الثلاثاء ١٦ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم منذر الحايك

لفائف البحر الميت 

 
 ورد ذكر البحر الميت في الكتب القديمة، ومنها التوراة، باسم بحر الملح أو بحر السديم، أو بحر عربة. ومنذ ما يقارب عام500 ق.م كان الأنباط العرب أسياد منطقة البحر الميت، وقد تمكنوا من معرفة طريقة استخراج البيتومين والقطران من مياهه، وصدروها إلى مصر حيث كانت تستخدم في التحنيط.

 وذكر أرسطو البحر الميت في كتابه «الميتيورولوجيا». وذكره أيضاً سترابون في «الجغرافيا»، وتحدث عن عمق مياهه الكبير وكثافتها، ووصف غازات البحر الميت وينابيعه الحارة. أما بليني فكان أول من سمى البحر الميت باسمه اللاتيني القديم: «بحيرة الإسفلت»، نسبة لقطع الإسفلت الطافية على سطحه، وظهرت تسميته بالبحر الميت لأول مرة في كتابات «بوسناس»، ومن بعده <غالين>. وتعد خريطة البحر الميت المنفذة بالفسيفساء في القرن السادس الميلادي، والتي عثر عليها في كنيسة أثرية بمدينة «مأدبا» الأردنية من أدق الخرائط القديمة للبحر الميت.

 وقد تردد ذكر البحر الميت في معظم مؤلفات الجغرافيين والرحالة العرب، ولكنه ورد تحت أسماء كثيرة منها: بحيرة «زُغَر»، وذلك نسبة إلى واحة نخيل تقع للجنوب منه، وفي المعقد الشعبي للمنطقة أن مدينة زغر القديمة، التي تقع في غور الصافي بالقرب من مصب وادي الحسا، هي مدينة النبي لوط، لذلك شاع له اسم آخر هو: «بحيرة لوط»، كما ورد عند ابن الفقيه والإدريسي. وكذلك سمي: بحيرة سدوم وعمورة، وذكره المسعودي وياقوت الحموي باسم: البحيرة المقلوبة والبحيرة المنتنة.

 ولم يشتهر البحر الميت لا بانخفاضه الكبير عن سطح البحر، ولا بملوحة مياهه الفائقة، ولا بطبيعته الفريدة، كما اشتهر بمخطوطات قديمة، كانت قد لفت ودست في جرار فخارية ارتفاع كل منها أكثر من قدمين بقليل، وكانت اللفائف من جلد رقيق، كل منها مؤلفة من عدة قطع موصولة ببعضها، وهي ملفوفة بنسيج كتاني. لكن منها ما كتب على ورق البردي، ومنها على صفائح نحاس. وقد ساهمت الطبيعة الصحراوية الجافة بحفظها حوالي ألفي سنة، فقد كشف فحصها بالكربون أنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي. وعرفت باسم مخطوطات البحر الميت أو بشكل أدق لفائف البحر الميت لأنها جميعاً كانت ملفوفة بشكل اسطواني.

 ولإيمان سكان المنطقة القدماء بأن الحرف كائن حي، فعندما تتآكل أو تمزق مخطوطة أو صفحة من كتاب أو يراد حفظها، ومهما كان الموضوع ديني أو غير ديني، فكانت تلف أو تدرج وتدس في الحائط أو شق في الصخر، وإذا كانت كثيرة توضع في جرة لتحفظ أو لتبلى بشكل طبيعي، حيث لا يجوز إحراقها أو رميها بل تدفن فقط في الأرض. وهذا اعتقاد شرقي قديم كان شائعاً في بلادنا حتى فترة غير بعيدة. ومثلها تماماً «الجنيزة» التي هي مجموعة الأوراق والوثائق التي لا يجوز إتلافها أو حرقها وفقا للعرف الشرقي القديم، وخصوصا إذا ضمت اسم الله بين ثناياها، وإنما يتم جمعها في غرفة معزولة ليتم دفنها فيما بعد. وكلمة الجنيزة قد تكون عبرية أو آرامية لكنها تشترك بجذر واحد مع الكلمة العربية "جنازة" التي تجسد حالة الدفن أو المدفون. ومع أن هذا السبب قد يكون مختلفاً مع لفائف قمران لكنه غير بعيد عنه، ويمكن تفسيره على أساسه.

 أثبت فرز النصوص النهائي للفائف البحر الميت أن 30% من ما كتب فيها هي نصوص توراتية، حيث تحتوي مقاطع من كل الأسفار عدا سفر إستير. و25% منها هي من نصوص دينية يهودية، مثل سفر أخنوخ وغيره. و30% منها هي تفاسير للتوراة. و15% منها لم تترجم أو لم تحدد هويتها حتى الآن. كما أن أغلب هذه النصوص مكتوب بالعبرية، والبعض منها بالآرامية والقليل باليونانية.

 اكتشفت اللفائف في عدة مراحل من الزمن، لكن في عصرنا الحالي كان أول من عثر عليها هو راع فلسطيني، ثم تتالى الكشف عليها وخاصة بين عامي 1947 و1956، وكان ذلك في أكثر من عشرة كهوف في المنحدرات العالية التي تطل على خربة قمران الواقعة في وادي قمران شمال غرب البحر الميت، إلى الجنوب من مدينة أريحا.

 كانت قمران بلدة صغيرة يعتقد بأنها دمرت بفعل زلزال عام 31 ق. م، وأعيد بناؤها عام 4 ق. م، ولكن الرومان أحرقوها عام 68 م. ولذلك يرجح العلماء أن أصحاب اللفائف لم يكونوا يعيشون في البلدة بل في الكهوف المجاورة لها، ويمكن أن يكونوا قد عاشوا في أكواخ من القصب والطين أو خيام من الجلود. وهم طائفة منعزلة على نفسها، تعيش حياة زهد وعزلة، وكان أفرادها يسمون أنفسهم: "أبناء النور"، و"أبناء العهد الجديد"، وينتظرون وصول "المخلص"، الأمر الذي يوضح اعتقاد كثير من العلماء بصلة طائفة قمران بالمسيحية الناشئة التي تبنَّت مثل هذه الاعتقادات، وترك المجال مفتوحاً لخيال المؤرخين، ولافتراضات كثيرة أهمها وأكثرها انتشاراً أن المسيحية ولدت وترعرعت في هذه البيئة.

 هذا الاكتشاف، الذي يعد من أعظم اكتشافات القرن العشرين، أعاد فتح ملف تاريخ الدين اليهودي، بل والتاريخ الديني للمنطقة بشكل عام، وقد جاءت المخطوطات، التي حققت ونشرت على مدى أكثر من خمسين عاماً، لتكشف عن جوانب مثيرة من حيث التطور التاريخي والسياسي للدين اليهودي في العصور السابقة للميلاد، وتأثره بالمتغيرات التي كانت تشهدها المنطقة، أيضاً من حيث الأفكار التي كانت سائدة في قمران والتي كانت منتشرة في عدد من المواقع خارج فلسطين.

 وجاء الكشف عن المخطوطات ليؤكد أن الدين اليهودي كان يشهد صراعاً حاداً مع بداية العهد المسيحي، يعكس المحاولة اليائسة لصياغته بشكل قومية، والتي انتهت بالفشل. ومما لاشك فيه أن الصهيونية لعبت دورا كبيراً في تأخير نشر اللفائف، وحاولت إيهام الرأي العام بأن المخطوطات تحتوي على فخ يستهدف الأديان، وبالمقابل حاولت الصهيونية جاهدة التركيز على أن هذه المخطوطات جاءت لتؤكد أصالة اليهود في المنطقة، من خلال التوجه نحو فكرة أن اليهودية هي أصل الديانات السماوية، وهو ما تثبت الدراسة المتأنية للمخطوطات عكسه تماماً.

 ونتيجة لما أحدثته اللفائف، من صراعات وبلبلة فكرية واختلافات واجتهادات دينية، ظهرت أصوات كثيرة تطالب بعدم الالتفات إليها، وعدم نشرها، لأن فيها كثير من المفاهيم التي لا تتوافق مع الفكر المسيحي السائد الآن، ولكن لأصالة هذه اللفائف فقد وضعت موضع دراسة أكاديمية وعلمية وأثرية جادة، وصدرت في أنحاء عدة من العالم سلسلة طويلة من الكتب عن لفائف البحر الميت، فيها الغث وفيها الثمين، ومنها كتاب ظهر في لندن عام 1991 بعنوان: <خديعة لفائف البحر الميت>، ربما يكون من أفضلها وأكثرها علمية وموضوعية، وهو تأليف كل من: مايكل بيجنت وريتشارد لي، وقد اتهما فيه الفاتيكان صراحة بالتدخل في عملية ترجمة ونشر اللفائف، وأنه يهدف لمنع نشر بعض ما ورد في اللفائف لأن محتوياتها سيكون لها تأثير سلبي على بعض المعتقدات اليهودية والمسيحية. كما بين الكتاب بالتفصيل نتائج سقوط المنطقة تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 على اللفائف ودراستها.

 ويضيف الكتاب:«في نهاية المطاف، تكمن الأهمية الحقيقية لهذه النصوص في الشيء الذي ستكشفه عن الأرض المقدسة، تلك الأرض التي أريقت عليها دماء الكثير من البشر لقرون عديدة، وكلها أريقت باسم الآلهة، فهذه النصوص تشير إلى أنها ربما كانت أسماء متعددة لنفس الإله».

 ونستطيع الآن أن نقول بأن لفائف البحر الميت قدمت لنا منظوراً جديداً عن الأديان السماوية التي ولدت في الشرق العربي، فقد بينت مدى تداخل هذه الأديان بل وتشابهها، وأن كل الخلافات بينها لم تنجم عن اختلاف القيم الروحية أو سوء فهمها بل نجمت عن حب السيطرة والتسلط، والجشع، والأنانية، وغطرسة سوء التفسير الوقحة، وأوضح أمثلتها في العصور الوسطى غزوات الفرنجة للأراضي المقدسة، وفي أيامنا الحركة الصهيونية التي دمرت وقتلت وهجرت سكان تلك الأرض، ولا تزال ترتكب المجازر، مدفوعة بتهيؤات رفضها اليهود أنفسهم منذ قرون طويلة، فسعت الصهيونية لإقامة دولة اليهود الدينية من خلال حركة انبعاث أصولية، تقوم على التعصب الأعمى، وعدم التسامح، والتشدد الذي ولد صحوة أصوليات أخرى كانت هاجعة منذ فترة طويلة.

 إن مفهومنا كعرب لنتائج كشف مخطوطات البحر الميت، ولكل الكشوف الأثرية في شرقنا العربي، بأنها جزء من تراث ثقافي وحضاري واحد، عاشته المنطقة العربية منذ وجودها وحتى الآن، أنتج ثقافات وأديان وحضارات متعددة ظاهرياً لكنها واحدة الجوهر والروح، منطلقها العيش بسلام والانفتاح على الآخر، وهذا ما ساعدها على تخطي الزمن والاستمرار بالحياة، وهو نفسه سيكون أداة انتحار الصهيونية التي تقيم مجتمع عنصري معزول بجدران فصل، مما يؤكد أن هذا المجتمع هو جسم غريب لا بد أن يُلفظ أو أن يذوب في محيطه، ومن يشك بذلك فعليه التأكد بدراسة محايدة متأنية لمخطوطات البحر الميت.

 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى