلة يصيبها الوهن تدريجياً. الدفعة القرائية الأولى. وهي قوية ونشطة تكون هي التعويض المناسب لهذا الوهن. فلا أشعر بهذا الأخير. قد أشعر به للحظات. لحظات انتقالي من السطوح إلى السلم ومحاولة انتقاء درجة مناسبة منه. الدرجات الأولى من السلم ناحية السطح تكون ساخنة، من الدرجة الرابعة حتى بَسْطة السلم تكون مازالت محتفظة بقليل من برودة الليل ما أن اختار الدرجة المناسبة وأجلس؛ أكمل القراءة بينما تختفي تماماً بوادر الوهن، ويعود النشاط من جديد، ليس كله من المخ هذه المرة. بل من منطقة لا أعلمها. ويبدو أنني لن أعلمها.

البطن الخفيفة من أثقال التربة الزراعية، وكائنات البحر والنيل، تترك التركيز كله في العينين مندوبة المخ المعتمدة للقراءة الاستبصارية المتأملة. ومن ثمّ تتسامى الرسومات والحوارات إلى المخ.. فوق السطح قبل اختفاء الظلال. يكون التسامي أسرع مما يكونه وهو فوق السلم. وبالتالي يكون ما يمنحه المخ من كثافة وعمق وأبعاد؛ أقل مما كان يمنحه وهو فوق السطوح. ومع ذلك أظل محتفظاً بكامل زخم حياة تلك الكائنات الورقية. حتى تصبح هي كل ما حولي من دنيا عشتها وأعيشها وسأعيشها. هذا هو تفكير شخص خارج بالكاد من طفولته العُمرية. ولا لوم عليه. لكن العجيب أننا صرنا نعيش اليوم ضمن عالم كرتوني مُبرمج. ومع ذلك ففي:

وقت البطون لم يكن عقلي يتوه

يبدو أن يد التحريفيين تدخلت ووضعت كلمة مكان أخرى. هذا يحدث مراراً، قصداً أو عفواً. الأمثال الشعبية ليست ملكاً لأحد. هي ملك كل الناس من مئات السنين. أستطيع أن أقول أنها ملك مليار وأكثر من المصريين. من ماتوا، ومن هم على قيد الحياة. هنا. في هذا المثل لعبت يد التحريفيين لصالح القوى الاستغلالية، وكذلك لصالح من يستفيدون منها.. لعبت تلك اليد الخفية على وعي الناس المُثقل بأعباء الحياة اليومية. فما معنى «وقت البطون»؟ لا شيء. مثلما تقول: «وقت العيون» أو «وقت القلوب». أيه عيون؟ عيون الشبق أم الحسد والغيرة. أم التأمل؟ أيه قلوب؟ قلوب الغدر أم قلوب العشق أم القلوب التي هي معك، وسيوفها عليك؟ إن لم يكن هذا تعبير في المطلق، فهو هلامي، أو زئبقي. حتى وإن كان المقصود به مفهوم: الجوع، ولكن أي جوع؟ جوع ما قبل الأكل؟ أم الجوع الآخر، والذي يسبقه جوع، ويلحقه جوع، ودون فواصل تصنعها ولو لقمة مغموسة بملح؟ الجوع المؤقت الذي يسبقه شبع، ويتلوه شبع «لا يُتوّه» العقول؛ حتى وإن أصابها الخمول. التوهان نشاط مضطرب. قد يكون داخلياً فحسب. وقد يكون داخلياً «= تفكير لا يستقيم» وخارجياً «ضياع معالم السير والطريق».. وبالتالي فإني أرى أن صحة هذا المثل الشعبي هو:

وقت الجوع تتوه العقول

ومزيداً لتدقيق صحة المثل:

في زمن الجوع تضطرب الجموع

وإن لم نمتثل للسجع:

في زمن الجوع تتوه العقول

وبما أن العقل لن «يتوه» إذا كان وقت الجوع قصيراً، فإن هذا الوقت بالتالي هو وقت طويل يتعدّى ساعات اليوم الواحد، مما يجعل العقل الذي كان يعرف طريقه جيداً. سواء أكان مسالماً أم مشاغباً أم حذراً أم متملقاً، أو هو يتبع هذه الأمثال الشعبية الأربعة؛ والتي تشكل سياقاً واحداً:

إمش عدل يحتار عدوك فيك/ وخير الأمور الوسط/ واللي يبص لفوق توجعه رقبته/ فالعين ما تعلاش ع الحاجب.
لا يعرف رأسه من رجليه، ومن الممكن أيضاً ربط مجموعة من الأمثال ببعضها لتشكل حوارية واحدة مثل الذي سأذكره، وله صلة بما فات تواً:

الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح

ولسانك حصانك إن صنته صانك

وابعد عن الشر وغني له

وإن كان لك عند الكلب حاجه قول له يا سيدي

ليه؟ لأن:

ديل الكلب عمره ما يتعدل

ويقول المثل الشعبي:

أرقص للقرد في دولته

واعلم أن:

اللي تكره وشه. بكره تحتاج لقفاه

واعلم أيضاً أن:

اللي مكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين

والمتعوس متعوس حتى ولو علقوا ف رقبته فانوس

ألم تسمع عن واحد عنده:

سبع صنايع والبخت ضايع!

واللاّ حتستعبط وتعملي فيها:

ودن من طين وودن من عجين

صحيح إن:

الدنيا بدل. يوم عسل ويوم بصل

وطبعاً للبصل فوايده. لكنه يُوَخّم. يُنَيمّ، والعسل يُنشّط الهمة. طاقة حرارية ممتازة، والمواطن أبو مفهومية وحداقة يعرف إن:

كراتيني مزدحمة بألف دُنيا ودنيا محطوطين بلا نظام نوعي أو زمني. من بعضها عرفت «فيما بعد» تاريخ الجوع في مصر. مثلما عرفت في السينما تاريخ الجوع في أمريكا وقت الأزمة الاقتصادية 1929، وكذلك أيضاً وقت الحرب الأهلية الأمريكية التي عشتها من خلال «سكارليت أوهارا» و«ريت باتلر» في فيلم «ذهب مع الرياح».

الجوع الذي يسبقه جوع، ويلحقه جوع، ودون فواصل من لقمة مغموسة بملح، يدفع العقل إلى الاضطراب في مسالكه التفكيرية، ومن ثم مسالكه السلوكية، ومن ثم تحدث الفوضى التي يزيدها اصطدام الناس ببعضهم البعض على غير هدى أو بصيرة. والشاطر هو من يستطيع قيادة الجوع إلى بر الأمان. إلى جنة نسبية بها أنهار من الشاي واللبن الذي تسبح فيه البنات، فيزداد سكره فيما حرارته ترتفع إلى حد تبخر سطحه.. نفسي الآن في كوب شاي رباني من تلك الأنهار. لكن أين هي؟

لم تهاجمني بعد بنات إحسان، ولا عاهرات نجيب، ولا فلاحات محمد عبد الحليم عبد الله، لا أحب الجاهزات فوق الشاشات السينمائية.أحب المعمولات على اليد Hand made. أقصد لا أحبهم بنفس القدر من الحب الذي أمنحه لمن صنعتهن بأذرع خيالي الملتهب حماسة وقتها.

بنات حليم تاهوا في ذاكرتي. مازالت أغانيه تبحر فوقها حتى الآن. «أهواك.. واتمنى لو أنساك». البيانو الذي لعبت أصابع حليم عليه، البنت الصغيرة التي لا أعرف اسمها في الفيلم، ولا في الحقيقة، حتى اسم الفيلم لا أذكره، طبعاً لو كنت مدمناً للفضائيات سأعرف.. لو عدت لموسوعة الأفلام العربية إعداد قاسم ومنى ويعقوب فقد أعرف، لو اتصلت بأصدقائي وسألتهم سأعرف، لكني أعشق صوت حليم مجرداً مما حوله من صور متحركة. بعد سنة أو سنتين.. صيف 61 أو 62 سنستعير أغانيه لمغازلة البنات، وكتابة الجوابات الغرامية.لماذا كنا نقول وقتها: جوابات وليس خطابات أو رسائل؟ هل كلمة خطابات مرتبطة بالعلاقة بين رؤساء ورعايا؟ مرتبطة بالخطب العنترية التي ما قتلت ذبابة؟ مرتبطة بكل ما هو رسمي وحكومي.. كلمة رسائل مرتبطة بكلمة الرسول؛ المرتبطة بالديانات السماوية، رغم أن (ما على الرسول إلا البلاغ) قد صار تعبيراً شعبياً على ألسنة الناس لتبرئة أنفسهم من فحوى خبر نقلوه إلى طرف مقصود، لذا اختار الشعبيون وقتها- إلى الآن- كلمة جوابات لارتباطها بالتجاوب بين أي اثنين.. أو حتى الرغبة في حدوث هذا التجاوب.. الشعبيون دوماً يستشعرون أرواحهم أسرع ممن تسلقوا إلى السلطة المدمرة للروح التي استعضنا عنها أحياناً بصوت حليم الذي سنغزل به أفلامنا الخاصة مع بنات الصيف والإجازات.. هل قالت بنت من تلك البنات الحلويات:

يدي الصوت الجميل للي مالوش وش وسيم*

معظمنا وُلد في بحر عام واحد.. إذا اجتمع بعضنا في شهر مُعَيّن؛ تفرقنا على أيام ذلك الشهر. أثناء كتابة استمارات التقدم لامتحان الشهادة الابتدائية؛ كنا نحاول التلصص على تواريخ ميلاد بعضنا البعض.. من يجد نفسه هو الأصغر يطير من الفرح، ومن يجد نفسه هو الأكبر ندم على كل ما فاته من سنوات ستة لم يتعامل فيها مع تلاميذ الفصل بقوانين الأخ الأكبر الذي تمتزج فيه الديكتاتورية بالديمقراطية، والقسوة بالحنان، والواقعية بالرومانسية، هو ما قال عنه توفيق الحكيم كما عرفت في أوائل السبعينيات: المستبد العادل..وآااه.. صاحب الجثة الضخمة الفارعة الفارغة من أي مواهب رياضية أو فنية أو أدبية، كان الفصل ينتخبه طوال كل هذه السنوات. في السبعينات أيضاً سمعتُ لأول مرة الكلمة التي تلخص كل صفاته: كاريزما.. دون مناقشة كانوا يختارونه.. حتى مدرس التربية الرياضية في المرحلة الإعدادية اختاره كي يتدرب على فنون الملاكمة. ما فاز في مباراة واحدة منها على مستوى مدارس المنطقة التعليمية..رأيته مؤخراً مصادفة، بعد أن تجاوزنا الخمسين، أصر على استضافتي في بيته لشرب الشاي والدردشة واستحضار أيام زمان.. دخلت حجرة الجلوس، رأيت الجدران مرصعة ببراويز فيها صوره الفوتوغرافية وهو صغير جداً.. شبه عار يلاكم صبياً آخر بشورت لونه يقترب من شورته.. لم تكن الصور ملونة في ذلك الوقت. لا فرق يذكر بين الأحمر والأزرق والبني والبرتقالي، حينما تتأزم الحياة تتداخل الألوان الوطنية في بعضها كرد فعل على تداخل ألوان الإمبريالية والصهيونية والرجعية في بعضها البعض.. عادت حياتنا السياسية إلى لطيفة:

يا أبيض. يا أسود. لكن مش رمادي

دخلت صغرى بناته بالشاي؛ فاستيقظتُ على صورة أخرى له وهو يحمل الكأس.. تعجبت. هو لم يفز.. هل فعلها في الثانوي؟ هو ذهب إلى مدرسة غير مدرستي.. في منطقة تعليمية غير منطقتي.. غمز لي بعينه:

_ أنا استعطفت الولد الفائز وطلبت منه حمل الكأس مستغلاً وجود مصوّراتي أخذ لي هذه الصورة التي جعلت زوجتي تتمسك بي أمام أهلها الذين خافوا على ابنتهم الضئيلة من أن تفطس تحتي من أول ليلة.

ثم سألني:

_ سمعت أنك لم تتزوج حتى الآن؟

_ اللي تحته زوجه فوق منه هموم عُوجه*
.
_ وجبال والله يا أخي. قل لي: أهذا مثل شعبي؟

_ بصراحة لا أعرف، لكن بالتأكيد هو موجود عند شعب من شعوب العالم.

كُلنا طغاة.. نعم. نحن تلاميذ الابتدائي انتخبنا أضخمنا جثة.. ومدرس التربية الرياضية في الإعدادي اختاره لفريق الملاكمة.. دون قصد اشتركنا في صُنع طغيان. ونقعد العمر كله نأمل في طاغية يكون شريفاً يصد كيد الطغاة المتجبرين فـ:

لا يفل الحديد إلا الحديد

قَطْع:

ما بعد هزيمة 67

صوت ماجده في فيلم (بياعة الجرايد) ودون صورتها:

_ أهرام. أخبار. جمهورية.

مواطنون، طلبة، عمال، موظفون يشترون الجرائد، واحد منهم يفرد جريدة بمانشيت أحمر كبير:
ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة

صورة عبد الناصر إلى جوار الشعار.. الشعار تحول إلى مثل شعبي يحتسي الشاي في المقاهي.. يركب الترام.. يفرض نفسه على لحظة حب بين شاب جامعي وزميلته.. يحمل مع الفواعلية الرمل والزلط.. يمشي مع عمال وردية صباحية حتى باب المصنع.. يُؤانس سائق قطار.

لا يفل الحديد إلا الحديد.. والأساطيل من حديد.. والمدافع من حديد.. والدبابات من حديد.. ومواسير البنادق من حديد.. والطغيان من حديد، ولا يفله سوى طغيان مضاد؛ آمل أن يكون من جذور أصيلة فـ:
العرق يمد لسابع جد

لكن لو تلبس هذا الطغيان تلميذاً ينجح بالغصب والغش والدروس الخصوصية؛ فسيصبح بداية طاغية فئوي« في اتحاد أو نقابة أو مجلس نيابي أو مؤسسة.. إلخ» ممسوكاً بيد طغيان سلطة حكومية ممسوكة بدورها بيد طغيان الدولة الإمبريالية الأكبر، هي الآن أمريكا أو أميركا أو العم سام أو يونيتد ستيتس.
وكل هؤلاء الطغاة لهم:

ودن من طين وودن من عجين

لا يأبهون بالأمثال الشعبية وعلى رأسها:

لك يوم يا ظالم.

«قلبها محمد عبد الوهاب في أغنية له إلى:
يا ظالم لك يوم.. مهما طال اليوم.. يا ويلك يا ظالم يا ويلك.»

دولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.

«يعامل كمثل شعبي».

الطمع يقل ما جمع.

«سبق تنبؤات ماركس عن حدوث أزمات اقتصادية خطيرة تضر الرأسماليين أنفسهم».

اتغدّى بيه. قبل ما يتعشى بيك.

«واسألوا الشيخ حسن نصر الله».

ما يموتش حق وراه مُطالب.

«وراه حركة وطنية ديمقراطية تقدمية».

أطرق الحديد وهو ساخن.

«سخونة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية».

سكتنا له دخل بحماره.

«...... بخصخصته».

وتتوالى الأمثال على هذا النحو:

هيّه مُوته ولاّ أكتر.

يا طابت. يا الاتنين عور.

اللي من نصيبك يصيبك(14).

يا فرعون إيش فرعنك.. قال: ما لقيتش حد يصدّني.

كتر الدق يفك اللحام.

حينما وصلنا إلى الصف الأول الإعدادي؛ لم يكن كل زملاء الابتدائي معي. كنا من مدارس عديدة تجمعها منطقة سكنية واحدة هي الرمل، مكافأة انتقالنا من مرحلة إلى مرحلة أخرى؛ تلخصت في تركنا بالساعات ننتقل من ناصية إلى ناصية أخرى داخل حدود منطقتنا السكنية ولأي عدد من ساعات النهار والليل، وكانت أشهر البرامج الإذاعية في ذلك الوقت: «جرب حظك»، «ساعة لقلبك»،«حول الأسرة البيضاء»، «ما يطلبه المستمعون»، «على الناصية» للمذيعة أمال فهمي، وهي برامج ديمقراطية تبثها إذاعة تابعة لحكم غير ديمقراطي. لي منها ساعة لرَوَقان القلب مع فؤاد المهندس وخيرية أحمد وأبو لمعة والدكتور شديد والخواجة بيجو والمعلم شَكَل..وأن اختار من برامجها الأخرى ما شئت من أغان، ولي أيضاً أن اتمتع بحرية التفكير في نطاق الحظ وبختك يابو بخيت، وإلاّ فأمام المرء رحلة منتظرة، إما بصحبة التشرد على وجه الأرض، أو برفقة أصحاب العقول المستقلة خلف الشمس.

أشهر البرامج شعبية في ذلك الوقت: «على الناصية». لعدة أسباب منها: نزوله للجماهير في الشوارع.. السماح للجمهور بعرض مشكلة من مشاكله إن أراد، والعمل على حلها إن استطاعت آمال فهمي. طبعاً المشاكل الفردية الهامشية هي المسموح بها.. الحوار العفوي عشق فطري لذاك الجمهور كي يسمع صوته من نفس الإذاعة التي ينطلق منها صوت زعيمة وهو يخطب.. إنه شعور بالمجاورة.. وإلى جانب ذلك فإن شكل المذيعة وملامحها كانت مثل أي بنت شعبية عادية، وربما أقل.. منحها الله صوتاً جميلاً، وسحب منها حلاوة الوجه، مثلما مُنح المصريون تاريخاً رائعاً، وموقعاً جغرافياً مذهلاً، وسُحب منهم القيادات الرشيدة حلوة التصرفات:

ويدّي السلطة للي بلا شعبية*

رغم شهرة برنامج أمال فهمي فإن التعبير القاهري «على الناصية» لم يستطع أن يحل محل التعبير السكندري «ع القمة» التي ارتبطت فيما بعد باجتماعات القادة والملوك العرب:

من بحري وبنحبوه
ع القمه بنستنوه
شبك الجميلات وشبكني
وازاي نقدروا ننسوه
أيّوُوه. أيّوُوه.

كيف يصبح الهدى سلطاناً يا أم بحّة مُرطّبة ببحر الإسكندرية رغم أنك يا أخت الصوت الصافي محمد فوزي من طنطا. شي لله يا سيد يا بدوي.

حينما وصلنا للسنة الأولى من الإعدادية سُمح لنا بالتسكع على النواصي، قمم الشوارع بالإسكندراني، داخل حدود منطقتنا السكنية..الانتقال إلى منطقة سكنية مجاورة كانت مغامرة. الوقوف في القمم معناه التلصص على بنات الشبابيك والبلكونات والأبواب، وهذا معناه التعرض لعلْقة لم يأخذها لص في جامع. طبعاً لسنا أهل مغامرة. نحن أهل نيل وظل وخضرة ووجوه حسناء وحسنية وحسنات ومحسنة وإحسان وسلامتها أم حسن. أحمد عدوية كان في بطن الغيب ساعتها. مثل صيادو الإسكندرية. نزولهم البحر كان هو المغامرة النسبية لا المطلقة. معظم الوقت غائبون على صدر بحر ذا وجهين متضادين. دكتور جيكل ومستر هايد. الصدر حياة ورزق للناس.. البطن موت ورزق لكائنات البحر التحتانية. رزق ورزوقة ومرزوق وعبد الرازق وعبد الرزاق. أسماء كلاسيكية لعائلات الصيادين؛ لم تعد موجودة الآن مثل أيام الصيف والبنات بتوع عبد الحليم. عذراً: البنات والصيف. مع إن الطبيعة جاءت قبل ظهور البنات بملايين السنين، لكن طبعاً طظ في الصيف إن كان بدون بنات بيبلبطو:

* أُم البنات في الهم لحد الممات.

* اكسر للبنت ضلع يطلع لها عشرة.

* جبت الولد انشد ضهري وانسند. جبت البنية اتهد الحيط عليّ.

* ولد ومات. ولا خلفة البنات.

يا أيتها الأمثال الشعبية أنا أحبك. طوال رحلتي معك وأنا متيم بك رغم استخدام والدة زميلي سنة 60 لمثل من أمثالك ضدي. لو كان هناك قانون يجرِّم التفرقة العنصرية لرفعت ضدها قضية جنائية طالباً التعويض، ولن أقبل أي تعويض سوى ابنتها ذات العيون الخضراء والبياض الرشيدي المدّلع على وش الميه. آه يا سيدي. آه يا سيدي.

يا أيتها الأمثال.. البنات هن الحياة.. بدونهن ننقرض.. هن سيجدن طريقة ما للتواصل.. نحن أوْلى يا أيتها الأمثال.. تانت أم عزيز المسيحية، والدة الأذرع المكشوفة لمارجو وجورجيت وعايدة وأنجيل؛ قالت لأمي ذات مساء:

_ البنت ستأتيكِ بزوج يكون ابنك.. والولد سيأتي بزوجة هي عشيقته وأمه.

الانتقال إلى منطقة سكنية مجاورة يعني أننا اخترنا المغامرة. لولا أن لنا فيها كذا زميل من زملاء الصف الدراسي، أي لنا فيها عزوة تشعرني بالأمان، رغم معرفتي الغريزية بأن عدوي الذي سأجده متربصاً بي هناك؛ هو المثل الشعبي:
يدّي الحلق للي بلا ودان

وهو الشعار السري لمن لم يلحقهم آباؤهم بسلك التعليم، أو أنهم لم يفلحوا في الإبتدائي، وخرجوا مبكرين ينظرون بحسد قد يتطور إلى حقد ضد من وصلوا إلى معرفة A, B, C,.. وون، تو، ثري.. وجود مورننج.. وآي لاف يو.

لم يكن أمام أمهات هؤلاء الصبيان الحاقدين؛ سوى هذا المثل لتبريد هذا الحقد، والنزول به لمرحلة الحسد إن كانت لا تثق في قوة بدن الابن وجرأته على سحل ومَرْمطة هذا الأفندي المرتقب الذي سيتعالى على ابنها يوماً ما.. وإن كانت تثق فهي بهذا المثل ترفع ابنها من مرحلة الحقد إلى مرحلة الغل وافتعال الشجار.

بقدر الإمكان كنا نتحاشاهم أو نحتمي بزميلين على الأقل.. زميلين لهما في الشجار، أو لأسرة واحد منهما سطوة ما، أو رهبة ما، أو احتراماً ما في منطقتهم.. دائماً أنحف الموجودين هو المطمع النموذجي لعمل شوية حركات من بتوع فريد شوقي عليه.. قبل ظهور الكاراتيه كانت النحافة دالة على ضعف جسماني أو أنيميا، صاحبها كان فريسة سهلة لمن صار مملوءاً بالغل من هؤلاء الذين صاروا محط أنظار أمهات شوارعنا.. خاصة ممن لديهم «كوُم» بنات ما يتْلمْ.. ويوددن التخلص منهن.. ومهما ضؤُلت معايير الجمال العامة في ابن المدارس؛ لقى فرصته في بنت على قسط من الجمال والبياض تناغشه في «الرايحة والجاية». وآه لو جاء اليوم الموعود وصارا مخطوبين لبعضهما؛ لحظتها يتجدد المثل:

يدّي الحلق للي بلا ودان

أميرات ألف ليلة وليلة يقعن أحياناً في غرام صياد فقير أو نجار أجير.. في رمضان من كل عام. محمد محمود شعبان وطاهر أبو فاشا كانا يضحكان علينا نحن الأطفال:

كن فقيراً على حصيرة. يأتيك الوجود بأميرة*

ويعضد هذا المثل المبتكر؛ مثلٌ شعبيٌ معترف به:

أصبر تُنُول

مما قد يدفع عاشق (يلحس مسَنَّي. ويبات مهنَّي) إلى ابتكار مثل شعبي يصنع من أمثال شبيهة عِزوةً لها قوة قبيلة تصد محاولات العلميين من التنويرين والتقدميين:

يدّي القلوب للي ملوش جيوب*

في سينمات ليلى وقيس وباكوس في منطقتنا السكنية؛ كانت أفلام الحب والبنات تتوالى.. عناوين الأفلام تشدنا.. أليس الكتاب يعرف من عنوانه؟ أحياناً يشدنا الجيب إلى الخلف؛ فنتحسر.. المصروف ضئيل.. حظي يكون جميلاً حين يزورنا أحد أقارب أمي.. كل قريب له بنت واحدة على الأقل.. واحتمال صعودي في الحياة وارد.. ألستُ ذاهباً إلى السنة الثانية من الإعدادية؟ نصف الفرنك ذو الأضلاع الستة رشوة مناسبة لاحتجازي.. ويعضد هذه الرشوة ثلاث مناسبات: العيدان، الصغير والكبير، ويوم النجاح.. في هذه المناسبات يتحول المعدن إلى ورقة بخمسة قروش.. أفلام الحب والبنات والقبلات مدرستي التأهيلية للبنت التي ستختارني بنظرة من عينيها.. لكن البنات القريبات من أعمارنا، وعليهن العيون، أقل عدداً منا. وأنا نوبي بشلاضيم.. لا مكان لي إلا في الاحتياط.. لا أريد أن أقع في «أرابيظ» أقربائي.. تحديد النسل شعار حكومي. ليس لي به علاقة.. شعاري أنا هو تحسين النسل.. والتباهي بواحدة بيضاء حتى ولو كان دمها من نتاج مليون بقّاية.. جمع بَق والعياذ بالله.. أفضل من «أبو سمرة السكرة.. أبو ضحكة منورة».. حتى الأغاني لا تريد أن تعترف بسود الوجوه.. سود العيون ماشي.. سود الرموش أوكِّي.. في أغنية كارم محمود «البيض الأمارة.. والسمر العذارى» (15) أول ما سمعت هذه البداية توقعت أن الأغنية ستكون مقسومة بالعدل بين البيض والسُمر مثلما هو المطلع، وحين تابعت الأغنية حتى نهايتها رأيت أن ثلثيها عن البيض الأمارة.. والثلث الباقي للسمر العذارى، كما أن المطلع فيه تورية فاضحة لعنصرية لم تتكشف بعد.. السمراوات أي ذوات البشرة السوداء؛ سيتركن لعذريتهن.. السوق لا يطلبهن.. أما البيض فهن قمرات وفنارات تهتدي بهما السفن المحملة بخيرات الله؛ وهي تدخل إلى قلب الميناء.

والعنصرية الساذجة والتي هي والحمد لله في طور الطفولة تتبدى في مثل هذه النوعية من الأغاني التي انتشرت.. والتي تنهض على مزيد من التفتيح للون القمحي/ الخمري؛ بُغية الوصول إلى المثال الامبريالي.. إلى البياض الأوروبي والأمريكي.. إلى كيم نوفاك وبرجيت باردو ومارلين مونرو وجين مانسفيلد وجينا لولو برجيدا وإليزابيث تايلور وأودري هيبورن.. وفي ذات الوقت مزيد من التفتيح لصاحبات البشرة السوداء لتقتربن نزولاً إلى اللون القمحي.. أي إلى سمراوات تحاولن أيضاً تفتيح بشرتهن حقيقة لا مجازاً، خاصة وأن الصيدليات والسوبر ماركات الآن مملوءة بأنواع عديدة محلية وعالمية وبأسعار متفاوتة تناسب كل الطبقات. مملوءة بكريمات تفتيح البشرة وهذا للأسف يعني إيماناً مستتراً بالفكرة العنصرية وصحتها، ومن ثم التماشي معها لا مواجهتها.. وفي هذا اعتراف ضمني بسياسات السوق الاجتماعي الذي لا يفضل سراً السود، ويطبطب علناً على أكتافهم.. وبُوركت يا عفاف راضي:

مصر هيّه أمي.. نيلها هوّه دمي.. شمسها في سماري.. شكلها في ملامحي.. حتى لوني قمحي.. لون خيرك يا مصر(16).

الله يا عفاف لو كنت قلت بشكل مباشر: شمسها في سوادي. والله عليك كمان وكمان لو كنت قلت: لون خيرك اللي كان يا مصر.

ابتكر المصريون مثلاً شعبياً إرضاءً لكل درجات السواد النازلة حتى اللون القمحي:

السمار نص الجمال

بالضبط مثل المثل الذي ابتكره المصريون بعد هزيمة يونيو 67:

الجري نص الجدعنة**

وإذا كان المثل الثاني هو كناية عن مثل ثالث هو:

خيبة الأمل راكبة جمل

فإن المثل الأول هو كناية عن مثل رابع هو:

نص العمى ولا العمى كله

يعني في النهاية المسألة: جبران خاطر. 

 
يااااه.. الجاهل ابن الجاهل.. ابن الجزار تزوج البنت البيضاء الملظلظة التي تذهب صباح كل أحد هي وأمها وأختها الكبيرة إلى الأنفوشي التي جاءوا منها للرمل؛ ويعودون إليها مع أول ترام طالع لغاية المنطقة المكتظة بالسينمات، ثم يمشون مستعرضين حلاوة البنت لكل لسان له خاصية التذوق. تابعهم مرة ولد يسكن إلى جوارهم. لحظت أمه خروجهن المنتظم في ساعة مبكرة محددة، من يوم محدد كل أسبوع، وهن جميعاً على سنجة عشرة. أيقظت ابنها قبل ميعاده الذي يستعد فيه للذهاب إلى مدرسة محمد علي الصناعية بالشاطبي.. حينما خرجن خرج ورائهن، حافظ على مسافة مناسبة بينه وبينهن.. حينما تيقن أنهن ذاهبات إلى محطة الترام استدار إلى شارع آخر مواز وأسرع الخطا واقفاً في مكان بعيد يلحظ مجيئهم ومجيء الترام.. ركبوا العربة الأولى. تسلل هو إلى الدور الثاني من تلك العربة.. كلما توقف الترام في محطة أمعن النظر ناحية الرصيف.. نزلن في محطة الرمل، وهو وراءهن.. سرن يتمخطرن على الكورنيش وهو وراءهن.. كل خوفه أن تلتفت إحداهن إلى الوراء.. هن من النوع الذي لا يلتفت إلا جنباً وبأنظارهن فحسب، لا أجسادهن.. الجسد الملتف إعلان مجاني للبيع الرخيص.. نظرة العين الجانبية تختلط فيها اللامبالاة بالتعالي، خاصة إن لم تبتسم الشفاه..رأى الولد كل شيء.. وعاد يحكي لأمه.. ثم لنا، كل شيء، ولم نفهم طبعاً من كل شيء إلا شيئاً واحداً.. وهو وقوفهن في طابور طويل وحينما اقتربن من بائع للسمك أعطى كلا منهن كوباً قلبته مرة واحدة في فمها الذي انفتح لآخره وهو مرفوع لأعلى.. المشهد واضح تماماً ومع هذا غامض تماماً، فيما بعد عرف أحدنا وعن طريق العَنْعَنَة. أي: واحد عن واحد ثان عن ثالث عن رابع وهكذا استشاعت الحكاية في الحتة كلها. حتتنا لا تنعدم من القادمين من غرب المدينة.. وبالتالي معرفة هذا الغرب المديني الساحلي، وهي ثقافة سكندرية محضة في الأساس. أما حتتنا الرمل فكل الطبقات بكل شرائحها وهوامشها تعيش فيها إيجاراً أو ملكية. تعيش فيها طول السنة أو وسط جزئها الصيفي. أو حسبما هي الظروف التي تحتّم التواجد في الإسكندرية التي حافظ غربها على مذاقها الخاص الجاذب لكل من ابتعد عنها لسبب ما، ويعود إليها زائراً لسبب ما أيضاً. أشهر تلك الأسباب وأهمها: ذهاب السيدات والبنات إلى حلقة السمك بالأنفوشي لشرب دماء الترسة «السلحفاة البحرية كما عرفت بعد سنوات» والتي تقف لها النساء الملظلظات طابوراً لماذا؟ حفاظاً على اللظلظة أم مزيداً منها؟ حفاظاً على الخصوبة أم مزيداً منها؟ زيادة التعامل الجنسي كماً كيفاً وجنوناً. أم لكل هذه الأشياء معاً؟ هذا حقهن طبعاً، أما التلصص على حياة الآخرين ومعرفة كل تفصيلة عنهم؛ فهو أمر قد يعتبره الكثيرون غير أخلاقي. رغم أن معظمهم حريص على فكرة تتبع حياة الناس. والزوجة الذكية الصالحة هي من تفتح شهية زوجها وشهوته أثناء تناوله الغداء بحلاوة تسبيك الأكل والكلام عن الخافي من أمور الناس؛ فقد انتهى عهد الاكتشاف المتبادل لما خُفيَ من تضاريس جسميهما، والملل قد يتسرّب، تتشرّبه النفوس بيسر، والشرع يمنح الزوج الحق في امرأة ثانية وثالثة ورابعة.

ماذا تفعل الزوجة الذكية إذن؟

ماذا تفعل والأمثال الشعبية في هذه الحالة تقف مع الرجل وكأنها ضده؟

جوز الاتنين. يا قادر. يا فاجر.

يا مآمنه للرجال. يا مآمنه للميه في الغربال.

ضل راجل. ولا ضل حيطه

لكنه يرجع لبيته بعد اختفاء الشمس، وبالتالي انتهاء المفعول لذاك المثل، والذي ارتضته المرأة رغم علمها بسلبية ذلك المفعول. وحتى إن عاد مجرجراً ظله خلفه عصر كل يوم، كيف تتقاسمه الزوجات فيما بينهن؟ هذا المثل هو تقليبة خلاط كهربي لأمل ويأس؛ على المرأة أن تشرب مزيجهما مثلجاً رغبة في دقائق تختطفها من زمن الإكتئاب لصالح زمن انتعاش زائف.

ومع هذا فالسؤال مازال متشبث بمكانه لا يبرحه.. ماذا تفعل الزوجة الذكية؟

تفتح أبواب الشهوة والشهية على بعضهما أثناء تناول الزوج نيران فلفل تسبيكتها المازجة بتلذذ ما بين الطعام والكلام عما وراء جدران البيوت من أسرار ميلودرامية من النوع الذي يفضله المخرج السينمائي حسن الإمام. وبذلك تحوّل زوجها إلى شهريار. وشي يا حمار لغرفة النوم حتى مطلع النهار.

هل كان الناس يستمدون علاجهم النفسي من بعضهم البعض؟:

اللي يشوف بلاوي الناس.. تهون عليه بلاويه

نعم. وفي الوقت ذاته كانوا يساعدون بعضهم البعض على الشفاء النسبي.. السيدات خاصة.. إذ تجتمعن معاً في بيت خصصته صاحبته لعمل «الزار»:

كل الطرق تؤدي إلى روما

روما نيرون. روما فيسكونتي وبازوليني.روما موسوليني. الله أعلم:

اللي من نصيبنا. لازم يصيبنا

لمَ أسرعت دقات قلبي الآن؟ أنا في 2008.. موضوع شرب الدم هذا كان في 1960.. هي الآن جدّة.. وزوجها الجزار لو رأيته الآن لن أعرفه.. الغيظ طفح على وجهي كأن الأمر حدث منذ نحو ساعة واحدة، كأن كل عام مضى مرّ على ذاكرتي البصرية خطفاً.. لساني يحاول بحكمة شعرية التملص من مثل شعبي قادم ببطء من جوفي.. مثلٌ فضح عنصريتي المضادة:

وداوني بالتي كانت هي الداء

تبرير شعري جيد لري بذور تلك العنصرية التي كشفت عن وجود حوصلة شُقّت وخرج منها ذلك المثل المغذي لتفشي الكراهية:

يدي الحلق للي بلا ودان

بالوعي وحده إنت غالي عليه.. عذراً يا ست الكل يا ثومة.. الحب هو أرض طيبة لإنبات وعي نبيل.. وعي يعمل على تطوير ذلك المثل الشعبي إلى:

يدي خيرات الوطن للي بلا دراع تنتج*

تحويل الصراع من صراع فردي أو طائفي إلى صراع طبقي هو الطريق الصحيح لحل ما دونها من صراعات.

ما أفادتني كثيراً أفلام البنات والحب الممتلئة بها سينمات الدرجة الثالثة بمطقتنا السكنية، والتي كانت تعيد عروض الأفلام القديمة بين الأفلام الحديثة نسبياً:
بنات اليوم/ بنات بحري/ بنات حواء/ بنات الليل/ البنات والصيف/ البنات شربات/ أحلام البنات/ بنت الصياد/ بنت البادية/ ليلى بنت الشاطيء/ ... بنت الأغنياء/ ... بنت الفقراء.
ما أفادتني لأنها لم تعترف ببنت الحلواني ولا ببنت بتاع الفول والفلافل ولا ببنت الحلاق ولا ببنت الجزمجي ولا ببنت السمكري ولا ببنت المكوجي ولا ببنت الخياطة ولا ببنت الماشطة ولا ببنت الداية التي أخرجتنا من رحم أمهاتنا.. اعترفت فحسب بالبنت البيّاعة:
بياعة التفاح، وبياعة الورد، وبياعة اليانصيب، وفي النصف الأول من الستينات أعترفت الأفلام ببائعة الجرائد بتاع ماجدة بتاعة جميلة بو حريد بتاع يوسف شاهين الذي كسر القاعدة وجعل البائع رجلاً يبيع الخواتم في لبنان فيروز ونصري شمس الدين.

لماذا في لبنان يا يوسف؟ ألأن:

الشيخ البعيد سره باتع

وابعد حبه تزيد محبه

أو لأن لبنان هي روح الأمة العربية؟ أغنيتها السياسية هي الآن. والمَغْني حياة الروح كما قال بيرم وغنت ست الكل.
حينما يصبح الجسد/ الوطن عبئاً ثقيلاً؛ تطفو الروح؛ وتصبح إما لبناناً أو إخواناً..

وأعتقد أن الحق كان سيكون إلى جانبهن لو قالوا لبنات الصياد والبادية والليل والشاطئ:

يدي السيما للي بلا قيمة*

فيلم «بنات بحري» أنقذ بنت الحلواني من مرض الحقد، ومن ثم المشاركة في الهتاف بهذا المثل الشعبي المستحدث، إلا إذا كانت لا تحب العموميات، وترغب التحديد فبنات بحري كثيرات انتقى منهن محمود سعيد ثلاثة خلدهن في لوحة تشكيلية، لم يخلو تقريباً غلاف مجلة ثقافية محترمة من صورة ملونة لهذه اللوحة، لكن بنت الحلواني، لا تريد إلا نفسها، رغم مشاركتها البنات هؤلاء في شرب الدم البحري، والتهام يود الأسماك وفوسفوره «المُوَهْوج» ليلاً تحت أغطية الشتاء؛ ولذلك كانت كل ليلة قبيل شد اللحاف القطني على وجهها اللبني؛ تهتف بغيظ مكتوم:

يدي الأفلام للي بلا أحلام

ويدي الأحلام للي بلا أفلام*

فعلاً.. بوصول المحظوظات للشاشة صرن أحلاماً تتغذّى عليها بنات شوارعنا اللاتي لا مكان لهن على الشاشة التي تصطنع نماذجها الشعبية على مزاج برجوازي نقع في حبه دون مراجعة.. وفعلاً:

يدّوا الإخراج للي مانجرحش في بطن رجله، وهو بيلعب حافي ماتش كورة، في شارع مَرْمي فيه قزاز مكسور، ومسامير مصدّيّة مدّاريّة في تراب، فهل لي أن أقول اختصاراً:

يدي الحلق للي بلا ودان

على العموم انتشرت كاميرات الديجيتال والكمبيوترات. ستكونان في يد كثيرين من العمال والفلاحين سيكون بمقدورهم تسجيل وقائع حياتهم، ومن قلب هؤلاء سيخرج من سيحولون تلك الوقائع الحية، وبكل حيويتها إلى أفلام تسجيلية ووثائقية وروائية.. ولا الحَوْجة للمتبرجزين.. المشاعة قادمة، تقودها الصين، وقبل أن ينتهي هذا القرن الجديد، قرن نهاية الإمبريالية الأمريكية التي تنبأت أفلامها بهذه النهاية:

ساعي البريد لكيفين كوستنر/ الذكاء الاصطناعي لستيفن سبيلبيرج/ أنا أسطورة لويل سميث/ الغزو لنيكول كيدمان، ولما كانت ذاكرتي ليست بالقوة الكافية لتذكر المزيد من هذه الأفلام سألت صديقي إسلام عاشور فأجابني على الفور:

* The day after tommorw (2004).

* I, Robot بطولة: ويل سميث.

* Fifth Element بطولة: بروس ويللس.

* Independence Day (1996).

* Artificial Intelligence (2001).

* Deep Impact (1998).

وقبلهم في ستينات أيامنا الحلوة التي اعتقدتها أنا وحليم وفاتن وحلمي حليم حلوة بجد، في هذه الأيام شاهدنا «كوكب القرود» المتنبئ بنهاية أمريكا.. أميركا.. يونيتد ستيتس.. بلاد العم سام، وتمثال الحرية، إنه قرن الصين الشيوعية، والمشاعة الإنتاجية الخدماتية. قرن قُرب نهايته سيتسوق المقيم في القارة الأفريقية من أي مكان في أي قارة أخرى ويعود إلى موطنه في آخر النهار.

يا روح ما بعدك روح

الاستغلاليون لن تتكتّف أيديهم وهم يرون الحلق الاشتراكي يتدلّى ويتدلل في طرف أذن الكرة الأرضية.. وسيفتعلون الحروب(17)، مستخدمين الطرق المعروفة كلها، وسيبتكرون غيرها، وسيعيدون الحياة للطاعون والكوليرا وإلى جانبها أوبئة مبتكرة «شاهد فيلم الغزو لنيكول كيدمان».. سيكون خيارهم هو الخيار الشمشوني.. علىَّ وعلى أعدائي، لكن حروبهم سينقصها الوقود البشري اللازم: الفقراء..لكن فقراء القرن الحادي والعشرين غير فقراء القرون التي مضت.. عيونهم صارت الآن ترى أي بقعة من العالم، ما يدور فيها، سيرى الفقراء كل شيء وسيتحاورون مع أي شيء، وبالتالي سيعرفون بأنفسهم بعدما كانوا يعرفون عن طريق خدم الإمبريالية، وحين يعرفون سيكون أيقونتهم هو الملاكم الأمريكي محمد علي كلاي الذي رفض التجنيد العسكري الإجباري لقتل شعب لم يدس على طرف حذائه، أو حتى حذاء تمثال الحرية.

وأغلق ملف هذا المثل الشعبي: «يدي الحلق للي بلا ودان».
أغلقه بما حكته لنا داليا الحديدي في جريدة «البديل» يومي 13، 14 فبراير 2008، في رسائل إلكترونية لأمها:

".. سمعت عن مصريين كثيرين كانوا يعملون بالتدريس في السعودية أو البحرين أو الكويت، ولم ينسوا أن يعطوا لأهل الخليج الدرس الأول واللي مفاده أن مصر هي أم الدنيا وإن أهل الخليج لا يسووا ولا يكونوا لولاكش شوية الفلوس اللي جاتلهم بسبب البترول، وإن إحنا المصريين اللي علمناكم.. رغم إن مخكم ضلم! والبعض بيغلط في ربنا- من دون ما يقصد- ويقول:

يدي الحلق للي بلا ودان.."

طبعاً استقطاع هذا الجزء من رسالة داليا لأمها قد يجعل القارئ يظن أنها متعاطفة مع هذا الكلام، وبهذا أكون قد ظلمتها ظلماً بيناً، فهي تستنكر هذا الأسلوب الذي يقطع أواصر الصلات التي تربينا عليها في المدارس وأرضعتنا إياها أغانينا الوطنية: «وطني حبيبي. الوطن الأكبر.. يوم ورا يوم أمجاده بتكبر. وانتصاراته مليا حياته.. وطني بيكبر وبيتحرر.. وطني. وطني»، وكان رد فعل حسرتي هو هذا التعبير الآخذ شكل المثل الشعبي:

بيتحرر من غريب.. يقع في قبضة قريب*

من حكاياتي وحكايات داليا خرجتُ بنتيجة هي: الأمثال الشعبية لها وجهان: وجه رائع في إنسانيته وتقدميته، ووجه ممهور برجعية خفية، هو كالسلاح يُسأل عمن يستخدمه، وضد من، ولماذا.

يا نهاراً مثل الحليب لقد نسيت بداية حكاية «يدي الحلق للي بلا ودان» سأبدأ من جديد، ودون تداعيات وإلى الهدف مباشرة:

سمعتُ هذا المثل الشعبي في صيف 1960 أو 1961 لا أتذكر، ربما في عام اعتقالات الاشتراكيين 1959. أو عام قوانين يوليو الاشتراكية 1961. على يديك يا عبد الناصر تحوّل المثل الشعبي:

أسمع كلامك «في الوطنية وانحيازك للفقراء» أصدقك.. وأشوف أمورك «في اعتقال خيرة أبناء الوطن» أستعجب. معلش: يدّي السلطة للي بلا ودان تسمع الشعب.

وأذني أنا «أي وِداني» إن تنكرت لكل الأمثال، أو تناستها، فهي لن تنسى أبداً «يدي الحلق للي بلا ودان»، وهذه هي حكايته معي:

بعدما اشترى لي خالي فانلة صيفية يتعامل نسيجها مع أي ضوء ساقط عليه.. تموجات الضوء تساير حركات صدري واهتزازاته قياماً وجلوساً ومشياً.. فرحاً بها ذهبت لصديقي كعادتنا اليومية الصيفية.. أبحث عن أي واحد من أشقائه الأصغر منه.. غالباً ما يكونون في الشارع أو إلى جوار عتبة بيتهم.. الشارع هو البيت الرحب الواسع لأطفال المناطق الشعبية.. البيوت ضيقة.. الحرارة المختزنة بين الجدران طاردة. تمارين التسخين المتبادلة بين الزوج والزوجة يعكرها وجود الأطفال.. التمارين النهارية توفر الوقت ليلاً.. العمل في مصانع الغزل والنسيج لا رحمة فيه.. النوم الكافي يجعلك مستيقظاً لغدر الماكينات. والده يعمل في نفس المصنع مع أخي عامل النسيج..شقيقه الأصغر رآني.. جرى.. دخل البيت.. بعد لحظات أطل صديقي زميل الإعدادية:

_ إطلع.

_ لأ.. إنزل.

_ معلش. إطلع دلوقت.

صعدت. استقبلني على باب الشقة. ألقيت السلام على والدته. أجلسني فوق الكنبة. رمقتني بنظرة ثم مصمصتْ بشفتيها وهي تستدير بنظرتها إلى ابنها وتقول:

يدي الحلق للي بلا ودان.

لم أفهم ما قالته، لكني أحسستُه. إنه موجّه لي، لفانلتي الجديدة. في البيت سألت أمي، ضحكتْ دون صوت واستدارت إلى مطبخها الصغير تكمل ما كان في يدها فوق النار. أمي فلاحة من الزقازيق، والدها صعيدي من ساحل سليم بأسيوط، أبي من جرف حسين بالنوبة. صدري انكتم، سألتها احتجاجاً:

_ وانتي ليه ما طلعتنيش زيّك. ولا حتى زي أخويا السيد اللي واخد منك ومن أبويا.

_ ربنا عاوز كده.

_ ولا أنتي اللي عاوزه تاخدي كل الحلاوة لوحدك.

_ خُذ لك قرش اشتري بيه حلاوه من عند أبو حنفي.

_ أنا مبهزرش.

_ ياااه. دانت كبرت وأنا مش واخده بالي.

_ لو كنت أمي بصحيح كنت أخذت منك حاجه.

_ خلاص يا سيدي ما تزعلشي. من يوم ما اتولدت وأنا بتوحّم على شفايفك.

_ دانتي طماعه بقا.

_ ولا طماعة ولا حاجه. لما تروح في سابع نومه حقطع شفايفك اللي مضايقاك بالسكينة، وألزقهم بدل شفايفي اللي هديها لك. مبسوط؟

أنا لا أستريح أبداً وعقلي مشدود إلى منطقة الإحساس فحسب. مع الوقت. مع الزمن. وانتباهي الدائم إلى: «يدّي الحلق للي بلا ودان».أدركتُ أنه مثل شعبي ملازم هو وأمثاله للعلاقات الاجتماعية بين المصريين. ومع مرور وقت آخر أدركت أن له أبعاداً سياسية تتخطى حدود الطبقة الشعبية إلى كل الطبقات. بل أن له تأثيراته في العلاقة بين الشعوب. سلباً كما حكت داليا الحديدي. أو إيجاباً كما في بعض أغانينا السياسية والوطنية.

وأخيراً أفشّ غيظي وأقول مُختتماً هذا النص:

ويدّي الصحافة للي بلا ثقافة*

ويدّي الإبداع للأتباع*

وإلى اللقاء مع كتابة أخرى، ومصر أخرى بإذن القوانين العلمية المبشرة بانتصار صُناع الأمثال الشعبية.

معذرة.. هل استأذنكم في الانتظار قليلاً.. وقتكم ثمين أنا أعلم.. طوابير الحياة في انتظاركم.. بضع دقائق أخرى. بضع دقائق فحسب..شكراً لكم.. ها هي صفحتي الأخيرة:

ما أن تبدأ كلمات المثل الشعبي حتى تنتهي. كلماته موجزة. ذات إيقاع صوتي واضح. لا تريد كلماته عن سطر واحد. ولا تقل عن كلمتين «حاميها حراميها» «الصبر طيب» «فقر وعنطزة» «أقرع ونزهي» «العرق دساس» «الأصيل ميتعيّبش» «الحلو ما يكملش».

ومع ذلك فإن ما يخبئه من معان وتفسيرات محتملة أكثر مما عرفته الناس، رغم أنه من ابتكار الناس. إنه يشبه النظريات والقوانين العلمية من ناحية أن أصحابها «مثل نيوتن» لا يعلمون إلى أي مدى ستتطور التكنولوجيا وتتنوع، ومع هذا فإن هذه القوانين تظل معها؛ تطوِّرها وتتطور هي أيضاً معها، ولكنه التطور الذي يمكن أن اسميه التطوير الاستاتيكي «وهذا ما يخص القانون العلمي» أما ما يخص التكنولوجيا فهو التطوير الديناميكي.. والمثل الشعبي له خاصية الاستخدام في حالات تُعارض بعضها بعضها، ووفق شروط اجتماعية ومكانية وزمنية، وهي ابنة بارة للروح المصرية خفيفة الدم، والميّالة إلى النقرزة، والمداعبة، والتنكيت والتبكيت. ولننظر إلى هذا المثل الصورة:

بصلة المحب خروف

يقولها البخيل، ويقولها الفقير المعتذر عن قلة ما يملكه. ويقولها الكريم المستور كنكتة كاريكاتيرية ذات صلة بحواديت المصريين الشعبية:

عزمني صديق في بيته، وكان على طبلية الغداء، بطة سودانية سمينة، تم تزغيطها في الريف، وجاءت برفقته أخت الزوجة مُحَمّرة.قال صديقي:

معلش بقا إحنا زرعنالك بصلة عشان تطلع خروف. طلعت بطة دبحناها قبل ما تقل بأصلها وترجع زي ما كانت.
قالت الزوجة: ساعتها كُنا ح نضطر نعملّك فتّة عدس.

قلت وكأنني مغلوب على أمري:

_ اتْجمّز بالجميز لحد ما يطلع التين.

قالت: خلاص. أقوم أطلع لك من التلاجة تين تتغدّى.

قلت: سايق عليكي النبي ما تتعبي نفسك. الجودة م الموجود.

قال صديقي وقد تظاهر بالغضب من النقرزة الجاية والرايحة:

  يا وليه. مش قلت لك هاتي منفاخ سيد العجلاتي وانفخي البطة شويتين.

قالت: المره الجاية تخليهم يجيبوا البطة زي ما هيّه.

قاطعها الزوج: وتخليه هوه بنفسه ينفخها بنفخته الكدابة.

قلت: إيه يا صاحبي. هوّه أنا هتغدى واتمدى حسب المثل الشعبي، ولا هتغدى واتمد على رجلي حسب تفسيرك الخاص للمثل ده.

قال: لو ما أكلتش وأنت ساكت. أنت حر. كلامي خرزانة تلسوع.

قلت: اللاااه. دا مثل شعبي مبتكر. لازم تسجله باسمك في الشهر العقاري:

كلامه خرزانه تلسوع. مش نقرزة تفلسع*

ضحكت الزوجة وقالت:

_ يعني إيه نقرزة تفلسع؟

قال الزوج مستغرباً:

_ مش فاهمه نقرزة يعني إيه؟ وتفلسع يعني إيه؟

قالت الزوجة:

_ كل كلمة منها وهيه لوحدها فاهماها. لكن لما بقوا مع بعض. أصبحت مش فهماهم.
قال الزوج:

  قُلَها يا مثقف الشوارع والحواري.

قلت: زي حرب العصابات بالضبط.

قالت الزوجة وهي مسخسخة على نفسها من الضحك المتقاطع مع الكلام الخارج من بقها:

_ وإيه اللي جاب فيتنام لبطتنا وبيتنا.

[ملحوظة: كان هذا الحوار في سنة من سنوات السبعينيات. بالضبط بعد حرب أكتوبر سنة 1973.. أي قبل نحو ثلاثين عاماً من المقاومات الباسلة ضد الأمريكان والصهاينة في أفغانستان والعراق وفلسطين وجنوب لبنان].

قلت: الكلام عامة. هو سلاح البني آدم في حرب المساومات اليومية في الأسواق الشعبية بين المشترين والبياعين وهو سلاح الإذاعات والتلفزيونات والجرائد لاغتيال العقل البشري، ووضع عقل اصطناعي بدلاً منه.

قال الزوج:

_ اختصر وخش ع الموضوع.

قلت: ماشي. ومن الكلام ده استطاع المصريون إنتاج سلاح خفي فتاك أسموه: النقرزة.. مش فيه مسدسات كاتمة للصوت. سلاح النقرزة هو أيضاً كاتم. كاتم للمعنى. وبالتالي متلحقيش تشوفي وش كلام النقرزة زي متلحقيش تسمعي صوت الطلقة. وبالتالي الناس متسمعش ويحاوطوا المكان. ويقبضوا على الفاعل. النقرزة كده بالضبط. إضرب واجري. زي حرب العصابات. بل متطورة عنها. إضرب براحتك. وقوم وامش براحتك وكأنك معملتش حاجه ولا يقدر حد يتهمك بأي حاجه. فهمتي؟

قالت: في التأني السلامة. وفي العجلة الندامة.

قلت: يعني إيه؟

قال زوجها: يعني عاوزَلْها عشر سنين أو أكثر عشان تهضم اللي قلته. بعدين عشرة تانيين عشان يتحللوا لعناصرهم الأولى ويدُوبوا.كمان عشر سنين تالته. عشان يتحولوا لطاقة حركة حرارية تقدر تنتج الوسيلة المناسبة لفهم اللي قلته. بس ساعتها هتكون نسيت تماماً

قالت الزوجة: حفتكر الكلام اللي قلته. أنا منساش حاجه. بس مش هعرف كلامك كان معمول إزاي. أمك شرحت لي طريقة عمل الكيك، والمقادير. عمري ما عرفت أعمل كيكة زي اللي أكلتها عندكم. لكن أنا عارفه المقادير بالضبط.
قلت فرحاً: وإكراماً لهذا المدح اللي أنا مستحقهوش. هاعتبر بطتكم دي نواة لمشروع خروف لم يكتمل بناؤه في البطن.
قال: يا عم الأكل بقاله ساعة على الطبلية.

قلت: العين والأنف يأكلان قبل الفم أحياناً.

قال: يعني شبعت. شيلي البطة يا وليه.

قلت: حيلك. حيلك. إيه؟ بركة يا جامع.

قالت الزوجة محذرة إياي من مغبة قدوم زوار على غير موعد: يا قاعدين تبرقوا للطبلية يكفيكوا شر بطن اللي جايين.

قلت: أصل لازم كل الحواس تتهنى مع بعضها بالأكل، وتتوهم إن البتاعه دي، اسمها الشائع بطة، واسمها العلمي اللاتيني بصلة.

قال: صحيح. البني آدم ما يملاش عينه غير التراب.

قلت: ما أنت يا صاحبي عاوز توهمني بعدم مصداقية المثل الشعبي بصلة المحب خروف.

قالت الزوجة: هيه جت كده. حكمة ربنا. نعمل إيه؟

قال الزوج: المثل دا. تم تحريفه. المثل كان أصله كده: لا يرتبط المحبون بصلة قوية فيما بينهم إلا بعد التهامهم خروفاً مشوياً.

قلت: أفهم من كده أن محبتنا لبعضنا مصنوعة في شركة البلاستيك.

قال: لا. من بلاستونيل بتاع شركة باتا. حاجة مضطرين نلبسها واحنا ماشيين فوق الأشواك.

قلت: يااااه. دا أنت غلبت جميع فلاسفة التشاؤم.

«لحظة وجوم انتابت الجميع».

قلت محاولاً كسر الحالة الطارئة:

_ يقول المثل الذي ابتكرته تواً.. اللي بلا صديق.. يضيع في الطريق.

قال صديقي: واللي بلا طريق زينا؟

قلت مصراً على كسر الحالة الطارئة:

  واللي بلا طريق زينا، يدور على صديق قدنا.

قالت الزوجة: الأكل يا جماعة. يللا. صدر ولا ورك.

قلت: والله. دي حسب الأنثى. وتضاريس جسمها.

قالت: ممكن نبطل كلام؟

قال الزوج: يمكن شايفنا بخلا. وعاوز يوفر لنا.

قلت: ليه؟ أنت عازمني عشان تثبت لي أنك كريم. دا بُعدك. عشر بطات كمان في بحر سنة واحدة، وبكده تثبت حسن نواياك في الكرم المطاوع.

قال: دا غير كرم مطاوع بتاع سيد درويش.

قلت: تمام. بس مش هتقدر تنسيني اللي كنت هنقرزك بيه دلوقت.

قال: قول قوام وخلّص.

قلت: توفيق الحكيم اللي أبخل منك. زرع شجرة طرحت بقر. كل ما ييجي له ضيوف. وبَخْلان يعزمهم في مطعم جريدة الأهرام اللي بيشتغل فيها. يبعت السواق يدور على واحد مخصوص يعرفه الحكيم. يطلع له الشجرة يجيب بقرة. تحلب وتسقيه هوّه وضيوفه بالمعلقة الصيني. بعدين يربطها جنب باب مكتبه. ويحط السواق بتاعه حارس عليها.

قاطعتني الزوجة: وأنت معندكش سواق؟

قلت: إيش معنى؟

قالت: صاحبك سرق ورْكك.

قلت: يعني بقيت قناوي الأعرج بتاع باب الحديد.

قال صاحبي: وأنت تطول.

قلت: معك حق. أعرج وقدامه واحدة زي هند رستم تبقى الحياة لونها بمبي مسخسخ.

قال صديقي: فقر بلا دين هو الغنى الكامل. وعرج بلا إيدين يطوقوا زبيدة ثروت هوّه العذاب الكامل.
[وطبعاً خطفت ما تبقى من وِرْك من فم صديقي، والتهمته في ثلاث قضمات أو أربع، وشبعت وقمت استعداداً لمغادرتها وتركهما يبططان بعضهما البعض بما أكلاه من بط تحت ملاءة السرير].

استيقظت من الوخم المفاجئ الذي أحدثته الأكلة الدسمة على صوت صديقي:

_ الضيف المجنون يأكل ويقوم.

قلت: وأنا عندي مثل شعبي يضاديه.

قال: إيه هوه؟

قلت: كُل أكل الجمال وقُوم قبل الرجال.

والصورة اللقطة التي تضاهي الصورة المشهدية «يا طالع الشجرة. هات لي معاك بقرة. تحلب وتسقيني. بالمعلقة الصيني» هي هذا المثل الشعبي:

الشاطرة تغزل برجل حمار
ولك أن تتخيل هذه الصورة التي لم تقع في أنامل سلفادور دالي. وإلا كانت لوحة تشكيلية عبقرية.. وماذا لو قلبنا المثل هكذا:

الحمار يغزل بتكنولوجيا شاطرة*

الآلات.. وحتى زمن قريب. لم تكن بحاجة إلا لقوة عضلية. كما كان الحال في بدايات العصر التكنولوجي الذي أسسته الآلة والقاطرة البخاريتان. طبعاً كلما تطورت التكنولوجيا، وهنت القوة العضلية. ومع ذلك ظلت هذه الأخيرة هي الأساس البشري في تشغيل الآلات.وهي لا تحتاج من المخ إلا حدوده الدنيا من التفكير الذي يجعله منتبهاً إلى الحفاظ على كينونته من خطورة الماكينات التي مازالت في طفولتها؛ مما أضعف عقول الشغيلة، وصار أحسنهم هو من وصل إلى التفكير السببي البسيط. وكأن هناك علاقة تناسب عكسي بين تطور الآلات الحديدية وتخلف دماغ الطبقة العاملة(18).. إن ما اكتسبه العامل حين كان فلاحاً يزرع ويحصد من تأمل لمفردات الكون الذي يحيطه. وللعلاقات التي تكون بينهما. ومن ثم استخراج نظرياته وقوانينه الآخذة شكل حواديت خرافية وأساطير وعقائد أرضية؛ خسره العامل بالتدريج وهو بين ضجيج الآلات المحطوطة في أماكن بينها وبين الكون جدران وأسقف، وذات ممرات ضيقة، وهواء ملوث بالعوادم وغبار القطن قاتل الصدور البشرية.. التأمل في حاجة ماسة إلى ثلاثة أشياء صمت وفراغ ووحدة. وهذه الثلاثية موجودة إما في الصحراء أو الجبال أو شواطئ البحار أو الأرياف أو الحدائق العامة في المدن أو فوق أسطح بيوت الخمسينات والستينات.المكانان الأخيران صارا هما الجيتو المديني للتأمل + شاطئ البحر قبيل مقدم المصطافين بثلاثة شهور، وبعد رحيلهم بشهرين اثنين..معظم إنجازات البشرية جاءت وليدة التأمل الذي أكسب الحواس، خاصة: البصر والسمع، دقة الملاحظة أساس أي بحث علمي.. ويقول المثل الشعبي الذي لم يتم الاعتراف به بعد:
اللي بلا تأمل.. عقله يفرمل*

وخوفاً من أن يصدأ عقلي ويُصاب بفرملة مُستدامة؛ يجب على نفسي وحواسي أن تمارسا التأمل، ولو لمدة ساعتين كل يوم. إنه تمرين مجاني للعقل، مثلما المشي هو تمرين مجاني للجسد. وسوف يكون عنوان التمرين هو المثل الشعبي الذي اخترته نموذجاً، أو بمعنى آخر، اخترته نافذة أطل منه على حياتي المغزولة؛ دون أن أدري؛ من أمثال شعبية.

لأول مرة أستشعر أن لفظة «يدِّي» العامية، هي من صميم اللغة العربية. ابنة مصرية للغة أتت من صحراء شبه الجزيرة العربية..جاءت من كلمة «يد» «يد الله مع الجماعة/ كمثال» وهذا معناه أن المصريين لا يستسلمون لأي لغة تأتيهم من خارجهم. بل هم يهضمونها ويتمثلونها، ثم تخرج من أفواههم مشبعة بنكهة كل منطقة بشرية داخل مصر. وليس هذا فحسب، بل أنهم، بالحس والغريزة، يضيفون إليها من عندياتهم، وأيضاً يحولون بعضاً من أسمائها إلى أفعال، مثل الاسم «يد»:

يدِّي الحلق للي بلا ودان....«إعطاء الشيء لمن لا يستحقه»
إدِّالُه بمبه.................. «بمعنى: خدعه»
إدِّيها ماترحمهاش.......... «كل براحتك متجاوزاً حد الشبع»
إدِّيله جامد................. «اضربه بأقصى قوتك البدنية أو الكلامية»
واليد + الصفة، هي تعبير عن مضمون شخصية ما
يده نظيفة.................. على خُلق/ أمين/ شريف.
يده بيضاء.................. كريم/ يخدم الناس.
يده طويلة.................. لص/ حرامي.
يده خفيفة.................. نشال/ سريع العمل مع درجة عالية من الإتقان.
يده ناعمة.................. لا علاقة له بالأعمال اليدوية الشاقة.
يده خشنة.................. عكس ما فات.
بيده الأمر.................. سلطة التنفيذ.
يده قصيرة................. عاجزة عن المساعدة.

وبما أنني ظلمت هذا المثل «يدي الحلق للي بلا ودان» فاسمحوا لي أن أرد له اعتباره، وانظر له من جانب مضيء:

لفظة «الودان» في الأمثال الشعبية مرتبطة غالباً بصفات سيئة، وكذلك هي دخلت قاموس الشتائم «يا راجل يا قفة»، وهذه «القفة» التي استخدمت للنيل من رجل ليست له إرادة، هو فحسب حمّال لأي شيء لا يمتلكه، حتى هو ذاته ليس مملوكاً لنفسه؛ هذه القفة استخدمت للتعبير عن صفة جميلة «= التعاون»، وذلك من خلال المثل:

القفة أم ودنين يشيلوها اتنين

ويشبه «القفة» شيء آخر اسمه «الغَلَق»، مع الفارق في نوع المحمول داخلها، الأولى من أدوات الأسرة المصرية الريفية؛ لحمل الدقيق/الخبز/ الأرز.. إلخ. وهي غالباً مصنوعة من الخوص المأخوذ من النخيل، أما الغلق فهو مصنوع من جلد إطارات السيارات المستهلكة، ويستخدمه الفواعلية لحمل الرمل والزلط و«مونة» الأسمنت.

وإضافة إلى هذا المثل «القفة أم ودنين....» هناك:

ودن من طين وودن من عجين.

أي من يحاول إيهام من حوله أنه لا يهتم بسماع ما يدور من أحاديث.

عشمتني بالحلق خرمت أنا وداني.

وهو مرتبط بمخالفة القواعد.

الزن عالودان أمر من السحر.

مرتبط بالوشايات والفتن والإيقاع بين الأصدقاء بين الأصدقاء والمحبين.

الحيطان لها ودان.

مرتبط بفكرة التجسس على أسرار الناس، ووصول هذا التجسس إلى مرحلة تجعل المرء لا يأتمن حتى لجدران منزله، وكان في هذا المثل مبالغة تدفع المرء إلى الأخذ بالمبالغة المضادة، أي شدة الحذر.. أما الآن فقد وصلت تكنولوجيا التصنت إلى مرحلة جعلت هذا المثل متخلفاً عنها.

الكلب ما يعضش في ودن أخوه.

وهو احتقار ضمني للآدميين الذين يؤذون بعضهم البعض.

ودنك منين يا جحا.

يُقال غالباً لمن لا يستطيعون فهم ما هو قريب منهم من أمور واضحة، ويذهبون لما هو أبعد.. أو يُقال لمن يحاول أن يضلل المتحدث معه، محاولاً صرفه إلى حل يستلزم وقتاً وجهداً، مع أن الحل في متناول اليد، ولا يكلف شيئاً.
و«الودان» أيضاً لها علاقة بقاموس الشتائم، فبدلاً من أن ينعت الشخص شخصاً آخر ب «الحمار» يقول «ودانه طويلة». وأيضاً إذا أراد معاقبة طفل «شدّه من ودنه».

ورغم ارتباط الأذن «= الودان» بما هو سيء في الغالب؛ فإن الشاعر أحمد شوقي رد الأعتبار لها فأنشد:

والأذن تعشق قبل العين أحياناً

ويا لها من مصادفة.. هذا الاستثناء حدث مع المسئول الأمني الذي أُسند إليه مهمة التصنت على الحياة الخاصة بكاتب مسرحي ألماني معارض لنظام الحكم الشيوعي، ومع طول زمن التصنت انجذب هذا المسئول نحو الكاتب المشكوك في ولائه، وتعاطف معه إلى حد تضليل رؤسائه في الجهاز الأمني، بكتابة تقارير كاذبة لصالح الأديب المسرحي وذلك في الفيلم الألماني الحائز على أوسكار أحسن فيلم أجنبي عام 2007«حياة الآخرين».

الأمثال والأغاني والأفلام فواكه الشعب المصري. فواكه لا تذبل. كلما قضمت منها قضمة صار فمك داراً لأوبرا تعزف فيها الأسنان واللسان واللعاب وسقف الفم وجوانبه؛ سيمفونية اللذة العابرة. ما أن يدرك وعيك الخارجي صمتها؛ حتى ترى تفاحتك تصعد نحو عينيك مرة أخرى. وأسنانك تفتح الستار لوصلة ثانية. بيد أن بصرك يلمح التفاحة وهي بكاملها. تديرها يدك. تُقلبها. لا أثر لأسنانك عليها.تتعجب للحظة. تشك في نفسك. تشك فيها هي. يُحيّرك الشكان، لكن بصرك وأصابعك يؤكدان أنها على حالها. تقول لنفسك: ربما أَكلَّتْني التفاحة نفسها ولم أدر. لذة القضمة الأولى أنستني رؤية الحركة الميكانيكية لصعود وهبوط التفاحة التي تناقصت حتى انتهت. وما بين يدي الآن تفاحة جديدة أخرى، ويستمر الحال على هذا المنوال.

وهكذا الأمثال والأغاني والأفلام. نستهلكها كل يوم. وهي كما هي. لا تنتهي. بل تتجدّد في أعيننا وأسماعنا. وتتقلّب مع تقلباتنا العاطفية.وربما يمر المرء بعدة حالات متباينة على فترات متباعدة. في كل فترة منها، يتعامل مع المثل عينه. يستمع للأغنية ذاتها. يشاهد الفيلم «هُوَّاه».. وربما في ذات اللحظة؛ تنتاب المرء عدة حالات تتداخل فيما بينها، ولا تنفصل هذه الحالات عن بعضها إلا بعد أن يستلم الوعي الخارجي دوره من الوعي الداخلي المندمج مع المثل أو الأغنية أو الفيلم. وهذه الحالات المتباينة يتنازعها، أو يتقاسمها كل من القلب والعين والسمع والعقل داخل جسد المرء الواحد. فيما آخرون بجواره انتابتهم حالات عاطفية نفسية أخرى، قد يتشابه بعضها مع ما انتاب ذاك المرء.
لذا لن تموت الأمثال والأغاني والأفلام.. كل تكنولوجيا تُولد ستموت: الساقية/ النورج/ الشادوف/ الطنبور/ بابور الجاز/ الماكينات الأولى للغزل والنسيج.. عصر البخار بأكمله كاد يموت. عصر الكهرباء يضمحل.. إلا ماله علاقة بالروح والوجدان.

قلبي بيقولي كلام.. والناس بيقولوا كلام
وعْنيّه شايفه كلام.. وأنت بتقولي كلام
احترت أصدق مين.. واحترت أكدب مين
قلبي بيقولي

حلاوة المثل الشعبي إنه شمولي(19).. يعني هو القلب والعين والناس وأنا وأنت.. وبالتالي لا حيرة تأتي من تضارب بينهم.. الحيرة قد تأتي لوهن في القلب. أو لضعف بصر. أو لوقوع الناس تحت سطوة ثقافات مضللة. أو لأن:
أنا وأنت لوحدنا.. حسدونا في حبنا

مثلما غنى فريد، وليس لنا علاقة بالناس.. أما شادية فليست أنانية:

حبينا بعضنا.. وبُحْنِا بسرنا
يا ريتكم زيّنا.. ونبقى كلنا
في الهوا سوا

والأمثال الشعبية هي الهواء الاجتماعي الذي ربط صدور المصريين ببعضها وجعلها سواء؛ رغم سوءات المجتمع الطبقي.
 
 
* شكر واجب للصديق إسلام عاشور على حُسن تعاونه معي في الأجزاء الخاصة بالسينما.

* شكر واجب للصديق محب فهمي جرجس؛ على تعاونه معي في مراجعة الأغاني المصرية.

* شكر واجب للصديق هشام دياب لما قدّمه لي من إضافات أفادت النص.

* وشكر واجب للمركز الثقافي بالجزويت: الأب فرانسيس. الأخ سليمان شفيق. الصديقان عماد مبروك ومحمد عبد العظيم.. أنشطة المركز الثقافية والفنية كانت بشكل ما دافع قوي لما كتبت.

* علامة (*) تعني أن كاتب هذه الدراسة الحكائية هو مؤلف هذا المثل، وعلامة (**) تعني أن مصرياً مجهولاً هو الذي قام بتحريف المثل الشعبي الأصيل على هذا النحو ليتناسب مع التقلبات الاجتماعية والسلوكية التي حدثت بعد استيلاء الضباط على الحكم، والتي برزت مساوئها من السبعينيات لغاية اليوم، ومن ثم تبناه قطاع عريض من المصريين.

* إذا جاز لي القول بأن المثل الشعبي هو قانون اجتماعي صاغه الشعب من خلال علاقته بواقعه، فإنه في هذه الحالة يشبه القوانين العلمية ونظرياتها؛ من حيث أن هاتين الأخيرتين «القوانين والنظريات» تستخدمان في حالتين متضادتين لصالح الأشرار، وصالح الأخيار، ونحن نتعامل أخلاقياً معهما «القوانين والنظريات» حسبما هو اشتغالها الأول، فمثلاً حينما نذكر «الذرة ونظرياتها» نتذكر على الفور القنابل الذرية وهيروشيما ونجازاكي، وبالتالي فإن أول ما يخطر على بالنا أنها في صف الأشرار، وهكذا الأمر مع الأمثال الشعبية.

 
هوامش وإيضاحات:

1.هو الاسم الذي أطلقه المصريون على المطربة صباح.

2.لنتذكر سوياً مطلع هذه الأغنية: «أبو سمرة السكره.. أبو ضحكه منوّره» ويفهم من هذا المطلع أن المقصود بالسَّمار هو السواد؛ فحينما يبتسم هذا الأخير أو يضحك تبدو أسنانه البيضاء كأنها أنوار مرصوصة جنب بعضها البعض تضيء الليل الحالك، وتجعله جميلاً.. والأغنية الأوضح في تبيان العنصرية في مرحلتها الجنينية هي:«أسمر أسمر.. طيب ماله» للمطربة صباح.

3.أغنية شعبية كان الأطفال يمازحون بعضهم البعض خاصة وأن اسم «علي» منتشر بين المصريين. ويقولونها هكذا: «علي يا علي.. يا بتاع الزيت/ بذمتك.. إنت فسيت» رغم أن أصلها هو «بذمتك..إنت حبِّيت»، ومع هذا فإن هناك علاقة شبه مستترة بين «فسِّيت» و«حبيت» داخل سياق تلك الأغنية، كيف؟

الإفطار الشعبي للمصريين هو الفول المدمس والفلافل «= الطعمية»، والأول يُضاف إليه زيتاً، والثاني يُقلى بالزيت الذي يستخدمه صانع الفلافل عشرات المرات، وربما لعدة أيام، مما ينتج عنه، عند آكلي الفلافل هذه، فِثاء مصحوب بصوت ذي رائحة كريهة قد تصل إلى درجة إجبار من شاء حظه أن يكون بجوار من أطلق هذا الفثاء؛ إلى سد أنفه بأصبعيه، وكتْم حنكه.

1.ماه بمعنى ماء «القاموس الجديد للطلاب- تونس والجزائر- 1984».

2.وذلك قبل اكتشاف الزراعة التي صارت منتجاتها ثروات إضافية؛ يُقايض الناس بعضهم البعض بها.
3.ببكويته الآن.

4.الغوامق طبعاً للشغل والمرمطة. والفواتح للأفراح بشتى أنواعها. ومن ناحية أخرى؛ هل يمكن اعتبار هذه الألوان ودرجاتها دالة على أن إنسان التربة الزراعية المكشوفة «وليس بينها تلال وجبال أو غابات» مرتبط روحياً بتُربته و«طربته/ أي قبره» وبالسماء التي هي رزقه فوق الأرض «= الأمطار التي تجري نهراً» ورزقه حينما يصعد إليها «جنة ونعيمها» فيما جسده الفاني يصبح كالرماد.

5.لاحظت أن كثيرين من العمال الذين كانوا ضمن الحركات اليسارية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بالإسكندرية، هم من أشباه العمال «أو أشباه الموظفين» أي ليست لهم علاقة مباشرة بالإنتاج، مثل عمال الغزل والنسيج، أو ليس لهم علاقة مباشرة بالمهن الحسابية الدقيقة أو المهن القانونية، أو المهن الإدارية والتنظيمية العالية.. هؤلاء الأشباه يستشعرون دوماً أنهم على الهامش، وبالتالي تتفتق غرائزهم وبالذات «حب البقاء/ الخوف» عن رغبة في الهيمنة، وهذا الأمر في حاجة إلى مقال مخصوص عنه، خاصة وإني أعتقد أن أحد أسباب هشاشة الحركة السياسية اليسارية في ذلك الوقت يعود إلى انضواء هؤلاء الأشباه إلى تلك الحركة.

6.رغم أن هذا المثل يُقال بصيغة المذكر، إلا أنه يعني، في الأساس، المرأة المتزوجة، فقد كانت العادة، وحتى وقت قريب هي ألا يتعامل الناس بالتاء المكسورة، وإلا كان ذلك خروجاً عن الآداب المرعية، وكانت الأغاني هي خير مُعَبّر عن ذلك.

7.بيرم التونسي هو كاتب هذه الفوازير، ومع إني تنبهت |إلى هذه الفوازير في عاميها الأخيرين إلا أنها بدأت عام 1957 «كما قال لي الفنان محمود الهندي» واستمرت حتى عام 1962، وكانت تنشر في مجلة الإذاعة التي كان اسمها "الراديو المصري".

8.هو من أكثر الأفلام اهتماماً بالأمثال الشعبية، بل هو الفيلم المصري الوحيد الذي انعجنت فيه شخصيته الرئيسية «عيشه/ فاتن حمامه» بقاموس الأمثال الشعبية.

9.د.حصة الرافعي بمجلة الثقافة الشعبية- البحرين- العدد الأول 2008.

10.هباب «بكسر الهاء»: هي لفظة عامية مصرية مُستخرجة من اللغة العربية «هَبّ»، وهذا رأي خاص قد يكون غير صحيح، واللغة العربية تقابل كلمة «سناج» بكسر السين، والهباب ينتج عن الاشتعال غير الكامل للجاز «= الغاز» الممتلئ به موقد الكيروسين الذي كان منتشراً قبل دخول البوتجازات في البيوت. كما ينتج أيضاً عن مصابيح الجاز، والسناج «الهباب» كان أحد علامات البيوت الشعبية، حيث يترك بقعاً ودوائراً سوداء على السقف والحوائط. ورغم إندثار هذه المواقد والمصابيح، وبالتالي آثارهما«= الهباب» فإن لفظة «هباب» مازالت تستخدم في النقرزة والشتم والتمايز والتهديد: «يوم مِهَبِّب زي وشك، إيه اللي أنت هَبِّبْتُو ده؟» وإلى غير ذلك من العبارات.

11.بعض الأمثال الشعبية مثل «اللي من نصيبك يصيبك» و«اللي مكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين»؛ قد تكون حليفة للقوى الإستغلالية، لكني أراها في ذات الوقت سنداً للقوى الثورية، حيث أن هذين المثلين وأشباههما، لا يجعلان المرء متردداً فيما هو مُقدم عليه، وكما قال الشاعر الفلسطيني معين بسيسو: أنت إن سكتَّ مُت/ وإن تكلمت مُت/ فقُلها ومُت.

12.وقد غناها أيضاً المطرب عبد الغني السيد.

13.في البداية غنّاها فؤاد المهندس في فيلم «فيفا زلاطا»، وفيما بعد أعيد توزيع اللحن، وغنتها عفاف راضي، بتعديل طفيف في الكلمات مثل: فؤاد: «عشّه جنب نيلها.. تسوى ألف قصر» إلى عفاف: «ضلّه جنب نيلها.. تسوى ألف قصر».

14.في فيلم «Departed» بطولة جاك نيكلسون، ليوناردو ديكابريو نبوءة بقيام حرب بين أمريكا والصين بعد نحو حوالي عشرين عاماً. وقد عُرض الفيلم منذ نحو عامين اثنين. أي أن المتبقي من الزمن ثمانية عشرة عاماً.

15.المطلوب من عامل الماكينة هو أداء يدوي لمجموعة محددة من الحركات المنتظمة على نحو معين. وهي أداءات لا تتغيّر طالما الماكينة لم تستبدل بماكينة أخرى أكثر تطوراً. وإن استُبْدلت، فهي أيضاً لا تحتاج سوى أداءات يدوية محددة ومنتظمة. وهي لا تختلف كثيراً عن الأداءات الأولى. وبالتالي يتحرك التفكير العملي للعامل داخل حيز ضيق يصيبه مع الوقت بالخمول الفكري الذي يتطوّر إلى جمود، ومن ثم تخلف قد يمتد إلى ممارساته السلبية للإبداع «= القراءة»، وكذلك قد يمتد إلى ممارساته الإيجابية للإبداع؛ إن كان شاعراً أو قاصاً أو نحو ذلك. أما العامل الفني «ميكانيكي/ خرّاط/كهربائي» فهو يتقابل دائماً مع مشكلة فنية ما مع ماكينة من الماكينات. وعليه أن يقدح زناد فكره لحلها، ومع كثرة المشاكل وتنوعها يتوهج مخه فلا يصدأ.

16.* يوجد هذا النوع الأدبي في العالم أجمع (ص 33).

* الأمثال في موسيقيتها ومباشرتها وصراحتها تعكس ليس فقط تفرداً ثقافياً، بل أيضاً سمات عامة مشتركة حول العالم (ص33).

* تأثرنا جميعاً بتلك الرسائل «المتضمنة في الأمثال/ المحرر» إما بعقلنا الواعي أو الباطن، بالرغم من الاختلافات المحلية، وبالرغم من التطورات والتغييرات التاريخية (ص33).
من كتاب «إياك والزواج من كبيرة القدمين»- مينيكه شيبر- دار الشروق- ترجمة: منى إبراهيم وهالة كمال- 2008.

علي عوض الله كرار 

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى