الخميس ١١ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم أميمة عز الدين

حدث لرجل ما

في ركنٍ منزوٍ من الحجرة الضيقة.. ألصق ظهره بالجدار الناشع برطوبة لزجة تلتصق قطراتها بحافة يده المعروقة النحيلة.. العروق خضراء/ زرقاء لرجل تجاوز الأربعين بقليل.. اليد ما زالت تنشب في الجدار الجيري الباهت المتشقق.. يتساقط الجير، يشعر برائحته تزحف على أنفه ومسام جلده.. يتكوم على نفسه، السكون يحيط به.
على مسافة قليلة تقعى أسرته على سرير قديم قوائمه قد علاها الصدأ.. متسربلين ببطانية سوداء ذات ثقوب واسعة.. تتسع كلما اقتربنا من وسطها النحيل الشعر.. رائحة زخمة تجتاح مواطن أسرته الصغيرة المكونة من طفلين أحدهما مصاب بشلل الأطفال، والآخر ما زال يمص ثدي أمه الممتد بإشفاق ناحية فمه الصغير.
ما زال يرنو بعيدًا.. الكل في شغل عنه.. يتساءل:
 هل الذكريات من دواعي الرفاهية؟

لا داعي لتلك الضوضاء التي تصدر منه.. لأنه ما زال يرنو بعيدًا، فالأشياء الجميلة لن تقترب منه، خيوط الحزن تلتف حول عضلة قلبه الضعيف، يحاول التملص منها، لكنها تتعلق به كشرنقة العنكبوت، لا يطيق رائحة عرقه النتنة، يعود من عمله في منتصف الليل يجد زوجته وطفليه متكومين وملتفين ببطانية مهترئة.. يربض بجسده النحيل عند حافة السرير.. يفرد البطانية الأخرى، يغلبه النعاس.

يتقلب في منطقته المحدودة بين قوائم السرير..رائحة الجير توقظه؛ ثقب في الجدار تبص منه فئران بنية اللون يتقلص لونها إلى الرمادي عندما يشتد جوعها وسعارها تغطي جسدها حراشيف حادة؛ إنها فئران النهر والبالوعات المفتوحة والتي تجاور حجرته الضيقة أسفل العمارة.

كان يخشى ذلك الفأر المتسيد الشرس على طفله الرضيع، يخشى اندفاعه تحت السرير وفوقه.. يقفز
من مكانه وبيده عصا غليظة يهوي بها على ذلك الفأر اللعين، وعندما ييئس منه يسد بجسده الهزيل ذلك الثقب، ينام طول الليل تنتابه هواجس شتى.

عندما كان الحب أغنية جميلة لم تشعر زوجته أن الحب سيولد بين الحيطان الواطئة الكالحة.. كان الحب أغنية شجية.. أحيانًا كان يركض على حصى ساخن يشتد لهيبه عندما لا يجد رغيف خبز جاف أو شربة ماء باردة لما كان ظهره ينوء بحمل الطوب والأسمنت، كانت زوجته تضطرب كثيرًا عندما ترى نظرة الحب في عينيه، تخشى أن تمتلئ الحجرة الضيقة بأطفال عاجزين.

في ليالي الشتاء الأشكال تتضخم.. المدينة جدار عال يتسلقه القادر حتى يلفظ أنفاسه عند حافة اللامعقول، وسراب الأمنيات، تضخ هديرها عند الأجساد الباردة والبطون الخالية والعقول المستغيثة من تلك الأشياء الهلامية التي تتضخم حتى في رؤيا الأحلام.
يبحث عن نجمه الذي يظن أنه يحبه كثيرًا؛ كان يرقد جوار القمر ناحية اليمين، يظنه نجمه الذي يخصه فمحياه يؤنسه في ليالي الشتاء القارصة الطويلة.. يذكر يوما أنه خاطب نجمه فوجده مشغولا عنه بالتسبيح لربه؛ يرى فيما يرى النائم أن خيوطا فضية مدت بينهما.. يعزف على أوتارها بانتشاء، يحاول دون جدوى أن يتخلص من رائحته النتنة ويقول في إصرار:
 يومًا ما سوف ألقي القاذورات بوجوهكم ولن تستطيع أمطار الشتاء أن تغسلكم وتزيل درنكم.

النقود الورقية تشغل كل مكان.. بقعت الأجساد.. لا تعرف الأجساد ولا العقول كيف تتخلص من شرها عندما يشعر بالضعف وقلة حيلته وهوائه على الناس يمد أصابعه.. يغرسها في اللحم الحي ويستخرج إحدى كليتيه.

بدأت شفتاه تتحركان.. ريقه الجاف يضايقه.. لا يعرف كيف يبتلعه، يحس برغبة شديدة في البصاق.. لا يستطيع.. يحاول.. لكن فمه أطبق على بعضه.. فليتخلص من كل هذا.. يهرب من الأجهزة التي تحوطه وتكبل أعضاءه، يهرول بين أروقة المستشفى.. لقد بصق على وجوههم قطعة من لحمه.. كليته اليسرى!

التهمها عجوز ثري!

لم يخبر أحد بأمره.. في وقت ما تمنى أن يبتاع لزوجته علبة من اللبن المجفف حتى يستريح الجسد الهزيل.. يقول في استحياء وهو يسند ظهره إلى سرير المستشفى:
 أيها الجالسون في ظل الشمس.. مساحة الظل لن تتسع بعد ذلك لأمثالكم.. ورق التوت لن يكفي لتغطية الأجساد المبرقشة.. سوف أمزقكم بأظافري المتسخة بالفقر، وبعدها أقطف ثمار البرتقال.. أجلس وحدي مع أطفالي نأكلها في استمتاع.. سوف أقتل أسئلتي وأرتب الأماني أمنية أمنية.

يستغيث الرجل.. بينما الثري العجوز ينشب أظافره ويغرسها في لحمه..
من في المستشفى يتفرجون عليه وهو يتقيح أمامهم!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى