الأحد ١٤ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم أشرف الخريبي

حرية التعبير والاستبداد المزمن في مُخيلة الحاكم

ألا أيهـا الظَّـالـمُ المستـبـدُ حَبيبُ الظَّـلامِ، عَـدوُّ الحيـاهْ

تظل هذه الصورة القاتمة للظلم المقترن بالاستبداد المؤسس علي ظلمة المجتمع،لا شك - تمضي لا حياة لها، فهي قرين موت الأمم، تلك الصورة الفاشية التي تغني عن مشهد الواقع الاجتماعي في مواجهة دائمة مع حرية التعبير وممارسة هذا الحق بعدل لا يشفع فيه ظلم، تبقي دوما في مُخيلة الحاكم واحدة من الصور التي تتبني أحكامه وتّحكمُه في مصير الشعوب، علي اعتبار أنها الدرع الواقي لوجوده الدائم، وعلي اعتبار أنها الصفة اللصيقة وخيال الظل الذي لا غني عنه، يلوح بالقوة تارة ويقترن بألوان من القهر والصلف والغرور تارة أخري، صور شتي ليس لظلمات لا تنتهي وفقط -متي شاء دون رادع-
ولكنها أكثر ترويعا من ذلك، بين هذا وذاك رحى الحنين، عزلة وفضاء موت، كتابة علي الماء، لغة تفيض بالشك من تجويف الظلم، وأيد مقهورة تلوح بعدالة الرأي واستبداد الظالم الذي لا عدالة له، كل هذا يعكس اضطرار الحاكم للتسليم بسيادة هذه القيمة الأساسية في منظومة حقوق الإنسان، إلا أنه تترسب في مُخيلته دوما أن فكرة الاستبداد هي التي تمنح له السيطرة والقوة في المدى القريب علي الأقل لمواجهة حرية التعبير عند المظلومين والمضطهدين وعموم الرأي العام. 

غير أنه بهذا المنطق الخرافي العاجز أداة عاجزة تقهرها علي الأقل في لغة الحوار حريتي في قول الحق بالعدل نفسه والأنصاف الذي يبني للظلم قبره الدائم، ليتلاش صوت الظالم إلي مالا نهاية في مواجهة هذا الصراخ العلني للعدل والحق لأن صوته يظل جهارا دوما،

بهذا الكلمات الشجية يمكن أن تسري في نفوسنا مدي ما يؤطر له الاستبداد من فاشستية مجحفة، في مناخ من الجهل السياسي الذي ساد عبر التاريخ، ولم يزل في مجتمعات كثيرة حريص علي العزلة فلا يسمع الأخر، نوع من الديكتاتورية العقائدية. والفكرية المستلهمة من مُخيلة مهترئة كالفاشية والنازية، معتمدة علي حاجات المجتمع الملحة وأوجاعه المزمنة من فقر وجوع وأمية، افتقادا للوعي باللحظة، خوفا من سقطات الماضي ونظرة تشاؤمية للقادم المخيف دوما. 

فالاستبداد فكرة أحادية الجانب مهيمنة بذاتها، علي مُخيلة الحاكم، فلا هو يستطيع التخلي عنها ولا يستطيع العيش بدونها، صورة من صور القمع الفكري والتخلف السياسي والجهل الاجتماعي فهو يعتبر فكر التغيير والرأي المتعدد عدوه الأساسي، لنري ما هو قابع خلف قيم التسامح والمساواة التي يحملها الدين فعلى الرغم أن الأديان تؤكد علي مفهوم الحريات حتي في الاعتقاد نفسه نري بعض المؤسسات الدينية التي تحاول طرح هذه الصورة جانبا باستغلال بعض المفاهيم الدينية التي تحتمل صورا متعددة، وإغلاق هذه المساحة المتاحة لعقل الإنسانية لتدبر أمره كل في واقعه ومجتمعه وحسب حاجاته، هي مساحة المباح للإنسان في تاريخ كل الأديان، هذا الموقف الذي كان وليدا لحالة الاستبداد الممارس من جانب الحاكم أصلا، مما ضاعف من هذه القيمة لدي هذه الفئة وغيرها بحجة الحقيقة المطلقة، وهي عائدة لتسلط الحاكم نفسه.لنري أيضا
الاستبداد الفكري الذي هو آفة الفكر، تتحول المجتمعات من خلاله إلي أمراض مُستعصية الحلول من التعصب الأعمى ورفض الأخر وفرض الآراء إلي التناحر والتشدد والتلفيق ومظاهر الخديعة التي بلا معني، فهو إصابة المجتمع البشري بالهزيمة الدائمة، فالبشرية عبر تاريخها الطويل والمضني في ذات الوقت لم تعرف أزمات بقدر ما كان لهذا النوع من الاستبداد من أثار وخيمة علي البشرية في كونه يخلق أجيالا متتالية من المتعصبين والمستبدين،

إن الاستخدام الفاعل والمؤثر لحرية التعبير هي التي تجعل الحاكم يقف دوما في مواجهة مع الحرية بشراسة بغية رفضها ولكبح قوتها وتأثيرها علي المجتمع، لا جدال في أن الرأي الحر والصادق في نفس الوقت يلعب دورا مركزيا في عالمنا. ليعيد تشكيل هذا الواقع، أنه وبكل بساطة وسيلة لصنع القرارات السياسية وما يستتبعها من قرارات أخري تؤثر علي مصير الأمم، لتصنع رأيا حرا ينهض بالأمة وبالتالي يهدد حصون الاستبداد وقلاعه المُحتكرة لمختلف وسائل القمع والسلطوية، والموجه للثقافة السياسية التي تساعده على إشاعة ثقافة الاستبداد في أعماق المجتمع، فهي تبقي متلازمة مع ثقافة المستبد كأداة للسيطرة تنخر في أعماق الواقع حتي ليتحول إلى حد اعتباره فكراًً، متوارثا ومتحولا إلي أنواع مختلفة من الاستبداد لتظهر براثنه وأشكاله المختلفة لصور من الاستبداد الاجتماعي والثقافي والديني وهيمنة جماعات تتدخل في كل شيء. ليتواري الجدل الحر وقيم الاختلاف.. وتحل محله ثقافة الطاعة والانصياع التي تمارسه مثل تلك الجماعات.

 في ظل الاستبداد تتوقف عطاءات الإنسان بشكل مُطلق ويتوقف نمو المجتمع وتبقى آثار ذلك إلى مجموعة أجيال تالية. 

إن هيمنة هذه الثقافة تؤدي إلى حصر الممارسة السياسية التي تصيب المجتمع بالشلل التام فلا يقوي علي الحراك، وتبقي هزيلة هي الأحلام التي تتمني في الواقع وتنشد فيه الرغد والنماء، والعدل والمساواة، هذه القيم الإنسانية الرشيدة التي ضاعت لتقتل روح الانتماء وتغذي فكرة اللامبالاة، تبني قلاعا من مورث ثقافي غني بالألم، متشككا في إمكانيات الواقع والمقدرة علي هدم هذه الحصون المجحفة التي تسرق وتقتل الحرية في نفوسنا لتمجد لأفكار غنية بالظلم مبنية علي القهر، متمسكة بوهم الصوت الواحد المنفرد، نابعة من أحقاد مفكر أو أمية مثقف، بجهل سياسي أو صلف اجتماعي، باستعلاء طبقي أو تخلف أيدلوجي..الخ هذه الصور المتعددة والمتنوعة، هي معوقات لحركة التقدم نحو المستقبل بلا طائل منها غير هذا الفكر العقيم الذي مصيره إلي زوال.

ورغم ذلك تبقي هذه الشمعة المضيئة التي تنير لنا دروب الحياة الاجتماعية، تمنح للحياة قداستها الحقيقية، تسرب لنا الأمل فيما هو آت كي تشرق الشمس من جديد، لتنشد غد أفضل حالا من عهود عفي عليها الزمن وأسست لطواغيت الظلم بيوتا من خواء. 

تظل حرية التعبير هي جوهر المجتمعات الناجحة التي تسعي لفرضية البقاء الحر، لنهضة الأمم، تبني منظومة قادرة علي فعل الحياة / الذي يمنح الحياة نفسها بهجتها وروحها وقيمتها بشكل نزيه ومتميز في ذات الوقت، بما يحقق قيمة عليا لهذه المجتمعات.

و الإنسان الذي هو جزء من هذا المجتمع،هي قيمته الإنسانية المتفردة علي سائر الكائنات، بما يحمل من نزوع نحو الخير والسلام والأمن، لتحدث تغيراته التالية في حاضرها المُعاش ومستقبلها المرهون بهذا الشرط الاجتماعي لوجود هذا المناخ علي أسس من التعددية المتحررة من طغيان الاستبداد والقمع، فقياس نجاحات الشعوب مرهونة بمدي ما يُقدم لها من حرية. فبعد إصدار بريطانيا لقانون "حرية الكلام في البرلمان" في العام 1688 وهو البداية الحديثة لحرية التعبير، ومن بعده صدور إعلان حقوق الإنسان في فرنسا عام 1789.. الذي نص في المادة 19 منه: أن لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون مضايقة أو تدخل من أحد.... الخ وما تبع ذلك من قوانين تحرص كل الحرص علي هذه المساحة من الحرية / حرية مسئولة وصادقة وحقيقية، واحترام هذه الثقافة وحدها هو الذي يمكن من خلاله مكافحة هذه الأنواع من الاستبداد وحاجزاً أمام كل مستبد فكري أو سياسي أو اجتماعي يحاول النيل من المجتمع تحت أي من المسميات التي يخلقها ويكفل كرامة النفس البشرية وحقوقها والمشاركة في الحياة السياسية بكامل الحقوق والواجبات للجميع عبر مثل وقيم إنسانية اعتمدت التحرر من الجاهلية والطغيان، أحد روافدها الأساسية لترسيخ أسس العلم والحضارة وبناء الأمم. فالحرية هي ذلك الوجود الذي يروى عطش الإنسان للحياة الكريمة لتوقد مشاعل الحضارة والازدهار الإنساني، هي وحدها التي تقي الأمة من التدني إلى تلك الحالة من التراجع المخيف نحو سيادة الحاكم وجبروته بدلا من سيادة القانون والعدالة بغية النهوض بواقعنا وأمتنا، فبناء الأمم وشموخها ينبعث من روح إنسانية قادرة علي الإبداع والفكر القابل للتعددية بعقول وإرادة حرة واعية، تستند لقيم راسخة، من حرية التعبير تمارس حريتها وتقاتل من أجلها لتهزم كل عناصر الجمود والتخلف وتصنع تاريخا باهرا وتبني حضارة شامخة وواقعا مجيدا. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى