الاثنين ٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم أسامة محمود خليل

ما هي فلسطين؟ 

  أبي. ما هي فلسطين؟ 

 جاء السؤال مباغتا من ابنتي ذات الأعوام السبعة بينما كنت منهمكا في إعادة قراءة رواية قديمة لكنفاني محاولا إزالة ما تراكم على القلب من الوهن والنسيان في خضم مشاغل الحياة وصراعاتها، هبط علي سؤالها وقفز معه في ذهني جوابان تصارعا في جدلية محمومة، هل أختصر إجابتي بما كنت قد أخبرتها به سابقا؟ بأن فلسطين هي وطننا الذي تحدر منه آبائنا وأجدادنا وأن اليهود قد سلبوها منا ولكننا سوف نستعيدها قريبا بإذن الله، أم سأُدخل نفسي وإياها في جدلية أعجز أنا نفسي في كثير من الأحيان عن فهمها حول موازين القوى وصراعات المصالح التي جعلت من فلسطين شيئا يشبه أي شيء إلا الوطن الذي عرفناه ونمنا ليالٍ لا حصر لها نحلم بأن نلقي بانفسنا في أحضانه. 

وضعت الكتاب جانبا وأجلستها على ركبتي في محاولة لإعطاء نفسي فسحة من الوقت لإيجاد مخرج من دوامة بدأت تدور في راسي مطلقة العنان للعديد من الأسئلة والمشاعر التي غابت عني منذ زمن.

 لماذا تسألين؟ سألتها مستفهما.

لقد كان درسنا اليوم عن الوطن، وتحدثت زميلاتي في الفصل كل عن وطنها، وعن قرى صغيرة تنام في حضن الجبل، وكيف أنهم يعودون اليها كلما اتت إجازة الصيف ليلتقوا الأجداد، ويحلقوا مع الغيوم في سهول وجبال زينها الخالق بايآت الجمال، وعن عناقٍ أزلي ما بين الأرض وساكنيها، في أسمى آيات الحب ولحظات العشق، ولكن عندما جاء دوري للحديث لم أدري ماذا أقول، فأنا أعرف كما أخبرتني بأن فلسطين لنا ولكنني لم أرها، وإجازة الصيف أقضيها مع الأجداد في بلاد عاشوا فيها وأحبوها وأحبتهم ولكنهم لم يولدوا فيها. أخبرني يا أبي هل كان لديكم بيت في قرية تنام في حضن الجبل تلعبون في سهولها وتتسابقون في تسلق أشجارها؟ هل كنتم تجتمعون في ليالي الحصاد تتسامرون وتسترجعون ذكرياتكم وذكريات من سبقكم؟
 
حاولت أن أطلق العنان لبصري عبر نافذة غرفة الجلوس في الشقة التي أسكنها في أحد الأبراج السكنية المتاخمة لمياه الخليج الهادر، ولكن بصري إرتد، ولم يستطع إختراق غابة الأبراج السكنية المحيطة بي، مفشلا محاولتي لالتقاط ما علق بالذاكرة من أحاديث متقطعة سمعتها عن ليالي الحصاد، وجمال الطبيعة، وقسوة الإحتلال، أطلقت عنان بصري في عيني ابنتي وهي تنظر إلى منتظرة بعض الإجابات علها تكون عونا لها في المدرسة عندما يذكر الوطن مرة أخرى، حاولت للحظة أن استجمع بعض صور الذاكرة المسموعة او المقروءة فعجزت خلايا الذاكرة من تجميع صور مبعثرة لقرية في وطن لم أره، ولكن تولد بيني وبينه حب عذري يلهب الأشواق ولكنه لا يروي ظمأ المحبين لعناق يلتحم فيه جسد العاشق مع تراب المعشوق. 

تلاحقت في ذهني على عجل صور المخيم, بِدءً من الخيمة التي ولدت فيها بعد عامين من النكسة، مرورا بمدرسة الوكالة، وطابور المؤن، وصنبور المياه الجماعي الذي كان من واجبه أن يؤمن للمخيم ماء الشرب والغسيل وما زاد عن ذلك فهو لري شُتيلات أبت أمي إلا أن تزرعها فيما تيسر من علب الصفيح وتوزعها حول الخيمة في محاولة يائسة لاسترجاع صور الحقل وأمسيات ليالي الحصاد، واستمرت الصور لتمر سريعا على العديد من الأماكن التى ألقتني إليها الأقدار خلال سنين عمري الأربعين، ولكنها عجزت أن تجد بينها صورة مرئية للوطن، فعلى الرغم من أنني أشاهده يوميا على شاشات التلفاز وصفحات الجرائد، إلا أنها تبقى صورا خالية تنقصها رائحة التراب بعد شتاء أيلول، ودفء التنور، وقطرات الندى تعمد أوراق الزيتون كل صباح لتزيد من قدسيتها. 

شعرت في لحظة بعمق المسوؤلية الملقاة على عاتقي لنقل صورة غابت عنها الحواس، صورة حلمت بها ولم أعشها، لوطن حاول أبي جاهدا أن يزرعه بداخلي بعدما اقتلع منه، وقدحان الان دوري لكي أنقل إرث الاباء والاجداد لقلوب الأبناء، ومن بعدهم الأحفاد، إن أطال الله في عمري وبقي الوطن على حاله يغطيه عفن الإحتلال ويقضم ما تبقى منه صراع الاخوة. 

إذا سؤلت عن الوطن يا ابنتي، قفي شامخة كالجبل وتحدثي بصوت واثق عن وطن أنبت شعبا شامخا كلما حاولوا إحراقة ولد من بين الرماد اقوى، عن أرض إحترفت مقارعة الغاصبين جيلا بعد جيل فلم يمكثوا فيها إلا غفوة مسافر وغادروها يحملون بين أيديهم مرارة الهزيمة، عن وطن كُتِبَ التاريخ على صفحاته فتألق التاريخ زهوا ببطولات وحكايات لم يشهدها من قبل.
 
فلسطين يا ابنتي ارض باركها الله ببوابة السماء, ومولد المسيح, ومرقد خليله عليه السلام، فلسطين سهل روّيَ ترابه بقطرات مطر معطرة بدماء الشهداء فتغطت أرضه بلوحات إختلطت فيها حمرة أزهار الحنون مع زرقة السماء، وزينتها أشجار زيتون يكاد زيتها يضيء بنار الشوق لسواعد أهله. فلسطين جبل عانقت قممه غيوم ارتقت عليها أرواح الشهداء, وعبقت أجوائه برائحة الزعتر البري والميرمية. فلسطين يا ابنتى هي الصغير الذي لن يكبر إلا بعودة اهله،المريض الذي ينتظر أبنائه لكي يضمدوا جراحه، الغائب الذي شاركنا وحدتنا في سنوات اللجوء وحيرة التيه، فلسطين ليالي الحصاد, وحنان الام, ورقة الحبيبة. 

  ولماذا لا نستطيع العودة اليها يا أبي؟

_ كي نعود يا ابنتي يجب أن تصبح فلسطين حياتنا التي نحياها، هوائنا الذي نتنفسه، طعامنا الذي نأكله، أحلامنا، آمالنا، ماضينا ومستقبلنا. كي تعود يجب أن تعيش في قلوبنا كما عاش من قبلنا في قلبها. 

 تركتني ابنتي وفي عينيها نظرة ترقب لغد ستجد فيه ما يقال عن الوطن عندما تسئل عنه، وما هي إلا دقائق حتى أخرَجَت خارطة لفلسطين ووضعتها على الأرض أمامها مرددة اسماء القرى والمدن، لكي تعرف أكثر. 
ما هي فلسطين. 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى