الثلاثاء ٢٣ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم ذكرى لعيبي

قضية تجسس

شهران تعّضُ فيهما على عظمتها، تفّز على شجرها سفن ورياح وأبخرة وقرابين، شهران وهي تلّقن نبض العصافير سر حبه وتطيّرها صوب روحها:
 أيقظوني إنني الحبيبية، زنزانتي في الرماد،أيها الحالمون، سأعد لكم من رحيقي شاي الصباح بالهيل وسكر حزني، ومن شجري أمنحكم ثمراً للطريق. لم يكن لديها منفذ سوى أن تستعين برجل قريب للعائلة يتمتع بمركز مرموق.
سألته ذات شجى:

 أرجوك ياعمي هلال ساعدني .. كي أراه فقط ! أرى إلى وجع نظراته!
 هذا مستحيل يا ابنتي، ألاتعرفين إنه متهم على وفق المادة (...)؟!
 اعرف! لكنه زوجي، صاحب بيتي، أبو أولادي، حياتي كلها، لا إنني لأعرف جيدا،ً هذه المادة ياعم .
 متهم بـ... استغفر الله العظيم..
 بماذا؟ هل يريد أن يغيّر الكون؟!
 نعم إنها تهمة أحزاب .. يعني تغيير نظام!

تجلس نهلة خاوية القوى، تتهجى أحرف الصمت وتجهش بالبكاء،اصبحت الحياة معالم صغيرة، لا قيمة للأشياء ، لكن العم هلال هدّأ من روعها ببصيص أمل:

 سأحاول غداً أن أحصل لك على تصريح زيارة.

لم تصدق ما قاله، انهالت عليه تقبله وتشكره.. وبين تبعثر الآمال واختناق اللوعة، ساعات خوف تنتظرها، متاهات وخناجر مغروسة هنا في صمام القلب..وبعد معاناة جاء التصريح المنتظر،هموم شتى تجلّت في ذاكرتها، آلام صدئة..حروف تفر من كلماتها، قاموس ما عاد له معنى ..

وتلتقيه..
 مقداد ما الذي فعلته؟
 فكرت كيف أكافح هاجس الموت والفناء، أردت أن انجز شيئاً يبقى بعدي..
 وماذا انجزت يا مقداد! الفراق،الذل الذي نعيش، ماهي قضيتك؟
 السؤال ذاته في التحقيق!
 أنا زوجتك، ولسنا في غرفة التحقيق.
 اسمعي قبل أن أقص عليك ما حدث.. هناك ضابط متعاون، قد يساعدك ببعض الأمور فيما لو كان الحكم ليس بصالحي. والآن انصتي إلي:

اقتادوني، ربما ليس لهذا المكان.. حاولوا أن يسلخوا مني ذاتي،ماهي قضيتك؟

 يقولون إني مُتهم بلصق الشعارات على جدران المدينة.
 وماذا احتوت ؟
 يعمّر الأخيار ما دمرّه الأشرار
 ومن برأيك الأخيار؟
 نحن!

هنا تأفف ضابط التحقيق ونهض من كرسيه ثم قال:
 والأشرار؟
 أنت أعلم!!

جحظت عينا الضابط واقترب مني ثم قال: ألا تخشى أن أضربك يا.....

لم أنبس ببنت شفة، ثم أردف بصوته الأجش:
 غير هذا الشعار،ماذا كتبت؟
 بل نظمت وخططت !
 ماذا؟؟
 تكوين حزب يهزم الاستعمار!

ضحك المحقق عالياً، جلس على كرسيه،ثم ردد متسائلاً: بتكوين حزب جديد تهزم الاستعمار! كيف؟

 أعني هزيمة الاستعمار الذي يعيش بداخلنا وبيننا...

يسكت مقداد عن الكلام، يتنهد ويحدّق بوجهها، يحاول أن يستمطر منها حرفاً أو ينتزع من حنجرته صوتاً آخر، لكن حارس السجن يقطع السبيل في الوصول إلى جرعة تروي عطشهما.

ايقنت نهلة أن طموح مقداد في حياته ارتبط بمعنى من معاني الزمان، وإن القادم كله وهم..الألم كائن في داخله والصرخة مباحة لأوجاعه.

يقضي خمسة شهور في عزلة عن الناس والأشجار والبراءة، يتخطى أدراج الزمن ويعلم أن الأيام ستتآكله مثل أشياء أخرى إن لم ينسج الحلم من نبضات البذور، لم تنمُ عتبات بابه، ولم يطفىْ الليل مشكاة قلبه، هؤلاء الذين بلا اسماء،بلا جسد، أو رؤوس، أدمنوا الموت أم هم لميتون؟

يتساءل...

اجراءات التحقيق لم تنته، الهواء الملوث يملأ رئتيه، والماء الآسن يشربه كالعرق آلاف الشهقات والزفرات تختنق وتحترق وجمرة روحه، ترى هل يستطيعون تحويلها إلى رماد بارد؟! هذا هو حال مقداد منذ سجنوه في غرفة ليس لها عنوان سوى اللون الأحمر، البلاط البارد، والجدران الجرداء، السقف الذي بدأ قريباً وثقيلاً مثل أتربة قبر!

 قد تكون المحاولة الأخيرة.

يهمس الضابط مع نفسه، ينادي على أحد حراس السجن ليأتي به ثانية.

يدخل.. كل شيء أبكم، السلالم الصاعدة إلى الرأس،العيون الطالعة من الروح، العظام التي أعطت هذا الجسد استقامته،والأسئلة التي لا جواب لها..

الطيور،اليمامات، يحاولون حجرها داخل قلبه كي لا تقترف التحليق.
 كيف حالك الآن يا مقداد؟

لم يتكلم، أومأ برأسه،لا يعرف كيف حاله!
 إنها فرصتك الأخيرة،من كان معك؟ كيف بدأتم؟ أين أول لقاء لكم؟
 أُحجم عن التساؤلات الصغيرة؟
 ألا تعلم إنك مقبل على حكم قاس..!
 لم أكن عدوانياً
 بل صاحب نوايا شريرة
 ولا صاحب نوايا شريرة

غضب الضابط، ضرب برأس القلم سطح الطاولة

حدّق بوجه مقداد، قال ضاغطاً على نبرة صوته كي لا ينفلت حقده وعسفه دفعة واحدة مثل جحيم:

 حتى هذه الساعة أريدك أن تفلت من هذا المأزق!

 كيف؟ هل اعترف بذنب لم أقترفه؟ الخواطر التي سكنت ذلك الركن المهمل من رأسي، المبررات،الأصدقاء الذين قُتلوا.. هل أترك كل هذا خلف ظهري ومع نفسه ردد:إنه تاريخ النقاء، ليس من حقي أن ألوث العذرية.. كلا.. خوف مطمور تحت ركام الأوراق ينفجر في الأعماق فتهب أدخنة تعمى النظر. أجساد بلا وجوه، ووجوه بلا ملامح، ملامح بلا ألوان، والألوان بلا مدلولات هكذا تنتهي جلسة التحقيق ويعود مقداد إلى حجرته الإنفرادية وينزوي في الركن البائس ذاته.. أ هناك غد آت؟! يتساءل.. ربما!!

باقة من الأعذار يقدمها لنفسه، ويتهيأ لنزهة قادمة..!!!

يحرك أصابعه في الفراغ، صوت من العدم قادم، وروح تنسلخ من قوقعتها لتلتصق بهذا الجو الدبق، طلاء ينثه كوكب منسي،مرجانات بحر تقيم طقوسها لحوت يونس.

اللون العندم من كل جانب، اختلطت المعالم، بات لايعرف، يتذكر الهلاهل والخروف الذي ذبحه صبيحة مولد أبنه البكر،الوردة التي أهداها لزوجته عند لقائهما الأول و.. و الركلة التي غطّت وجهه بالقهر!

عديد المشاعر أثارها المكان.. العزلة تطبق على أنفاسه، درك موحش، قلق،أفكار يتيمة،عجز مضاعف ولا يقدر على فعل شيء.. سوى..

سوى ماذا؟
ينادي حارس الزنزانة وكأنها صلصلة سيوف:

جاء الفرج، يا الله، مقداد،صدر قرار عفو عن السجناء!
السجين يواصل تسلق الإنبهار بلون غرفته، سمع هذه الصرخة من قبل، يظل كامناً في مكانه، يكتم مئات العبرات.. ما الذي يجعلني أصدق الخبر هذه المرة؟

((سألوا الأرض: كيف تنبت عليكِ الزهور والخضرة وأنت حبلى باللهيب تحت التراب؟ فلم تحرهم جواباً))

في صباح اليوم التالي تم الإفراج عن السجناء الذين شملهم العفو، إلا مقداد!

أحلام تلهث خلف قرص شمس ينحدر نحو الشاطيء،تحول الأوراق إلى قضية تجسس أ...)!!

تحالفت ضده الأشياء كلها. آلام مخاض تتوالى دون أن تنذر بولادة، سكرات فناء أحاسيس شتى

تجثم على صدره، نهار طويل وليل أطول، ينعكس بريق العتمة في عينيه كأنه نهاية النفق: حُكم بالإعدام!!

وكما هو متعارف عليه في العهود السحيقة الماضية.. ستكون هناك مقابلة مرئية مع أمثال مقداد..

ماذا سيقول أمام صمت هزيل والكلمات باستحياء تمجُ حروفها، والحروف تزفر نقاطها،والنقاط تفتقد مدياتها؟

حديث مبرمج ومعلومات هشة لابد أن تقال، لتدينها الأنظمة والقوانين والجماهير الجاحظة الأعين صوب شاشة التلفاز التي لا تعرف الحياء تردد ما يُملي على المذيع:

 سيداتي،آنساتي، سادتي.. سنعرض على حضراتكم نفراً ضالاً، أنكر سيادة بلاده، خان النهر والماء الذي شرب، دنس التربة التي أنجبته، فلم يكن جزاؤه الاّ القصاص، ليكن أمام انظاركم عبرة لمن تسول له نفسه خيانة هذا البلد.

مقداد في عينيه نداء استغاثة للذين ما زالوا في أرحام أمهاتهم! وعلى شفتيه تبعثرت معاني الوفاء والخيانة.. فقد أعدمت الرؤية الواضحة لواقعه، وارتطمت طموحاته بفتات الزمن الأغبر.لا فسحة للإدلاء بما تبوح به الروح، ولم يتبق وقت لابتلاع الحمم التي قذف بها بركان غدر الأصدقاء!

 يجلس قبالة المذيع: رأس حليق،عينان غائرتان بوجه ذابل، قامة مشدودة تطال وقاحة الكاميرا أمامه!!

 إذا كنت ابن هذا الوطن كما تدعي، فكيف سوّلت لك نفسك أن تكون عميلاً خسيساً؟

بصوت يرغمه الواجب الوظيفي يسأله المذيع.. فيجيب بما هو أدعى إلى التحدي ثمة اشراق يرفعه إلى السمو:

 لست أدّعي، أنا ابن هذا الوطن مادمت سأدفن في تربته،وقضيتي ليست تجسساً كما.....

قاطعه المذيع مرتجفاً وكأن الحكم سيكون ضده:

أنت هنا لتروي ما قمت به

ليس لدي ما أقوله، سوى السماح لي بإشعال سيجارة...

ينقطع البث، تظهر صورة العاصمة غائمة، وحناجر مستأجرة تصدع بالنشيد المعتاد:لا.لا.لا والله .... تموت الزلم، فوق الزلم،وهذا الوطن ما ينداس.

ظل أهل المدينة غارقين بحزنهم،لا تفارق حكاياهم تلك المقابلة، قضية تجسس تخنق زقزقة العصافير لكنها لا تروم أن تمنع غيوماً مكتنزة ستروي يوماً يباب أرض حبلى بالأبرياء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى