الخميس ١ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
شعرية التاريخ اليومى وخيال الدمج في:
بقلم صلاح السروي

«حمامة على بنت جبيل» لحلمي سالم

المزاوجة والدمج بين العناصر هى الاستراتيجية البنائية التى يقوم عليها شعر حلمى سالم , خاصة اذا كانت هذه العناصر متباينة فى المعنى والدلالة، ومتفاوتة فى الانتماء الى حقول معرفية وزمانية ومعاشية , بحيث يتجاور، عنده، الحلاج وصبايا الروشة، الحطابون والجنرالات والتوحيديون والحلم الامريكى والعلم اللبنانى والصبايا اللاتى " يدرأن البارجة برمش العين " . كما تتجاور الاشارات الى النصوص المختلفة، سواء الدينية، أوالأدبية، أوالفلسفية ... الخ . وكذلك الاحداث التاريخية، وأسماء الأماكن الواقعية والشخصيات التاريخية أو الحية - المعروفة أو المجهولة تماما، الا للشاعر نفسه .... الخ . هذا التجاور القائم على الدمج بين عناصر متباينة، قد لاتبدو على علاقة واضحة فيما بينها، هو الذى يخلق الطاقة الشعرية الفريدة عند حلمى سالم , وذلك من خلال ما تتيحه تلك الاستراتيجية من امكانية تقليب المعانى والدلالات، وفتح امكاناتها التعبيرية على مديات مفتوحة ولانهائية، واعادة تشكيل مراميها الدلالية والمعنوية على نحو مدهش وطازج وساخر فى نفس الآن.
كأن يقول فى قصيدة "حمامة على بنت جبيل" هى القصيدة التى منحت الديوان جملة العنوان :

توزع ( زينب ) من سلتها للأحباب هدايا :
تعطى عبده وازن كما من فستان
الجارة ليعلقه فى أبواب النوم جوار
حديقات حواس النهمين ,
وتعطى لمحمد شمس الدين جديلة
زميلتها فى الدرس ليغسلها فى الليطانى بعد هدوء الغارة ,
وتحط على منكب شوقى بزيع فيونكة
عائشة اذ طارت فوق المئذنة
مصوحة بزمان الغندرة الحلو " .... الى آخر القصيدة، ص27 و28

حيث نلاحظ ايراد أسماء الشاعر عبده وازن , وكم فستان الجارة , وحديقات النهمين , والشاعر محمد شمس الدين وجديلة زميلتها , ونهر الليطانى ,والغارة , والشاعر شوقى بزيع , وفيونكة عائشة التى طارت فوق المئذنة . حيث توظف القصيدة أسماء الشعراء الللبنانيين المعروفين , باعتبارهم علامات قارة الدلالة على منحى معنوى مفعم بمعانى الحب والجمال واللعب اللغوى واثارة الخيال ,... الخ . لتحول القصيدة من حالة الحزن الميلودرامى التى يمكن أن تخلقها وضعية الحرب الأخيرة على لبنان ومجزرة قانا الرهيبة , الى حالة من الوجد الروحى والوعى الجمالى - الانسانى . الذى , وان لم يخل من أسى , الا أنه ذلك الأسى غير الجازع ولا المولول , بل الأسى الخفى الشفيف المغلل بالفخار وقوة الروح . وكأن (زينب) التى خرجت من تحت الردم لتفتش عن أشلاء أقرانها , قد تحولت الى عنقاء جديدة , تنبعث من رماد الموت لتشهد على مشهد القتل الهمجى الذى عجز عن قصف منصات الصواريخ والمقاتلين , فقصف فساتين الجارات وجدائل البنات وفيونكاتهن . تأنيث الضحايا ( وقد كان نزلاء الملجأ المقصوف فى قانا , فى غالبيتهم , من النساء والأطفال ) يطرح بقوة وجلاء حجم المفارقة الهائلة بين دال المسالمة والوداعة الذى تمثله هذه العناصر وبين القوة الغبية العمياء الموتورة التى يمثلها القصف بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكا , مما يجعلنا أمام وضعية بالغة الشذوذ والمفارقة , فضلا عن كونها باعثة على السخرية والتهكم والاستنكار, وكذلك يفضح همجية هذا العدو الأحمق العاجز , رغم قوته , وكأن الأدوار قد تبدلت هنا ليصبح الضعف قوة , وتصبح القوة ضعفا .
ان أنثوية الضحايا وصغر عمرهن , فهن المصوحات ب..."بزمن الغندرة الحلو " .. المفعمات بالحياة المنذورات للحب والغرام , يتواشج بقوة مع مع الدال الآخر الذى يمثله الشعراء , فهم "الأحباب", كما وصفتهم القصيدة , الذين توزع عليهم زينب "هداياها" من الاشلاء والبقايا المشوهة للملابس وأدوات الزينة . وهم لايقلون عنها وداعة وبراءة . فهم العنصر الأكثر تناسبا , االمرشح لبكاء هذه الكارثة وانشاد رثائياتها وبكاء ضحاياها , وكأن القصيدة بذلك تحيل الأمر كله الى حالة من الشجن الشعرى الأسيان , والذى لا يخلو من سخرية فى نفس الوقت :

تنهض زينب من تحت الردم
تلملم أشلاء الرضع وشظايا قنينات
اللبن الفارغة
وتسحب رقع الأقمطة المحشورة بين الطوب
وبين الاسمنت
لتحمل فى منديل يديها سبع حمامات
نازفة
وتطوف على الأمكنة تطابق بين
الجغرافيا والطير

حيث تتحول هذه المفردات , المنتمية جميعا الى عالم الطفولة البرىء الذى لم يقترف اثما ليعاقب عليه , بينما يتم التنكيل به على هذا النحو الاجرامى الذى يجرى تفصيله ؛ فالرضع قد تحولوا الى أشلاء وقنينات اللبن الفارغة قد تحولت الى شظايا ورقع الأقمطة أضحت محشورة بين الطوب والاسمنت ..الخ لتتحول جميعا الى حمامات نازفة , فهذه العناصر ليست , فقط , مسالمة بالطبيعة والتكوين , بل هى رموز السلام وجوهر روحه , ولذلك ولذلك فانها تتحول الى حمامات نازفة , تحاول زينب اعادتها الى أماكنها الأولى . فالمطابقة بين "الجغرافيا والطير" هنا قد لا تعود الى أن نزلاء الملجأ المنكوب فى قانا كانوا ينتمون الى أماكن وعائلات متعددة , انما تعود , أيضا , الى آلية تشعير الحدث الواقعى , الشائعة فى شعر حلمى سالم , وتحويله الى حالة انسانية طيفية قادرة على عبور الخصوصية والمحلية لتعانق الكونى والمطلق , فيتحول الحدث العيانى المادى الى معنى , كلى الحضور , سابغ الدلالة . ولانغفل الاشارة السريعة الى المنحى الصوفى الايمائى الماورائى الكامن فى الاشارة الى كتاب "منطق الطير" لفريد الدين العطار , فالطير الذى تمثله الحمامات هنا , تمثله زينب أيضا فهى التى تطوف على الأمكنة , وهما معا ينطقان بلغة الايماء والايحاء , باللغة الكونية القادرة على البوح بأبلغ اللغات وأقدرها على على الوصول الى أعماق الروح , حتى ربما , بدون كلام .

لقد جاء هذا المنحى السردى , ليجعل من حكاية زينب ذات الطابع العجائبى ملحمة اسطورية , تقوم خلالها بلالانبعاث من موتها، معانقة أساطير البعث التموزية - الأوزيرية المنتشرة فى ميثولوجيا منطقة الشرق العربى , بما يعنى أن استشهادها تحت الردم لم يكن نهائيا , بل كان مقدمة لبعث جديد , تقوم خلاله برحلتها الاسرائية العجائبية لتلملم أشتات البراءات والحكايات اليومية المتكونة من عشرات العناصر المغتالة . فتكون , بذلك بمثابة الشاهد - الشهيد القادر بموته على بعث الحياة وافتداء الأحياء .

ولاستكمال هذه الروح الملحمية - الصوفية , التى تميزبها هذا الديوان , بصفة خاصة , دون باقى أعمال حلمى سالم الأخرى، باستثناء "تحيات الحجر الكريم" , يجرى تحويل العناصرالمستدعاة لتتحول الى جوقة رثائية ذات طابع انشادى خالص :

وفى آخر جلوات النسوة بانت
ماجدة الرومى وهى تحرك جرس
الأحد لدفن السواقين
وبث الترتيل الكنسى المشروخ :
طوبى للمقتولين وطوبى للجرحى
طوبى لرجال رمقوا الليل طوال العمر
وما رمقوا صبحا
طوبى لأياد رأبت صدعا أو
دارت قرحا
طوبى للجثث المطمورة اذ صارت
كشفا أو فضحا
طوبى للمنزوحين اذا باتوا اثما
ليس يزول ولا يمحى

فهاهى ماجدة الرومى المغنية اللبنانية المعروفة تقود جوقة التطويب لكل هؤلاء الذين قضوا من سواقين ورجال معذبين وأياد وجثث ونازحين , فتصبح الأيادى والجثث شخوصا حقيقية ومعتبرة وكاملة بقرينة العطف على الجرحى والرجال , والاشتراك معهم فى فعل التطويب , حيث يقوم كل منها بدوره فى تحقيق وتأكيد معنى الكارثة / اللحن الجنائزى / الملحمة / الأغنية الحزينة , التى سوف يزيدها شجنا وكبرياء وألقا وجود ماجدة الرومى فى صدارة المشهد . ولنلاحظ صيغة الوعيد بالثأر فى السطرين الأخيرين (طوبى للمنزوحين اذا باتوا اثما ليس يزول ولايمحى ) , الأمر الذى يعطى معنى الصمود والمقاومة والثأر , وهو ماينقذ المشهد من الميلودرامية . كما نلاحظ القافية الحائية المطردة التى تتسق مع الخطاب الدينى الجنائزى التطويبى ويمنحه واقعيته واقناعيته , وان كنت لاأعرف المقصود بكلمة "المشروخ" التى جاءت صفة "للترتيل الكنسى ".

هكذا تتمكن تقنية الدمج بين العناصر من طرح امكاناتها الدلالية الهائلة وتقوم بعملها على أقصى قدر من الفاعلية .

الى جانب ذلك استخدم حلمى سالم فى هذا الديوان تقنية أخرى هى ما أسميته بتقنية ( التاريخ اليومى ), وهوما يعنى طرح مقاربة قوية ما بين اليومى الاعتيادى المعاشى وبين أحداث التاريخ الكبرى وشواهده التى تمثل علامات دالة دون الحاجة الى ايضاح أوشرح , فيتم الحديث عن "غيبوبة الأم" و "النزيف" و "طشت الحموم" و "دراجة (النجاح فى امتحان) القبول" ...الخ فى علاقتها مع "الكلية الحربية" و "بيروت " و "بغداد" و "الأندلس" و حرب 1956 و "عين الحلوة" .. الخ الجميع يقوم بدوره فى خدمة الحالة , التى وان كانت مغرقة فى الذاتية والشخصانية الاأن تواشجها مع التاريخى الجليل يمنحا أبعادا أخرى جديدة لم تكن مدرجة أو متصورة بدونها , تجعل اليومى تاريخيا , والذاتى كونيا , والفردى عموميا .

هكذا نفهم قوله فى قصيدة "بعض سيرة بهلول" :

تبدد كورس الأفراح فلم تنجنى البشارات
كذا : تساءل الفقهاء عن مغزى وجود وهران
فى سلم الخالات ,
فأحالتهم صغيرتى الى ملموس بسيدة ,
وخططن :
" تومىء للشجر بقمصان زانتها الخاطرة " ص51

ولأن القصيدة تقوم على استعراض يشبه الاستعراض التاريخى , فاننا يمكن أن نخمن أن بهلول ليس سوى الشاعر نفسه الذى يحاول طرح مشوار حياته من خلال تلك التواشجات المفتوحة مع الأحداث التاريخية الكبرى , فتبدد كورس الأفراح ربما يعنى هزيمة السابع والستين , أو وفاة عبد الناصر , أى انقضاء مرحلة الوعد والبشارات الملهمة التى تفتح عليها وعى الشاعر , وهنا كان من الطبيعى أن تبدأ مرحلة من المراجعات التى يقوم بها المتفيهقون المتشبهون بالفقهاء , ومن ثم , يتساءلون .. "عن مغزى وجود وهران فى سلم الخالات" .. ويمكن أن تكون وهران , وهى بالطبع الميناء الجزائرى المعروف , اسم امرأة من أقارب الشاعر , حيث كان المصريون فى الخمسينيات و الستينيات يسمون "وهران" و "سوريا" و "حرية" و "جمال" و"عبدالكريم" ...الخ . وقد لايكون هناك هذا الاسم فى العائلة من الأساس , لكن تبقى حالة التواشج بين الذاتى والتاريخى قائمة , ورغم غموض المشهد وضبابيته (التى تكاد تصل أحيانا الى حد الاعتام) الا أن المطلوب منه تحديدا ليس الوضوح , على أى نحو , بل الانفتاح الدلالى والبث المتعددالمستويات القادر على "كوننة" اليومى الاعتيادى ومنحه شارة الوجود الكليانى .

لقد برزت فى هذا الديوان ظواهر شعرية جديدة لم تكن دارجة فى شعر حلمى سالم السابق , منها هذا النفس الملحمى الانشادى , السابق الاشارة اليه , وكذلك الاحتفاء النسبى المستجد بالقافية , وبعض الوزن , فضلا عن الكتابة عن أشخاص معروفين للكافة او من معارف الشاعرالشخصيين , كأن يكتب عن " فريدة " وأظنه يقصد المناضلة والكاتبة فريدة النقاش , أو عن زينب تعلب , أو عن رنيم ابنته , أو عن جمانة حفيدته . كما أنه من البارز سيطرة حالة من المراجعة واعادة النظر فى الأشياء والحياة والشعر , وأظن أن الأزمة الصحية الأخيرة التى ألمت بالشاعر كان لها دور فى ذلك . فى هذا الديوان يضع حلمى سال بصمة جديدة على عالمه الشعرى وعلى شعر الفصحى النثرى العربى .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى