الثلاثاء ١٦ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم إبراهيم عوض الله الفقيه

الجذور

تجمّع أبناء عائلة الشيخ غانم، واندفعوا بقوة نحو أرضهم، تصدى لهم الجنود وأوقفوهم قرب الأسلاك الشائكة، لم يتراجعوا، حفروا قبوراً جماعية لموتاهم وشهدائهم سلفاً، وراحوا يرقبون المستوطنين بغضب وقهر، وهم يقيمون صلواتهم وشعائرهم الدينية بشعورهم وسوالفهم الطويلة وقبعاتهم السوداء حول القبر المغروس قرب جذع الزيتونة الفلسطينية.. صرخ حمدان:
 هذا جنون، هذا قبر أبي..

لم يستمعوا له.. وطغى صوت أحد كهنتهم على صوته يقول أن حلمه تحقق بعد أن عثر على قبر نبي اليهود الصالح "رعنان" المدفون في هذه البقعة المقدسة، والذي ورد ذكره في التوراة.. وراح يعد الحجارة الصغيرة التي تحيط بالقبر الذي درس منذ زمن.. تعالت أصواتهم وصرخاتهم، واتخذوا قراراً بمنع العمال العرب من القدوم إلى تلك البقعة أو فلاحتها، تمهيداً لبناء كنيس فوقها..

ارتجف حمدان واستشاط غضباً، تخطى الجنود وقفز عن الأسلاك الشائكة وشق طريقه نحو المستوطنين، صرخ ثانية "هذا قبر أبي".. وقبض بيده على حجر صغير من حجارة القبر.. نظروا إليه بدهشة، وانهالوا عليه ضرباً، أهلكوه عصياً وطردوه خارج أسوار المستوطنة.. لطّخت الدماء وجهه وجبينه، وراح يجر قدميه خارج أرضه، ويتذكر كلمات والده الشيخ غانم قبل غيبوبته الأخيرة:

"المغتصب يا أبنائي كالنيران التي تحرق كل شيء، نيران المغتصب حرقت قلبي قبل أن تحرق أرضي، نيرانهم أتت على الأخضر واليابس، حرقت كل شيء حي فوق التربة، لكنها لم تستطع الوصول إلى جوف الأرض، ولم تحرق الجذور، الجذور ما زالت حية".

صمت لحظة، انسابت دموعه، ترقرقت على وجنتيه وسالت على لحيته البيضاء، نظر بعينيه المرهقتين من باب بيته المفتوح دائماً صوب بيته وأرضه وأضاف "هذه الجذور هي جذوركم يا أبنائي، تذكروا دائماً أنها جذور مرتبطة بشرف الأرض وحب الوطن، وأصالة هذه الأمة".

شعر حمدان بالنيران تحرق جوفه وتمتد ألسنتها إلى أحشائه، تراكضت الصور في مخيلته، اشتعلت ذاكرته من جديد، صور حزينة، مذابح، منافي، غربة داخل الوطن.. أحس أن هذه الأرض المعطاء التي صادرها جنود الاحتلال ونفوه مع عائلته منها، تطفح غضباً على ملامح وجهه.

كثيرة هي القرى في شمال فلسطين التي ترزح تحت نير الاحتلال، تنضح بمثل هذه الحكايا، جميع القرى مفروشة بحكايات الوجع والقهر والغربة داخل الوطن، وأهالي القرى والمدن يعرفون متى بدأت حكايات قهرهم، لكنهم يجهلون متى يسجل تاريخهم قهر العدوان، ومتى تكون عودتهم.

أغمض عينيه وراح يحلم، تجمعت في عينيه كل ألوان قوس قزح في ثوب حداد فلسطيني، ذاكرته تخضّبت بالدماء، وانبثقت من مشاريع الأحلام التي لا تُنسى.. شعر بأنفاسه تغبّ وتعبق أريج زهر البرتقال والليمون واللوز في بيارته، وفي كروم العنب التي يراها بصعوبة على مدّ نظره، "جنات على مدّ النظر".

انطلقت من بين أسنانه صرخة ألم، عضّ على نواجذه وتذكر والده ثانية وهو يكابد حشرجات الموت في لحظاته الأخيرة، ويضيف بصوت متهدّج:

«اغرسوا الجذور ثانية، حافظوا عليها وارووها حتى لا تصلها النيران ثانية، الجذور تعرف كيف تنمو، وكيف تلاحق النور وتعود خضراء من جديد».

وحده حمدان بن الشيخ غانم استوعب كلمات أبيه، وأقسم أن ينفذ وصيته بحذافيرها، ويدفن والده في أرضه التي صادرها المحتل منذ عشرات الأعوام وأقاموا عليها مستوطنة.. وكمنْ يغمض على حبة رمل أغمض عينيه بألم، وراحت راحة والده الشيخ تتراءى له وهو يشير لأبنائه نحو الأبواب الموصدة والأسلاك الشائكة التي تفصله عن أرضه، بعد أن حرقوا محصولها، ودفعوه بعيداً إلى قرية مجاورة ليفلح أرضاً لا يملكها، وعلى مدى سنوات طويلة ظل يحدّق بعيون غاضبة صوب أرضه، وصوب بيته الواقف بصمت القبور على مرمى حجر.

في هزيع الليل، وخلال هجوع المستوطنين، تجمّع أبناء الشيخ غانم وأقرباؤه على عجل، حملوا جثمان الشيخ غانم وتسللوا إلى قريتهم، دخلوا أرض الآباء والأجداد والأنبياء في ظلمة ليلهم، أرض اللبن والعسل.. انهالت الفؤوس في الأرض الرطبة قرب جذع شجرة زيتون رومانية قديمة، حفروا قبراً على عجل وغرسوا فيه جثمان الشيخ غانم، ثم أهالوا عليه التراب وساووه بالأرض.. وكخيوط الفجر انسل الجثمان من عيونهم واحتضنته أرض الوطن.. كانت الأرض دافئة رغم برودة الليل ونعومة نسيمه البارد، وراحت الغيوم تتلاحق مع الفجر وتتساقط حبات صغيرة من المطر على الأرض المشبّعة بالأنين.. ومع خيوط الفجر تسللوا ثانية وعادوا أدراجهم يتوارون عن أعين المستوطنين.. ووحده قبر والدهم الشيخ غانم بقي شاهداً على ملكيتهم لهذه الأرض المعطاء.

لم ينس حمدان تلك الليلة، كما لم ينس وصية والده.. فمنذ أن غرس والده كجذر في أرضه، أخذ يعتني بالجذور التي توالدت ونمت وراحت تلاحق النور لتعود خضراء من جديد.. فجأة دفعه أحد الجنود وقطع حبل أفكاره.. صرخ حمدان من جديد "هذا جنون، هذا قبر أبي وهذه أرضي".. وألقى بالحجر الذي في قبضة يده نحو الجنود.. انهالوا عليه ضرباً بعصيهم وكعاب بنادقهم، وطاردوا المحتشدين برصاصهم.. تصدت لهم الجماهير المحتشدة قرب الأسلاك الشائكة، لم يتراجعوا، حفروا قبوراً جماعية لموتاهم وشهدائهم، ووقفوا مع أبناء الشيخ غانم وقفة رجل واحد يصرخون بأن الأرض أرضهم والوطن وطنهم، وأن والدهم كان قديساً وشيخاً غانماً، لكنه لم يكن في يوم من الأيام نبياً من أنبياء اليهود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى