الاثنين ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم فرغلى هارون محمد

جذور ثقافة الاستهانة عند المصريين

كتب الدكتور سمير نعيم أحمد (أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس) مقالاً بعنوان «ثقافة الاستهانة تهديد لكيان الوطن» نشرته جريدة الشروق المصرية فى عدد 7 فبراير 2010 تعليقاً على الإهمال الذى جرى فى كارثة السيول فى مصر، مؤكداً أن فى مصر استهانة أو عدم حرص على كل شيء تقريباً؛ استهانة بموارد مصر المائية ومصادر ثروتها، واستهانة بحياة الإنسان وسلامته وصحته وأمنه وكرامته. وبعد أن ضرب أمثلة لنماذج تلك الاستهانة قال إننا: بصدد منظومة عامة من القيم الاجتماعية ذات الطابع السلبي، التى توجه سلوكيات المسئولين الحكوميين والمواطنين على اختلاف مواقعهم. وهذه القيم مهدرة للثروة القومية ومهددة لحياة البشر وسلامتهم، وفوق ذلك معوقة للتنمية وللتطور الاجتماعي بصفة عامة. ولحل ذلك الإشكال فإنه دعا لأن تتولى الجهات الحكومية والأهلية بلورة منظومة قيمية إيجابية بناءة، ووضع إستراتيجية جديدة للحلم المصرى، بما تشتمل عليه من سياسات وخطط لتنفيذه. وإذ وصف هذه الإستراتيجية بالمشروع النهضوى، فإنه اعتبرها الخطوة الأساسية الأولى لتعديل منظومة القيم الاجتماعية أو صياغة منظومة جديدة تخدم ذلك الحلم وتجسده على أرض الواقع.

وقد مثل هذا المقال بداية لظاهرة صحية تكاد تكون غائبة عن مجتمعنا المصرى بل والعربى قاطبة، وهى ظاهرة التفاعل الإيجابى مع ما يطرح من أفكار، وتبادل الحوار البنَّاء الذى يقود للتقدم. وقد فتح الأستاذ فهمى هويدى هذا الباب فى مقاله الذى نشرته أيضاً جريدة الشروق فى عدد 10 فبراير بعنوان "عن ثقافة الاستهانة"، أكد فيه اتفاقه مع الدكتور سمير نعيم على خطورة ثقافة الاستهانة على المجتمع المصرى وتهديدها لإمكانيات تقدمه ونهضته، إلا أنه اختلف معه فى مدى ودرجة مسئولية كلاً من الشعب أو الحكومة فى سيادة الاستهانة فى المجتمع. وقد انحاز الأستاذ هويدى لرأى الفيلسوف الفرنسى القديم هلفيتيوس القائل بأن السلطة هى المسئولة عن مساوئ الشعب أو محاسنه، وهذا القول له ما يصدقه فى تراثنا العربى الإسلامى فى المقولة الشهيرة «صلاح الرعية من صلاح الراعى» وإن كان لها ما يقابلها أيضاً فى مقولة« كيفما تكونوا يوَّل عليكم»، وهو موضوع خلافى على مر التاريخ، هل الأولى إصلاح الحكم والحاكم لينصلح حال الرعية، أم يجب أولاً إصلاح الرعية فينصلح بصلاحهم حكامهم. وإن كنت على المستوى الشخصى أميل إلى الرأى الأول، وهو أيضاً ما تدعمه أدبيات التنمية الحديثة التى تقرها الأمم المتحدة بالدعوة إلى الحكم الرشيد لإصلاح المجتمع. وكما قال الأستاذ هويدى فإن ثقافة الاستهانة شاعت فى المجتمع لأن السلطة استهانت بالناس وبالقانون، واعتدت على حرمة الاثنين.

كما علق أيضاً الدكتور عبد الرزاق بن حمود الزهراني أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام ورئيس الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، بجريدة الجزيرة السعودية على مقال الدكتور سمير نعيم، مؤكداً أن ثقافة الاستهانة ليست منتشرة في مصر وحدها، ولكنها موجودة في معظم المجتمعات العربية، وأولها الاستهانة بحقوق الناس في العيش الكريم، والمشاركة في صناعة القرار، وإبداء الرأي حول القضايا المختلفة.

والحقيقة أن هذه الصورة من صور ثقافة الاستهانة، لها جذورها الضاربة فى عمق التاريخ المصرى، والتى ترجع إلى عهد الفراعنة، حيث يخبرنا التاريخ، أنه رغم طغيان فرعون وتجبّره وتكبره فى الأرض، إلا أنّ قومه كانوا دائماً يصفقون له، ويهتفون باسمه، إما رهبة من جبروته أو رغبة فى ملكوته، وكان ذلك مدعاة له لأن يستخف بهم ويستهين بقدرهم ومصيرهم، فلا يقيم لهم وزناً ولا يعبأ بوجودهم، وأن يزداد طغياناً وتجبراً، فما يراه هو الصواب وما يقوله هو الحق، وليذهب الشعب كله إلى الجحيم. وهكذا توارثت النظم السلطوية النظرية الفرعونية فى الاستهانة بالبشر وبالمجتمع ومقدراته.

وبعد مرور سبعة آلاف سنة فرعونية، لازالت السلطة تمارس وتعتنق نفس الثقافة، والنتيجة تزايد ظواهر الإقصاء والاستبعاد والتهميش لغالبية فئات المجتمع وطبقاته، فباستثناء فئة ضئيلة جداً من المجتمع تتمتع بالثروة والنفوذ ونتابع أخبارها على صفحات الجرائد والقنوات الفضائية، فإن الغالبية الساحقة من المجتمع تعيش فى فقر مذل، حيث أفاد تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2009 أن معدلات الفقر فى مصر تبلغ 41% من إجمالى عدد السكان، كما جاء فى تقديرات للبنك الدولى عام 2007 أن 3.8% من السكان لا يستطيعون الحصول على الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية وغيرها من الاحتياجات الأساسية، ويعيشون فى حالة فقر مدقع، بالإضافة إلى 19.6% من المصريين فى حالة فقر، و20% آخرين على حدود الفقر. وعلى الرغم من مضى نصف قرن من القرارات الحكومية التى تضع فى صدارة أولوياتها مبدأ المواطنة والتوزيع العادل للثروة، إلا أن الفجوة بين المحظوظين والمهمشين يصعب ردمها.

وإذا كانت مشاعر الانتماء لدى الفرد لأى جماعة من الجماعات، سواء كانت صغيرة جداً كالأسرة أو كبيرة جداً كالمجتمع، إنما تنشأ وتتعمق بفعل العطاء المتبادل بين الفرد والجماعة، كما تعلمنا من الدكتور سمير نعيم، فإنه يصبح من المنطقى أن انعدام أو قلة عطاء الجماعة للفرد وعدم إشباعها لحاجاته الأساسية المادية والمعنوية، يؤدى بالضرورة إلى انعدم أو ضعف شعوره بالانتماء لها، وهنا يبدأ الفرد فى اعتناق ثقافة الاستهانة بمفهومها الشامل، فيستهين بالقانون والأخلاق وموارد الدولة وممتلكاتها، بل ويستهين بأرواح الناس وممتلكاتهم، حتى يصل إلى المرحلة التى يستهين فيها بحياته شخصياً وأمنه وأمن مجتمعه. وليس أدل على ذلك من تزايد مظاهر العنف المادى والمعنوى فى مختلف المجالات فى مصر، مما يمثل تهديداً خطيراً للسلام والاستقرار الاجتماعى.

إن استهانة الدولة بالغالبية العظمى من مواطنيها، وحرمانهم من أبسط حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقليص قدرتهم على المشاركة وحرية اختيار وتشكيل حياتهم وتنمية قدراتهم وإمكاناتهم، يحوِّل العديد منهم تدريجياً إلى خلايا سرطانية تأكل فى صمت جسد المجتمع، وتنخر فى أساساته حتى يأتى اليوم الذى ينهار فيه فوق الجميع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى