السبت ٦ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم محمد علي الرباوي

المـقـهـى1

جَسَدٌ أَصْبَحَ جُزْءاً
مِنْ هَذَا الْكُرْسِيِّ الْمَنْخُورْ.
طَاوِلَةٌ..حَطَّ عَلَيْهَا النَّادِلُ
هَذَا الإِفْطَارَ الْمُعْتَادْ:
إِبْريقَيْنِ صَغِيرَيْنِ
هِلاَلِيَةً..
فِنْجَاناً أَبْيَضَ..
مِلْعَقَةً..
قُرْصاً مِنْ سُكَّرْ..
قُرْصَيْنْ،
أَوْ أَكْثَرْ..
لَبَنٌ فِي هَذَا الإِبْرِيقِ
وَفِي الآخَرِ قَهْوَهْ.
****
هَادِئَةٌ كَالْعَادَةِ هَذِي الْمَقْهَى..
لَمْ يُقْلِقْهَا بَعْدُ شُعَاعُ الشَّمْسِ الشَّارِدِ
اَلزُّبَنَاءُ هُمُ الزُّبَنَاءُ..
مَوَاجِعُهُمْ اِرْتَطَمَتْ بِمَقَاعِدِهَا الْمَبْثُوثَةِ
بَيْنَ حَنَايَا أَضْلُعِهَا الْمُنْطَفِئَهْ
لاَ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ..
لاَ أَحَدٌ يَتَحَدَّثُ..
أَوْ يَصْرُخُ..
إِلاَّ هَذِي الشَّاشَهْ:
صُوَرُ الْقَتْلَى
وَأَنينُ الْجَرْحَى
وَزَغَارِيدُ النِّسْوَةِ..
تَمْلأُ هَذِي الشَّاشَهْ:
جَرَّافَاتٌ
بِهَدِيرِ مُحَرِّكِهَا تَنْهَارُ عِمَارَاتٌ.
قَامَاتٌ
لِلأَحْيَاءِ ولِلأَمْوَاتِ، تَصِيرُ
بَقَايَا أَتْرِبَةٍ تَحْتَ الأَنْقَاضْ.
دَبَّابَاتٌ
بِهَدِِير مُحَرِّكِهَا الْجَبَّارِ
تُزَلْزِلُ أَرْكَانَ الْمَعْمُورِ
وَأَرْكَانُ الْمَقْهَى
لَمْ يَلْحَقْهَا
هَذَا الزِّلْزَالْ.
جُثَثٌ تَتَأَجَّجُ دِيدَاناً فِي حَجْمِ الآهِ،
رَوَائِحُهَا النَّتِنَهْ
تَنْثُرُهَا الشَّاشَةُ فِي جَوْفِ الْمَقْهَى
هِيَ ذِي السَّاحَةُ تَغْلِي أَطْفَالاَ:
كُلٌّ بِيَدٍ يَحْمِلُ أَدْغَالاَ
وَبِأُخْرَى هَدَّ جِبَالاَ
وَالْعَيْنَانِ عَلَى غُصْنِ الزَّيْتُونْ
اِنْحَرَفَتْ عَيْنَايَ يَمِيناً وَشِمَالاَ :
كُلٌّ بِيَدٍ يَحْمِلُ كَأْساً
وَبِأُخْرَى هَذَا الْغَلْيُونْ
****
شَيْءٌ مَا.. اِسْتَيْقَظَ فِي الأَعْمَاقْ
أَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الدَّمْعِ
أَمِ الرَّغْبَةُ فِي الإِفْطَارْ؟
هُوَ ذَا الإِبْرِيقُ يَكَادُ أَمَامِي يَنْهَارْ
مُرْتَعِشاً يَتَقَدَّمُ نَحْوَ يَدِي الْيُمْنَى
فَإِذَا الْفِنْجَالُ يَفِيضُ دَماً
تَزْحَفُ نَحْوَ فَمِي الْمَشْدُوهِ
هِلاَلِيَةٌ بِغَلاَئِلَ حَمْرَاءَ
قَضَمْتُ..
تَساقَطَتِ الأَسْنَانُ..
ﭐنْفَجَرَ الدَّمُ مِنْ فَمِيَ الظَّمْآنْ
غَطَّى الطَّاوِلَةَ الْبَيْضَاءْ
غَطَّى أَرْضَ الْمَقْهَى..
جُدْرَانَ الْمَقْهَى..
سَقْفَ الْمَقْهَى..
كَانَتْ قَطَرَاتٌ مِنْهُ تَعْبُرُ بَابَ الْمَقْهَى
قَطَرَاتٌ..
قَطَرَاتٌ..
قَطَرَاتٌ..
غَطَّتْ أَشْجَارَ الشَّارِعِ
غَطَّتْ دُورَ الشَّارِعِ
قَطَرَاتٌ..
أَغْرَقَتِ الشُّرْطَةَ..
وَالْجُمْرُكَ
وَالْحَرَسَ الْبَلَدِي...
أَخْرَجْتُ بِكُلِّ مَرَارَهْ
مَا بِفَمِي الْمُرِّ
لَمَسْتُ حَوَاشِيَهُ بِأَصَابِعِيَ الْمُرْتَعِشَهْ
كَانَ...حِجَارَهْ !
اِلْتَقَطَتْهَا كَفِّي الْيُمْنَى بِغَضَبْ..
اِلْتَقَطَتْهَا مِنْ هَذِي الأَرْضِ
رَمَيْتُ بِهَا وجْهاً
رَسَمَتْ خَيْبَرُ كُلَّ تَضَارِيسِهْ،
وَجْهاً
لَمَحَتْهُ عَيْنَايَ ذَلِيلاً
وَهْو يُخَبِّئُ دَبَّابَتَهُ
فِي أَعْمَاقِ زُجَاجَاتٍ مَلْأَى
بِشَرَابٍ آتٍ مِنْ أَدْغَالِ رُعَاِة الأَبْقَارْ
****
أَخَذَتْنِي قَدَمَايَ بَعِيداً عَنْ هَذِي الْمَقْهَى
أَخَذَتْنِي قَدَمَايَ إِلَيَّ رَسُولاَ
أَخَذَتْنِي قَدَمَايَ..
وَجَدْتُ فَتًى أَسْمَرَ يُشْبِهُنِي
يَدْخُلُ دَاراً عَالِيَةَ الأِبْرَاجِ
أَشَارَ إِلَيَّ بِعَيْنَيْهِ:
أَقْبِلْ يَا هَذًَا الرَّجُلُ الْمَقْتُولُ قَلِيلاَ..
أَقْبَلْتُ..
جَلَسْتُ..
سَأَلْتُ..
بِصَوْتٍ يَمْلأُهُ الْخَوْفُ..
وَتَمْلأُهُ الدَّهْشَةُ:
مَنْ صَاحِبُ هَذِي الدَّارْ؟
رَدَّ عَلَيَّ سِرَاجٌ وَهَّاجْ
وَحَوَالَيْهِ تَطُوفُ فَرَاشَاتٌ
فِي حَجْمِ الْحُلْمِ الأَخْضَرِ :
هَذِي دَارُ الأَرْقَمِ.
قُلْتُ وَأَيْنَ رِجَالُ الدَّارِ؟
أَجَابَ هَدِيرُ الْيَمِّ
هُمُو حَمَلُوا الزَّادَ صَبَاحَ الْيَوْمِ
وَلَمَّا هَبَّتْ عَاصِفَةٌ
طَارَتْ تِلْكَ الْخَيْلُ بِهِمْ
قُلْتُ لَهُ:
أَلْحِقْنِي بِالْخَيْلِ
فَرَدَّ عَلَيَّ:
تَمَهَّلْ يَا وَلَدَاهُ قَلِيلاَ
خُذْ لَكَ هَذَا الْحَيِّزَ بَيْنَ فَرَاشَاتِ اللَّيْلِ
غَداً سَوْفَ تَلَقَّى مِنْ قَلْبِكَ قَوْلاً
سَيَكُونُ ثَقِيلاَ
****
كَانَتْ تَقْطَعُ هَذَا الْبَحْرَ الثَّجَّاجْ..
تَقْطَعُ هَذَا الْمُتَلاََطِمَ..
هَذَا الْجَبَّارَ.. فَرَاشَهْ.
مَا أَجْمَلَ خُضْرَةَ عَيْنَيْهَا !
مَا أجْمَلَهَا !
تَمْخُرُ هَذِي الأَمْوَاجْ !
..................
ذَاتَ غَدٍ تَسْتَقْبِلُهَا تِلْكَ الأَبْرَاجْ
وَتُتَوِّجُ رِحْلَتَهَا بِأَكَالِيلَ مِنَ الضَّوْءِ الْوَهَّاجْ
مَا أَجْمَلَ أَلْوَانَ جَنَاحَيْهَا !
مَا أَجْمَلَهَا !..
رَدَّدَ مَا أَجْمَلَهَا كُلُّ الأَحْبَابْ.
هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَفْتَحُ هَذِي الأَبْوَابْ
وَيُغَادِرُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فِرَاشَه؟
أَصْغَرُهُمْ حَدَّقَ فِي وَجْهِي بِبَشَاشَه
قَالَ: أَنَا.
(...................)
رَكِبَ الْبَحْرَ وَطَهَّرَ بِالرَّعْدِ الصَّدْرَ
وَكَانَتْ يَدُهُ تَحْمِلُ رَشَّاشَهْ
****
اَلْمَقْهَى هَادِئَةٌ كَالْعَادَهْ..
مَا زَالَتْ كُلُّ مَقَاعِدِهَا
تُصْغِي يَا قَلْبِ إِلَى أَحْلاَمِ الزُّبَنَاءْ
مَا زَالَتْ هَذِي الشَّاشَةُ
تَنْشُرُ أَوْجَاعاً
مَازَالَ رَشِيدٌ قُرْبَ الْبَابِ
يُعَرِّضُ رِجْلَيْهِ الْمُتَوَرِّمَتَيْنِ عَلَى
شَلاَّلاَتِ الشَّمْسِ
وَيَشْرَبُ قَهْوَتَهُ السَّوْدَاءَ بِلاَ سُكَّرْ
مَا زَالَ عَلِيٌّ يَجْلِسُ فِي الرُّكْنِ الأَيْسَرْ
وَهِلاَلِيَةٌ تَلْمَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَفِي شَفَتَيْهِ
تُرَفْرِفُ فَرْحَتُهُ الْعَطْشَى
مَا زَالَ النَّادِلُ يَحْمِلُ أَطْبَاقَ الإِفْطَارَ الْمُعْتَادَهْ
غَدَّاءٌ..رَوَّاحٌ.. بَيْنَ مَقَاعِدِ هَذِي الْغَابَةِ
يَزْرَعُ بَسْمَتَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ
يَتْرُكُهَا تَسْرَحُ بَيْنَ وُجُوهٍ
أَذْبَلَهَا الرُّعْبُ وَأَذْبَلَهَا الضَّوْءُ
وَفِي رِئَتَيْهِ يُخَبِّئُ أَشْعَاراً
كَانَ وَمَا زَالَ بِهَا يَبْكِي ﭐمْرَأَةً
مُتَبَرِّجَةًً كَانَتْ بِغَلاَئِلِهَا
تَحْتَلُّ قَرَارَةَ مَوْجَتِهِ الْمُلْتَهِبَهْ
........................
فِي الرُّكْنِ الأَيْمَنِ،
قُرْبَ النَّافِذَةِ الْمَفْتُوحَةِ
طَاوِلَتَانِ.
لَمْ يَلْحَقْ بِالطَّاوِلَتَيْنِ زَبُونَانِ أَلِيفَانِ
عَزِيزَانِ عَلَى النَّادِلْ
هُوَ ذا يَحْمِلُ فِنْجَانَيْنْ
يَضَعُ الْفِنْجَانَيْنِِ الْمُمْتَلِئَيْنِ عَلَى الرَّفّْ
يَتَحَرَّرُ مِنْ بِذْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ
يُحَدِّقُ فِي قَسَمَاتِ وُجُوهِ الزُّبَنَاءِ
شَفَتَاهُ تَرْتَعِشَانِ يَمِيلُ إِلَى الْبَابِ قَلِيلاً
يَدْنُو مِنْهُ..
يَفْتَحُ مِصْرَاعَيْهِ
وَ لِلرِّيحِ الْغَضْبَى يُسْلِمُ سَاقَيْهْ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى