الخميس ١١ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم منذر الحايك

الفاطميون في الشام

بدأت الدعوة الفاطمية في بلاد المغرب لبعدها عن مركز الخلافة العباسية، وكانت واحدة من دعوات الشيعة العلوية التي لم تهدأ للمطالبة بحق الأئمة من آل البيت بحكم الدولة الإسلامية. وكان جميع الشيعة يعتقدون: «بأن الخلافة لم تصح ولن تصح لغير أهل البيت من أولاد علي»، «وأن الله لا يترك خلقه بدون إمام حق هو المهدي المنتظر، الذي يبيد المغتصبين ويحيي مجد بيت رسول الله»، وقد أنكر عليهم بقية المسلمين ذلك.

ينتسب الأئمة الفاطميون لأهل البيت عن طريق الإمام السابع إسماعيل بن جعفر الصادق، فهم شيعة من الفرقة الإسماعيلية، وكانت تسميتهم نسبة إلى فاطمة الزهراء ابنة الرسول العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ويرى بعض المؤرخين أن نسبهم كان منحولاً، لذا يفضل أغلب علماء السنة كابن حزم الظاهري الأندلسي في كتابه جمهرة أنساب العرب أن يطلقَ عليهم لقب «العبيديون»نسبة إلى جدهم عبيد الله، على أن المقريزي في البيان والإعراب وفي اتعاظ الحنفا، وكذلك ابن خلدون في تاريخه، يجزمان بصحة نسبهم الحسيني الهاشمي.

كانت الحركة الإسماعيلية في أول الأمر سرية خوفاً من اضطهاد العباسيين لأتباعها، وقد مرت بعدة أدوار:

1ـ دور الستر: من موت إسماعيل عام 143ه‍ إلى ظهور عبيد الله المهدي، وقد اختلف في أسماء أئمة هذه الفترة بسبب السرية المطلقة التي اعتمدتها الدعوة.

2ـ بداية الظهور: بدأ ظهور الدعوة عندما أسس الداعية الحسن بن حوشب الدولة الإسماعيلية في اليمن سنة 266ه‍، تلا ذلك ظهور رفيقه الداعية علي بن فضل، الذي ادعى النبوة وأعفى أنصاره من الصوم والصلاة. وامتد النشاط الإسماعيلي من اليمن إلى بلاد المغرب بواسطة الداعية أبا عبد الله الشيعي الصنعاني الذي اكتسب شيوخ قبيلة كتامة البربرية إلى دعوته، وتمكن سنة 280 هـ - 893 م بمساعدة هذه القبيلة القوية من القضاء على دولة الأغالبة.

3ـ دور الظهور: بدأ بظهور عبيد الله بن محمد، وهو من نسل جعفر الصادق، الذي كان مقيماً في سلمية بأواسط سورية، وتسلل منها إلى بلاد المغرب، معتمداً على أنصاره الكتاميين. وكان يدعي أنه المهدي المنتظر، ومن أول أعماله أن قتل داعيته أبا عبد الله وأخاه أبا العباس لشكهما في شخصيته، وقولهما أنه غير الذي رأياه في سلمية، ويقال أنه خشي أن ينازعه سلطانه فقتله غدراً مع أنه هو الذي أتى به إلى تلك البلاد، داعياً لخلافته محارباً لاستتباب سلطانه.

أقام عبيد الله المهدي أول دولة إسماعيلية في المغرب، وكانت عاصمته القيروان ما بين: 909-920 م، ثم أسس مدينة المهدية في تونس لتكون عاصمته الخاصة ما بين: 820- 973 م، وأعلن أنه الإمام والخليفة الشرعي، وبذلك صار في ذلك الوقت ثلاث خلفاء للعالم الإسلامي، العباسي ببغداد، والأموي بقرطبة، والفاطمي بالمهدية.

سيطرت الدولة الفاطمية على تونس والجزائر والمغرب وليبيا وصقلية، وكان من أكبر أماني عبيد الله المهدي احتلال مصر فأرسل لغزوها ثلاث جيوش على ثلاث مرات، كان اثنان منهما بقيادة ابنه أبي القاسم، فحال دون نجاحه في احتلالها مرة تفشي المجاعة في المغرب، ومره أخرى تفشى وباء في الجيش المرسل، والذي انتقلت العدوى منه بعد عودته إلى أهل المغرب، ثم انشغل عبيد الله في تدبير الأمور الداخلية بقية حياته. وفي سنة 322هـ - 934م خلفهُ ابنه الكبير أبي القاسم محمد، وقد لقب باسم: القائم بأمر الله، وحاول القائم توسيع نطاق ملكه، فأنشأ أسطولاً كان يغير باستمرار على شواطئ إيطاليا وفرنسا والأندلس، ولم ينس حلم أبيه في احتلال مصر فأعد جيشاً قوياً وأرسله لفتحها، ولكنه هزم أمام الجيش الذي قادة الإخشيد حاكم مصر، ثم أعاقته ثورة في الداخل قادها أبى يزيد الخارجي الذي نازعه الملك، ولم يستقر الأمر له وكان حكمه مزعزعاً حتى أواخر أيامه. ثم خلفهُ المنصور إسماعيل سنة 334هـ - 946م، فقهر الخارجي وأمضى بقيه حياته في الاهتمام بترسيخ حكمه. ولم يحاول الفاطميون احتلال مصر حتى تولى الخليفة الرابع المُعزٌ لدينْ الله أبو تميم مَعَدٌ بن إسماعيل.

لقد كانت أيام المعز لدين الله بداية مرحله جديدة في تاريخ الفاطميين، فقد امتاز بحسن إدراكه للأمور، وكان له بلاغه نادرة فكان يرتجل الشعر العربي، وكان على دراية كبيرة بكثير من اللغات، كما كان سياسياً داهية، وكريماً حريصاً على العدل، وشديد التمسك بأهداب الدين وقواعده. واتبع الخليفة المعز خطة آباؤه وأجداده، فبدأ بتوطيد دعائم حكمه في المغرب حتى دانت له جميع القبائل فيها، وخضعت له مراكش بأكملها حتى شواطئ المحيط الأطلسي. ثم وضع نصب عينيه احتلال مصر، ودرس الأسباب التي أدت إلى فشل الحملات الفاطمية السابقة، فحفر الآبار وبنى أماكن استراحة في الطريق المؤدى إلى مصر.

كان الإخشيد يحكم مصر في ذلك الوقت نيابة عن الخليفة العباسي، فلما مات خلفه ابنه قاسم وكان لقبه أنوجور، ولكونه صغير السن فقد تولى الوصاية عليه عبداً حبشياً اسمه كافور، ومات قاسم في ظروف غامضة وكذلك أخيه أبو الحسن فأستقل كافور بالحكم، إلا أنه لم ينعم طويلاً بالملك فكان لديه ما يكفيه من الأعداء في الخارج ومن القلاقل في الداخل، ويصف الشيخ شمس الدين الذهبي في تاريخه حالة مصر بقوله: (وطمع الفلاحون في الجند وامتنعوا عن وزن الخراج، فعند ذلك كتب أعيان مصر إلى المعز لدين الله الفاطمي وكان في بلاد الغرب بأن يحضر للبلاد المصرية). وفي الحقيقة لم يكن المعز ينتظر هذه المكاتبات أو يحتاجها ليفكر بغزو مصر، فقد كان يتحين الفرص لذلك، ونتيجة انهيار الدولة الإخشيدية بعد وفاة كافور، في الوقت الذي كان فيه الخليفة العباسي منشغلاً بصد غارات القرامطة، تمكن الفاطميون من تحقيق حلمهم في السيطرة على مصر.

أرسل المعز لدين الله أكبر قواده جوهر الصقلي بجيوش المغرب، ويقال أن عددهم كان يناهز مائه ألف مقاتل مزودين بأكمل الأسلحة، ووضع المعز تحت تصرف جوهر مبلغ أربعة وعشرين مليون دينار، فتوغلوا في أرض مصر بلا قتال، وبزمن قصير احتل مدينة الإسكندرية، ثم زحف على الفسطاط واستولى عليها سنه 358هـ 969م دون أي مقاومه تذكر، فتحولت مصر من إحدى ولايات الخلافة العباسية إلى ولاية تابعة للخلافة الفاطمية، التي أصبحت تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً. ولما استتب الأمر لجوهر خفف الضرائب وشرع في إصلاح شئون البلاد فحل الأمن. ثم قام بتخطيط مدينة شمالي الفسطاط على نحو ميل من النيل، تقع بين الفسطاط وعين شمس، فأحضر العمال وأشاد القصور والدور الجميلة والحدائق الغناء، وبنى فيها قصرين كبيرين للخليفة، كما بنى الجامع الأزهر، الذي هو مفخرة الفاطميين، ليكون معهداً لتدريس العلوم الإسلامية، ومركزاً للدعوة الشيعية. وأحاط المدينة بسور لحمايتها، وعندما أكمل بنائها في ثلاث سنين أسماها القاهرة.

ثم علم جوهر أن الشوام يستجمعون قواهم ليعاودوا غزو مصر، فبعث إلى الخليفة المعز يطلب إليه أن يحضر بنفسه إلى القاهرة بعد أن أتم بنائها، ليتخذها عاصمة بدلاً من المهدية، ليكون على مقربه من الشام التي لا يطمع حكامها في الانفصال عن مصر فحسب بل يراودهم الأمل في أن يستولوا عليها أيضاً، فرأى المعز الحكمة في هذا الطلب، وحضر إلى مصر في موكب حافل جمع بين وزرائه وقواد جيشه وجنوده، وقد سار بعض الجند خلفه وهم يحملون توابيت تضم رفات أجداده الذين رأى أن تضمهم أرض مصر لإثبات حقه الوراثي في الخلافة وتدعيم أصوله العلوية الهاشمية. وصل المعز إلى القاهرة في شهر رمضان عام 362 هـ 973 م، ونزل في القصرين، مما يعني أن مصر أصبحت مقرا لدار الخلافة الفاطمية.

عندما دخل المعز القاهرة شك أهل مصر في نسبه ولغط الناس بأصله، فمنهم من نسبه إلى آل البيت، ولكن الأغلبية قالت أنه من أصل مجوسي، حتى أن أشراف مصر وكبارها قالوا له:«إلى منٌ ينتسب أمير المؤمنين؟ .. فقال لهم: سنعقد مجلساً وندعو فيه كل من يريد أن يعرف نسبنا ونسرده عليكم»، وفى اليوم المحدد دعا كبار مصر وشيوخها إلى قصره في مجلس عام وجلس معهم ينتسب، فلم يقنع النٌساُبة بصحة سلالة نسبه إلى آل البيت، فسَل نصف سيفه، وقال: «هذا نسبي، ثم نثر عليهم ذهباً، وقال: هذا حسبي ودليلي، فقالوا: سمعنا وأطعنا».

التوسع نحو الشام:

أقام جوهر الصقلي أربع سنوات بعد فتح مصر عمل خلالها على تنفيذ الخطة الفاطمية التي من أجلها فتحت مصر وهى توسيع الدولة ناحية الشرق، فأخضع بلاد النوبة وأخذ منها الجزية، وما لبث أن دانت له الحجاز، كما اعترف الحمدانيون الشيعة له بنوع من السيادة على إمارتهم في حلب، أما دمشق فقد كان أهلها مناوئين أشداء فأرسل جوهر حملة وتمكن من احتلالها، ولم يدر أنها ستكون مصدر خطر داهم عليه كاد ينزعه عن مصر بكاملها.

وفي الحقيقة فإن فترة السيطرة الفاطمية على دمشق تعد فترة غامضة ومحزنة وغريبة من تاريخ هذه المدينة، حيث ساد حكم وتحكم البربر والبدو والقرامطة بحاضرة عريقة، وتعرضت لهجومهم ونهبهم وتدميرهم وإحراقهم لها، ولكن إرادة الحياة لدى سكان دمشق، في ذلك الوقت، هي الأغرب، وذلك من خلال تمسكهم بمدينتهم، ودفاعهم المستميت عنها، والمحزن في الأمر هو اضطرارهم للرضوخ مراراً أمام قوى عسكرية أقوى من قدراتهم بكثير تنتهك حرمة مدينتهم، لذلك اتفق أهالي دمشق مع القرامطة، الذين لم تمنعهم عن ذلك وحدة العقيدة بينهم وبين الفاطميين فكلاهما من الشيعة الإسماعيلية.

وبحال غياب الزعامة الوطنية الرسمية نرى أنه من عمق الفقر والجهل، من صفوف طبقة العامة التي لا تعرف إلا دمشق ومحبة دمشق، تبرز شخصيات شعبية قادرة على قيادة الناس البسطاء، وبأقل قدر ممكن من التنظيم والتسليح تحقق انتصارات، وتظهر مواقف لا تنسى وبطولات، قد تبدو بلا جدوى، لأبطال مجهولين قتلوا على أسوار دمشق، أو في أزقتها، لم يطلبوا حكم ولم يعرفوا السياسة قط، بل آمنوا بدمشق ودافعوا عنها بأرواحهم.

تربع وال فاطمي في دمشق يدعو لخليفة مصر ويحكم ويطبق الأحكام باسمه، وأخذ الفاطميون من الشام بنشر دعاتهم في شرق الدولة العربية الإسلامية، يُرَوِّجون للمذهب الشيعي الإسماعيلي بشكل نشط ومنظم، وانتشر الدعاة في لكسب الأنصار ولإضعاف نفوذ الخلافة العباسية. ومع امتلاك الفاطميون لقوى عسكرية كبرى، وامتلاكهم آلاف الدعاة وجهوهم في حرب دينية تواكب حروبهم السياسية والعسكرية ضد العباسيين، فالنتيجة لن تكون في صالحهم، وسيستعيد المذهب السني فاعليته، وسيضطر الفاطميون للتراجع سياسياً ومذهبياً.

كانت الشام قبل قدوم الفاطميين ولاية عباسية اسمياً تحت السيادة الإخشيدية فعلياً، ويلي أمرها شمول بن عبد الله نيابة عن الحسن بن عبيد الله بن طغج الإخشيد. فأعدَّ الفاطميون جيشاً بقيادة جعفر بن فلاح الكتامي، فسار إليها وهزم شمول وأسره. فبعث إليه أهل دمشق وفداً لطلب الأمان، فأساء جنوده مقابلة الوفد وسلبوهم ثيابهم، فقرروا المقاومة وتولّى محمد بن عصودا، وهو أحد زعماء الأحداث، أمر تنظيم الدفاع، وصمد الدماشقة عدة أيام حتى انهزم القاسم بن أبي يعلى وهو قائد مشهور من أشراف دمشق. فخرج وفد إلى جعفر يطلبون الأمان، فاشترط عليهم أن يخرجوا مع نسائهم مكشوفات الشعور، ويتمرغن في التراب أمامه فأجابوه، ولما دخل دمشق نهب جنوده المدينة ورد الناس بقتل كثيراً منهم، فتوعَّدهم فلاح بحرق المدينة، لكنهم أرضوه بالأموال الكثيرة.

ولكن تكرر نهب الجنود وانتهاكهم لحرمات البيوت، فقامت ثورة بزعامة ابن أبي يعلى الذي جمع أحداث دمشق وأبطل خطبة المعز الفاطمي. عمل جعفر حتى قبض على زعماء الثورة: ابن أبي يعلى وإسحاق بن عصودا، وهرب محمد بن عصودا وظالم بن موهوب العقيلي يستنجدا القرامطة في الإحساء فوافقوا على نجدتهم. وبالفعل توجَّه الحسن بن أحمد زعيم القرامطة إلى دمشق سنة 360 هـ 970 م فهزم جعفر بن فلاح وقتله. فأرسل الفاطميون جيشاً إلى دمشق سيطر عليها من جديد، لكن الثورة سرعان ما عادت أثر مقتل جندي مغربي، فتزعم ابن المارود الحرب ضد المغاربة الذين أحرقوا دور المدينة، ووجَّهوا نقمتهم ضد السكان دون تمييز.

في سنة 364هـ 974 م سمع أهل دمشق بوصول القائد التركي أفتكين إلى حمص فطلبوا مساعدته، فتوجه إليها وطرد واليها ريّان الخادم وقطع خطبة المعز، ودعا للخليفة العباسي. في هذه الأثناء توفي المعز وتولى ابنه العزيز الخلافة، فوجَّه اهتمامه لاسترداد الشام، وسير جوهر لمحاربة أفتكين، واستعرت الحرب بين أفتكين وجوهر حول دمشق، وخاض الطرفان اثنتا عشرة معركة، منها وقعة الشاغور التي تعرّض فيها جوهر لخطر الهزيمة، غير أنه جمع جنده وتمكن من التغلب على أفتكين وحاصره بدمشق، فقام الدماشقة بالاستنجاد بالحسن بن أحمد زعيم القرامطة، فلبّى الدعوة وسار إلى دمشق، عندها رفع جوهر الحصار ورحل إلى مصر ليحرض العزيز على استرجاع الشام.

خرج العزيز ومعه جوهر بجيوش مصر والتقى بأفتكين والقرامطة حيث هزمهم وهرب أفتكين. وبعد عودة الجيش المصري تغلَّبَ على دمشق رجل من بني الحارث اسمه قسّام التراب، كان صديقاً لابن الجسطار وهو أحد رؤساء الأحداث، كما كان قد استخدمه أفتكين واعتمد عليه في دولته، وكثر أعوان قسام حتى غلب على دمشق. ولما بعث العزيز إلى دمشق والياً من العرب يقال له حميدان بن جوّاس العقيلي فغُلب حميدان على أمره، ثم طرد ونُهبت داره، وتجمَّعَ الأحداث حول قسّام وصار صاحب الأمر والنهي.

وحكم قسّام مدينة دمشق مستقلاً باسم الفاطميين، واستتب حكمه حتى أنه ورد عليه بعض الشعراء ومدحوه، ومنهم عبد المحسن الصوري. لذلك فإن قسّام وجماعته من الأحداث أصابهم الغرور فأساءوا السيرة في أهل دمشق فكرههم أهلها. حتى أن الخليفة العزيز رأى ضرورة التخلص من قسام، فأرسل جيشاً بقيادة بلتكين التركي سنة 372 هـ 982 م فحاصر دمشق، ثم دخلها دون أن يتعرض لأحد، وبعث بلتكين بقسام إلى مصر، فعفا عنه العزيز.

وعادت الفوضى لتعم مدينة دمشق من جديد عندما قامت جماعة الأحداث بالاستيلاء على المدينة بقيادة الدهيقين والتحكم بها. ولم تجد الدولة الفاطمية حلاً لتسلط أحداث دمشق إلا بواسطة واليها جيش بن محمد بن الصمصامة، الذي دخل دمشق سنة 390هـ 999م وسعى لطمأنة رؤساء الأحداث، ثم غدر بهم أثناء تلبيتهم لدعوته على وليمة أقامها لهم، وأمر بضرب رقابهم، ثم قبض على أشراف دمشق ووجهائها وسيرهم إلى مصر، بعد أن استولى على أموالهم، كما فرض غرامة كبيرة جداً على المدينة، فتلاشت بذلك قوى الأحداث، وافتقرت المدينة للزعماء.

لقد رفض أهل دمشق السيادة الفاطمية وقاوموها منذ البداية، وتحوَّل أكثر سكانها إلى محاربين يتصدون لاعتداءات الجنود المغاربة، واشترك في هذه المقاومة كل أهل دمشق: أشرافها وأحداثها. فقد عانت دمشق خلال حكم الفاطميين من مصاعب جمة، ورغم أن الفاطميين سعوا بكل إمكاناتهم لتثبيت سلطانهم فيها، إلاّ أن حكمهم كان دائماً ينقصه الاستقرار. ربما بسبب الخلافات المذهبية عجز الفاطميون عن كسب أهل دمشق، كما أسهم الولاة الفاطميون بسوء سيرتهم على ازدياد الخلاف، إضافة لسوء سلوك الجنود المغاربة واعتداءاتهم المتكررة على أهل المدينة، ولهذا حتى عندما كان الفاطميون يفرضون سيادتهم بالقوة يبقي الوجود الفاطمي مهدداً وضعيفاً.

في هذه الظروف قدم السلاجقة الأتراك إلى الشام، حيث وجه السلطان السلجوقي ملكشاه القائد آتسز الخوارزمي لاحتلال الشام، فحاصر دمشق التي سلمت له بالأمان، فدخلها سنة 468هـ 1075م وخطب للخليفة العباسي. ولم يكن آتسز بأفضل من ولاة الفاطميين في معاملة أهل دمشق، فقد نزل جند التركمان دور المدينة وأخرجوا أهلها، واغتصبوا أملاكهم، فكره الشوام أتسز مثلما كرهوا جيش بن الصمصامة من قبل، فلعنوه وابتهلوا إلى الله بهلاكه.

وللحقيقة لم يكن النصر على الفاطميين في الشام عباسياً، فمع الحرب المعنوية التي شنها العباسيون ضد الخلفاء الفاطميين باتهامهم بادعاء النسب العلوي، وبأنهم لا يمتون للعرب بأي صلة، ومع كل الاحتياطات الأمنية التي اتخذوها ضد دعاتهم، فقد كان النصر سلجوقياً، إذ واكب المد الفاطمي تدفق قبائل الترك نحو أراضي الدولة العباسية، وبما أنهم أسلموا حديثاً واتبعوا مذهب السنة فكان لهم اندفاع المؤمنين الجدد، وبموالاتهم وإخلاصهم للخلافة وسلفيتهم وتعصبهم لعقيدتهم، قاموا بالتصدي للفاطميين عسكرياً وعقائدياً. كذلك جاءت صدمة الغزو الفرنجي لبلاد الشام التي ساعدت على انبعاث يقظة سنية عامة قادها الفقهاء والمتصوفة الذين اعتبروا أن الفاطميين سلموا البلاد للفرنج وفاوضوهم على اقتسامها، أو على الأقل تقاعسوا في الدفاع عنها وهم حماتها.

لكن من ناحية أخرى أدى دخول السلاجقة الأتراك إلى سورية لقيام العديد من المشاكل على كافة الصعد، إضافة إلى عجزهم عن التصدي بشكل حاسم للفرنج، ومع وجود أساس عقائدي شيعي خاصة في شمال سورية، كل ذلك مهد لنجاح فرع جديد للدعوة الفاطمية كان ينتقد الدعوة القديمة لذلك عرف بالدعوة الجديدة أو الفرع النزاري الذي التف حوله عدد لا يستهان به من الأتباع في الشام، فقد انقسم الدعاة الفاطميون إلى نزارية ومستعلية بعد وفاة الخليفة المستنصر بالله سنة 487هـ، والسبب في هذا الانقسام أن المستنصر أوصى لابنه الأكبر نزار، لكن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي لم يقبل به، وأعلن خلافة المستعلي أخاه الأصغر وهو ابن أخت الوزير في الوقت نفسه، وقام بإلقاء القبض على نزار ووضعه في سجن وسدَّ عليه الجدران حتى مات. ونتيجة ذلك تشيع بعضهم للمستعلي وظلت مصر مركزهم الرئيس، وانتشر منها هذا الفرع إلى اليمن، وحتى الهند حيث عرفت هناك منهم جماعة البهرة. وتشيع آخرون لنزار، واتخذوا بلاد المشرق ميداناً لهم، وأسسوا الدعوة الجديدة، ومنها امتدت نحو شمال العراق ومنها إلى سورية. وقد أسس الدعوة الجديدة الداعي الحسن بن الصباح الذي جعل في عام 483هـ 1090م مقره في قلعة ألموت الواقعة على إحدى قمم جبل ألبرز في بلاد فارس. استغل الحسن الصباح الخلافات السياسية ليدعم مذهبه الجديد في قلب الشرق الإسلامي، ولأنه لم يستطع أن يتغلب على الأطراف الأخرى، فقد غدا طرفاً جديداً من أطراف الصراع، كان له الدور الأكبر في إضعاف قوة الشرق الإسلامي، والتمهيد للسيطرة الخوارزمية ثم المغولية عليه.

وبمرور الوقت أخذت الأخطار تحيط بالدولة الفاطمية إذ بدأ من ناحية يزداد خطر الدولة السلجوقية التي استطاعت إنهاء سلطان الفاطميين من بلاد الشام، ومن الناحية الأخرى ازداد خطر الفرنجة ببلاد الشام الذين استطاعوا القضاء نهائياً على نفوذ الفاطميين بهذه البلاد، كما أنه من ناحية ثالثة انتهي حكم الفاطميين من بلاد المغرب لاستقلال ولاتهم بها، وبذلك لم يبق للدولة الفاطمية سوي حكم مصر.

ازداد الموقف سوءاً في الدولة الفاطمية حين بدأ الفرنجة بالطمع في مصر نفسها، مع بقاء الخطر السلجوقي ماثلاً بعد قيام الدولة النورية، حيث استولي نور الدين بن عماد الدين زنكي على دمشق سنة 549هـ 1154م وعمد إلى الوقوف بوجه مطامع الفرنجة بمصر، ثم تطورت الأحداث باضطراب الموقف الداخلي في مصر حين سمح الوزير الفاطمي ضرغام للفرنجة بالتدخل في شئون الدولة الفاطمية، بل ورضي بدفع المال ضماناً لمساعدتهم ضد منافسه على الوزارة والي الوجه القبلي شاور، الذي طلب بدوره مساعدة نور الدين زنكي، فأصبحت مصر بذلك مسرحاً لجيوش الفرنجة وجيوش نور الدين، فكان قائد جيوش الفرنجة الملك أموري الأول، على حين قاد الجيوش النورية أسد الدين شيركوه الأول وابن أخيه يوسف بن نجم الدين أيوب الذي عرف فيما بعد باسم الناصر صلاح الدين، وتم النصر لجيوش شيركوه بعد مقتل ضرغام ثم التخلص من شاور، وعين الخليفة الفاطمي العاضد شيركوه في الوزارة ثلاثة أشهر توفي بعدها سنة 1169 م، فعين الخليفة ابن أخيه صلاح الدين يوسف في الوزارة بدلاً منه، وبموت آخر الخلفاء الفاطميين انتهت الدولة الفاطمية من مصر وقامت الدولة الأيوبية فيها، وبذلك ضمت دمشق لأول مرة في تاريخها مصر إليها.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى