الثلاثاء ٢٣ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم محمد زكريا توفيق

قصص وحكايات من زمن جميل فات

(11)

ما زلت في مدينة القاهرة مع رحلة المدرسة في بداية عام ١٩٥٢ م، بعد حريق القاهرة مباشرة. كان أحد المدرسين المرافق للرحة يشير بيده من نافذة الأوتوبيس إلى بعض المحلات والأماكن التي ما تزال آثار الحريق بادية على واجهاتها. أذكر منها سينما مترو بشارع سليمان (طلعت حرب حاليا).

لم نكن نعرف وقتها سبب حريق القاهرة. الحريق كان يوم 26 يناير 1952م. خلال ساعات معدودة، التهم الحريق 700 مكان في شوارع وميادين وسط المدينة. محلات تجارية مثل شيكوريل وعمر أفندي وصالون فيردي، فنادق مثل شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا، دور عرض مثل مترو وراديو وريفولي وديانا وميامي، معارض للسيارت ومقاهي ومطاعم مثل جروبي والأمريكين، نواد اجتماعية،... إلخ. 26 قتيل و 552 جريح. جريمة بشعة، وخسارة فادحة لمدينة رائعة مثل القاهرة.

أصابع الاتهام كانت موجهة إلى الملك فاروق، ربما بسبب رغبته في إسقاط وزارة النحاس. كان الاتهام أيضا موجها إلى الإنجليز بهدف إعادة إحتلال القاهرة بعد أن ألغت وزارة الوفد معاهدة 1936م، قبل الحريق بعامين.

أيضا لم يسلم الإخوان المسلمون أو الشيوعيون من الاتهام بحرق القاهرة. حريق القاهرة كان هو أحد الأسباب التي عجلت بثورة يوليو 1952م.

ذهبنا بالأوتوبيس إلى حلوان لقضاء يوم كامل هناك. حلوان في ذلك الوقت، كانت ضاحية من ضواحي القاهرة الراقية على ضفاف النيل.

كان بمدرستنا في مدينة فاقوس مدرس تربية رياضية تم نقله حديثا إلى حلوان. لذلك ظل سائق الأوتوبيس الذي يقلنا يسير في شوارع حلوان باحثنا عن المدرسة التي يوجد بها المدرس. هذا أعطانا فرصة لمشاهدة حي حلوان كله تقريبا.

لفت انتباهي جمال الفيلات والقصور التي تطل من أسوارها الحديدية زهور "الجهنميات" والفل والياسمين وأوراق الشجر. كان حي حلوان يبهر الألباب بنظافة شوارعه المزينة بالأشجار ذات السيقان البيضاء والزهور المعلقة بأعمدة الإنارة.

قمنا بزيارة متحف الشمع والعين الكبريتية والحديقة اليابانية. قضينا وقتا ممتعا لم يعكر صفوه سوى إكتشاف مدرسي الرحلة إختفاء تلميذين وقت العودة. أصيب القاضي أفندي وزميله بالهلع والرعب. ظلا يجريان هنا وهناك للبحث عن الطالبين المفقودين دون جدوى. عندما أعيتهم الحيل، ذهبا وهم في حالة يرثى لها للبلاغ في قسم الشرطة.

عند العودة إلى اللوكاندة، كانت المفاجة وجود التلميذين في انتظارنا. ماذا حدث، هو أنهما مرا بحالة خرمان مفاجئة، فإنتحيا مكانا قصيا لشرب سيجارتين هوليود خلسة. عندما عادا لم يجدا أوتوبيس الرحلة، الذي تحرك قبل أن يتنبه أحد لغيابهما.

قررا العودة وحدهما إلى اللوكاندة في القاهرة. النتيجة طبعا علقة ساخنة يتخللها الضرب بالشلاليل ولعن الجدود. مسؤولية ضياع تلميذين مسؤولية كبيرة بدون شك، تذكرنا بفيلم نور الشريف "آخر الرجال المحترمين".

حلوان كانت في الأصل مدينة فرعونية، بها سد مائي بمنطقة وادي حوف يرجع تاريخه إلى ما قبل عصر الأسرات. أعاد بناءها عبد العزيز بن مروان والي مصر في العصر الأموي.

يقول المقريزي أن الطاعون وقع بمصر، فخرج منها عبد العزيز ونزل بحلوان. أعجبته فسكنها وعمرها أحسن عمارة وغرس نخيلها وكرومها. ولم تزل العمارات تزداد مدة إقامته بها التي دامت خمسة عشر عاما.

في عام 1849م، أرسلت الحكومة في عهد عباس الأول بعض الجنود للإستشفاء بالمياة الكبريتية بحلوان. كان لنجاح التجربة، أثر عظيم في لفت الأنظار إلى عيون حلوان الكبريتية. من ثم بدأ الأوربيون والمصريون يتوافدون على المياة الكبريتية.

وفي عام 1868م، أمر الخديو إسماعيل ببناء حمام في موقع العيون الكبريتية. أثناء وضع الأساس، تم اكتشاف آثار حوض قديم يجمع أربعة عيون، يعتقد أنه الحمام الذي ذكره المقريزي في خططه.

في عام 1871م، تم افتتاح الحمام الجديد للإستفادة من المياة الكبريتية. سرعان ما تدفق الزوار المصريون والأجانب على العين بأعداد فاقت كل التوقعات. زاد في شهرة حلوان، تحسن صحة زوجة الخديو إسماعيل عند علاجها بالمياة الكبريتية. مما دعا الخديو إلى تحويل المنطقة إلى منتجع صحي سياحي.

في عهد الخديو توفيق، اهتم بصفة خاصة بحلوان. بني قصرا هناك، وبنيت معظم عمائر حلوان في عصره. من الشخصيات العالمية التي كانت تتردد على حلوان: الأمير ليوبولد الوصي على عرش بافاريا، وملكة النمسا والمجر، وملكة السويد، وأمير ويلز، واللورد كرومر حاكم مصر الفعلي أيام الإستعمار البريطاني.

في عام 1917م، أنشأ ذو الفقار باشا في حلوان الحديقة اليابانية. في عام 1934م، تم نقل متحف الشمع من القاهرة إليها. في عام 1939م، إنفجرت بها عين أخري طبيعية.

الحديقة اليابانية كانت تمتاز عن باقي الحدائق المصرية باحتوائها على مجموعة من تماثيل بوذا الشهيرة. من الأساطير المضحكة التي يطلقها أطفال حلوان على هذه التماثيل، هو أنها تمثل "على بابا والأربعين حرامي". جاءوا لسرقة مستشفي حلوان واختبأوا في الجنينة اليابانية. فسخطهم الله في صورة تماثيل. حتي يكونوا عبرة لأمثالهم من الحرامية.

الحديقة اليابانية كانت لها شهرة عالمية بسبب إقامتها على الطراز الياباني. لكن الحديقة عانت، كباقي حدائق مصر التاريخية، من التجاهل والإهمال، حتي وصلت إلى حالة يرثى لها. مما دعا حكومة اليابان إلى التدخل وعرض تجديد الحديقة على نفقتها في بداية التسعينات.

بعد الثورة، تحولت حلوان إلى مدينة صناعية. تم هدم الكثير من شواهدها وقصورها الخالدة. بعد أن كانت مدينة الرقي والجمال، ابتذلت وأصبحت مدينة التلوث والعشوائية والتيبس الصدري، بسبب مصانع الأسمنت والحديد والصلب والمصانع الحربية ومصنع النصر للسيارات.

بذلك أصبحت حلوان أكبر مناطق التلوث في العالم بدون منافس. ما الضرر في بناء المصانع بعيدا عن المنتجعات السياحية والكنوز التي ليس لها مثيل في العالم؟ لماذا لا تكون المصانع بعيدا عن المدن الآهلة بالسكان وفي عكس اتجاه هبوب الريح؟ عاوزين فهامة صلاح جاهين تفهمنا السبب.

في اليوم التالي، ذهبنا إلى ميدان الجيزة لكي نركب الترام الذي يسير بطول شارع الهرم حتى الأهرامات. ما أتذكره من شارع الهرم في ذلك الوقت، هو خلوه من السيارات والمارة. أشجار على الجانبين وأراضي زراعية. لا كباريهات ولا عربات ولا ازدحام مروري أو اختناق.

كل ما رأيته في هذه الرحلة جديد ومبهر. لا تستطيع أن تستوعبه عقولنا المتواضعة. نحن تلاميذ الأرياف والمدن الصغيرة، قد أصابتنا القاهرة بجمالها وجلالها بالصدمة الحضارية. منظر الأهرامات من بعيد، والأصابع تشير إليها لا يمكن أن ينسى.

لحسن الحظ كان معنا مدرس تاريخ. لشرح ما يستغلق علينا من فهم. الهرم الأكبر طوله كذا وارتفاعه كذا وبه كم حجر وتم بناؤه في كام سنة. القاضي أفندي شغال وأنا عمال أبحلق في هذا البناء الجبار الذي لا يشبه شيئا رأيته من قبل.

قاطع أحد التلاميذ المدرس قائلا: "قدماء المصريين دول راحوا فين يا أفندي؟ انسخطوا؟". أجاب القاضي أفندي بعصبية: "إلهي ربنا يسخطك ويسخط الحمير اللي زيك. دول يا غبي جدودنا العظام". فأجاب التلميذ ببراءة: "أمال هم راحوا فين؟"

ليس هذا سؤال ساذج من صبي صغير. لكنه سؤال أسأله لنفسي مرارا وتكرارا. هم راحوا فين؟ هل نحن حقا أحفاد هؤلاء الناس؟ وهل العمال والمهندسون الذين قاموا ببناء الأهرامات، يمتون إلينا بصلة القرابة ولو من بعيد؟ وهل المرأة المصرية بحليها وزينتها وعطرها وملابسها وآلاتها الموسيقية، تمت إلى المرأة المصرية الحالية بصلة قرابة من أي نوع؟

بني الشعب المصرى فى عصر المملكة القديمة الهرم الأكبر – هرم خوفو. لا يهمنا هنا الأسباب التى بني من أجلها, سواء لتخليد الملك أو لتشغيل العمالة الزائدة وقت الفيضان, كما يعتقد بعض العلماء. لكن الذى يهمنا هنا هو الدقة الشديدة والعناية الفائقة التى أستخدمت فى بنائه.

بنى الهرم الأكبر على قاعدة مسطحة أفقية ملساء, درجة الخطأ فى تسطيحها لا يتعدى أربعة أجزاء من الألف فى المائة. أو بالقياس العملي, ليس هناك خطأ على الإطلاق.

قاعدة الهرم على شكل مربع. يواجه كل ضلع من أضلاعه إحدى الجهات الأصلية, شرق وغرب وشمال وجنوب. الخطأ فى إتجاه ضلعي الشمال والجنوب يبلغ ثلاثة أجزاء من مائة جزء في المائة. الخطأ فى إتجاه ضلعي الشرق والغرب لا يتعدى تسعة أجزاء من مائة جزء فى المائة.

هل هناك دقة أشد من هذه؟ أحجار الهرم يبلغ وزنها ستة مليون وربع طن. هي كافية لعمل سور يحيط بفرنسا كلها. هذه الأحجار وضعت مع بعضها بدقة, بحيث لا يزيد سمك الفراغ الموجود بين حجرين عن خمس البوصة.

داخل الهرم توجد غرفة الملك. تحتها غرفة الملكة. غرفة الملك بها نافذتان أو ممران هوائيان. الأول يسمح بمرور الضوء الساقط من النجم القطبي مباشرة، حتى يضئ جثمان الملك فى رقاده الطويل على الدوام. لأن النجم القطبي ثابت فى مكانه فى السماء دون باقي النجوم التى تدور حوله.

من ثم، يظل جثمان الملك مضاء فى الليل أو النهار بصفة دائمة. أما النافذة الأخرى, فتقع جهة الجنوب. تسمح بمرور الضوء الساقط من نجم الشعرى اليماني, "سيرس"، الذى كان يمثل عند قدماء المصرين الإلهة إيزيس. لكي يضئ تابوت الملك مرة واحدة فقط كل عام. بذلك تستطيع روح الملك فى رقادها الأبدي، معرفة عدد السنين التى تمر.

كذلك وضعت الأهرامات الثلاثة فى أماكنها, ليس على خط مستقيم كما هو المتوقع, إنما فى شبه خط مستقيم لكي تمثل وضع النجوم الثلاثة التى تتوسط برج الجبار "أوريون" والذى يمثل الإله أوزوريس.

لماذا يهتم المصري القديم بالدقة المتناهية فى الصنع. ألا يكفي وضع الأحجار مع بعضها على شكل كومة ضخمة ترتفع قمتها نحو السماء. لماذا يهتم المصري القديم بالشكل الهرمي الذى تطابق أضلاعه الجهات الأصلية بدون خطأ يذكر, وأى سر فى ذلك؟

لماذا يهتم بأن تكون نسبة نصف محيط قاعدة الهرم إلى إرتفاعه قريبة من نسبة طول محيط الدائرة إلى قطرها والمعروفة لدينا بالقيمة "ط".

هل صحيح تم إختيار موقع الهرم لكي يكون مركز الكرة الأرضية, بمعنى أن خط الطول الذى يمر بالهرم يمر فى نفس الوقت بأكبر مساحة أرضية يمكن أن يمر بها خط طول آخر, وكذلك خط العرض الذى يمر بالهرم هو الآخر يمر بأكبر مساحة أرضية.

هل كان المصري القديم يعلم أن الأحجار الجيرية المستخدمة فى بناء الهرم, هى تراكمات بيولوجية من الأحياء الدقيقة التى كانت تعيش فى الماء منذ ملايين السنيين. أى أن كل ذرة في جسم الهرم كانت تنبض بالحياة فى يوم من الأيام, مثل رفاة الملك والملكة اللذان يرقدان داخله. أم كل هذا من قبيل المصادفة؟

ما هى علاقة الهرم بالشمس؟ عندما تشرق الشمس فى الأفق, تبدأ أشعتها الذهبية فى تسلق وجه الهرم الشرقي، كأنها تصعد إلى السماء. عندما تبدأ فى الغروب, ترى شعاعها القرمزي يهبط الوجه الغربي للهرم إلى أن يختفي رع فى الأفق البعيد.

كيف وضعت هذه الأحجار مع بعضها بحيث لا يضغط ثقلها الرهيب على الغرف والنوافذ والممرات الموجودة داخل الهرم؟ كيف تتخيل ستة وربع مليون طن من الحجارة صنعت بمهارة الجواهرجي؟

هذه الدقة المتناهية لن نجدها فى أعمال البنائين والفنانين فى الزمن اللاحق, الذين إتهموا بالعجلة والتفاخر فى أعمالهم الفنية. نظرة سريعة إلى أعمدة الكرنك الضخمة أو إلى معبد أبوسنبل، تبين لنا كيف فقد المصري القديم فى الزمن اللاحق الدقة والعناية والصبر فى أعمالهم الفنية, وإكتفوا بالضخامة والحجم.

نظرة أخرى إلى تمثال خفرع الموجود فى دار الآثار المصرية بالقاهرة والذي لا يضاهيه شئ, أو إلى تمثال منقرع وزوجته الموجود بمتحف بوسطن بالولايات المتحدة, توضح كيف كان الفنان والصانع فى المملكة القديمة.

إذا كانت دقة بناء الهرم تعتبر معجزة, فما بالك بعظمة الإدارة التى أستخدمت لتشغيل هذا الجيش الغفير من العاملين فى مشروع واحد, لكي تجعلهم يعملون فى توافق وتجانس تامين دون تخبط أو تعارض في القرارات والأوامر.

القدرة على العمل الجماعي كانت من سمات أجدادنا قدماء المصريين. وهي سمة تظهر لحسن الحظ من حين لآخر. ظهرت عندما حفرنا قناة السويس، وعندما بنينا السد العالي، وعندما عبرنا إلى سيناء في حرب 1973م. وستظهر عندما نبني بلادنا من جديد على أسس صحيحة في القريب العاجل إن شاء الله.

إننا نخطئ عندما نظن , كما ظن هيرودوت من قبل, أن الهرم ماهو إلا قبر ضخم لملك ظالم سخر شعبه لبنائه. لأن الهرم فى الحقيقة هو معبد ديني, بني لأسباب دينية. مثل المساجد والكنائس العظيمة التى بنيت لنفس الغرض. إنه صرح رائع استخدم فى بنائه العلم والفن والإيمان والإخلاص والصبر والدقة، وفوق كل هذا الحب. لأن عربة الحضارة لا تجر بالعبيد, إنما تقاد دائما وأبدا بالأحرار.

وللحديث بقية، فإلى اللقاء.

(11)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى