الأربعاء ٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم نزيهة الخليفي

رمزية الاشتهاء... أسطورة الجسد

قراءة في رواية «سيّدة البيت العالي» لمحمد الخالدي

تقـديم:

لا تزال الرواية العربية الحديثة خطابا ينبش في المسكوت عنه، فيعيد بناء الأسئلة وتشكيلها والأشياء المُصَادَرة وخلخلة المقدّس، ليكوّن بذلك نصّا مختلفا يتحوّل اختلافه إلى سؤال متجدّد على الدوام لا حدود له ولا ضفاف.

ولعلّ رواية "سيّدة البيت العالي" لمحمد الخالدي قد وعت أنّ شرط وجودها لن يتحقّق إلاّ بانتهاك المقدّس والمركزي وتجسيد خطاب الاختلاف والمدنّس الهامشي، فرسمت احتفالية خاصة بالجسد وقنّنت طقوس عشقه محقّقة قدسيّته من خلال الحجب والتجليّ.

I_ الاشتهاء والمرايا المتحرّكة:

إنّ البحث في المتنوّع والمختلف في الخطاب الروائي الحديث يستدعي النظر في العلاقة بين الكائن والممكن في الكتابة الروائية، والوقوف على الطابع الجدلي للثنائيات التي تحكمها. ولمّا كانت الرواية جنسا أدبيا جامعا للعديد من الأجناس الأخرى، شكلا ومضمونا، فإنها ستظلّ في بحث مستمرّ عن

المخالف والمغاير بتقويض السائد وانتهاكه وإحلال النموذج المثال محلّه. "فإذا بالرواية جنس هجين منزاح تماما عمّا ضبط له من محدّدات تكوينية وشكلية وإذا بالجنس الأدبي يغيّب مع كلّ كتابة جديدة"2 وهذا ما جسّدته رواية سيّدة البيت العالي من كونها ثنائية كبرى للكائن والممكن، تستدعي العديد من الثنائيات الضدية لتقويضها واختراقها وانتهاكها لتبني على أنقاضها نموذجها.

1 -الجسد ولعبة الانتهاك:

يحمل الانتهاك معنى الاختراق والتجاوز والرفض. وهو، حسب لايفانكوس، أعظم من الانحراف، إذ يقول: "إنّ اللغة الأدبية ليست انحرافا فقط وإنما هي انتهاك أو خرق"3. وقد فسّره أدونيس بأنّه "تدنيس المقدّسات وهو ما يجذبنا في شعرهما (امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة). والعلّة في هذا الجذب أنّنا،لاشعوريا، نحارب كلّ ما يحول دون تفتّح الإنسان"4. إنّ هذا الخرق والانحراف اللذين يفيدهما مصطلح الانتهاك نجد صداهما في نصّنا من خلال رفض فعل الكتابة الروائية لعلامات الثبات بحثا عن المغاير المحقّق للانزياح عن النموذج والاختلاف عن المألوف. ولمّا كان مشغل الكتابة الأدبية السائدة يتمثل في تجسيد المألوف وإخراجه في ديكور مناسب باعتباره القاعدة، فإنّ سيّدة البيت العالي تقوم بقلب المفاهيم فتجعل الشذوذ قاعدة والقاعدة شذوذا من خلال اختراقها للمحرّم والمدنّس وإحلاله محلّ المركز والأساس في بنائها. وهو ما سنبيّنه من خلال دراستنا لموضوع الجسد وما يستدعيه من طقوس عبور على كلّ المستويات حتى الكتابة ذاتها.

تبدو الرواية من خلال عنوانها، امرأة والمرأة كما نعلم، جسد...

والجسد الأنثوي في سيّدة البيت العالي جسد مكشوف، ولا شكّ أنّ الكشف في العرف الروائي الحديث لم يعد خطيئة أو عيبا بقدر ما تحوّل إلى حرّية وعطاء، لذلك ركّز الكاتب على جغرافية الجسد وأجزائه فجعل منه فضاء للمتعة متنوّعا ومتحرّكا، وفاعلا له تأثيراته على الآخرين إيجابا وسلبا، لتُمارَس من خلاله عملية الاختراق والتقويض.

إنّ الجسد مكوّن مركزيّ في الرواية، يبوح بوظائفه ورموزه وطقوسه وتضاريسه، فقد تحوّل من لازم مادي محدود إلى موضوع فعّال تتضافر جميع العناصر الروائية، (الأحداث والفضاء والشخصيات والوصف والحوار واللغة...) لإكسابه خصائصه البنائية ممّا يجذّر قيام البناء البيولوجي أساسا لقيام البناء الثقافي والاجتماعي، لذلك تتعارض الرواية، من حيث بناؤها الأسلوبي والدلالي، مع قواعد النوع الروائي من خلال تهشيمها للبناء التقليدي ومساراته الزمنية والمكانية وطرائق السرد الشائعة وبنائها من الجسد أحداثها وفضاءها ونسجها لأساطيرها من خلاله.

أليس في ذلك انتهاك لكلّ الموانع ضد الجسد بما فيها السرد التقليدي؟ ألا تعدّ الكتابة عن الجسد والبحث في هويّته وإخراجه في صورة مغايرة للسائد أمرا يدرج ضمن الانتهاك؟

تدور أحداث الرواية حول جدل الرّغبة والحظر، فينعقد مسار الحكاية وتقلّبات المغامرة والمقاطع المكوّنة لذلك على شخصية "نوره"، فتتدرّج الأحداث بدءا بتكوين متخيّل سردي للجسد من خلال نظرة عشّاقه إليه وتوقهم إلى الظفر به، وصولا في النهاية إلى وجود حوائل تصدّ الرّغبات لتتصاعد إلى أوج الحرمان، ومن خلالها يحطّم الروائي اللغة الإيحائية فينتهكها ليعبّر عن الرغبة الحسية ورمزيّة الاشتهاء المحظور. ذلك أنّ "السمة الرئيسية التي تميّز اللغة الأدبية عن اللغة المعيارية هي سمتها التحريفية أي انحرافها عن قانون اللغة المعيارية وخرقها له"5 فتحلّ بالتالي، لغة مشحونة بالرّغبة والمتعة المبدعة لخيال الجسد واشتهائه، لغة جديدة عبوريّة تحمل معجم العري والتّجلي. لغة فوق خطابية تمرّ من "هسهسة اللغة إلى هسهسة الجسد...وهو ما يتطلّب كتابة جديدة بعيدة عن السلطة والمراقبة"6، حتّى لكأنّ الجسد، مع الخالدي، يعلن منذ البداية، تمرّده على مستوى الكتابة وعلى مستوى الثقافة، وهو تمرّد يكرّس الانتهاك المستمرّ إلى آخر النص باعتباره هدفا من أهدافه، ومن خلال ذلك يكتب الجسد تجربته ليمحوها ويعيد كتابتها من جديد في ثوب مغاير لأنّه "لغة أو هو لغات لها قوانينها ومنطقها وأسرارها أيضا"7. وهو ما تجسّده صورة "سيّدة البيت العالي" في كمالها المشتهى، عبر تصوير كامل تضاريس جسدها، ووصفه وصفا حسّيا دقيقا، بلغة مشحونة ببلاغة جديدة تقوم على التشبيه والاستعارة وعلى المشافهة والإيماءات والإيحاءات والرموز، لتشكّل بذلك صرح لغة جسدانية حداثية، تحوّلت مع الخالدي إلى شيفرة يسعى القارئ إلى فكّ رموزها.

وأمّا الفضاء، فـندركه ونعيشه ونعيد إنتاجه انطلاقا من الجسد8، ذلك أنّ الخالدي قد أثّث فضاء الرواية ونوّع فيه، وطوّعه حسب فضاء الجسد، فمن الضيّق إلى المتّسع، ومن الانغلاق إلى الانفتاح، من الحانة والمقهى مكان اجتماع العشّاق، إلى النافذة فضاء التّوق الجسدي، إلى المدينة بصخبها ومعاناتها وآلامها وأحلامها، هي الأخرى تركت مخدعها وكبرياءها لتحلّ في جسد "نوره"، هذه التي "فتنتنا في شبابنا، بل فتنت المدينة كلّها، رجالا ونساء، شيبا وشبابا، حتى أصبح اسمها على كلّ لسان"9.

وأمّا الزمان، فقد عرف بعض الحدود، شأن زمن الليل باعتباره زمن البوح والاعتراف والمكاشفة والمواجهة، يقول الخالدي: "يكثرون في تلك الساعة من الليل، حتى إذا أضاءت الشرفة انتشروا كما ينتشر فصيل الجيش استعدادا للنّزال"10. ويتضافر الزمان والمكان ليشكّلا فضاء متّسعا يؤمّ الشخصيات، حوارها الأكبر سيّدة البيت العالي وتدور أحداثه حول اهتمامهم بعالم الجسد وبمكوّناته الكثيرة، المتداخلة والمعقّدة. فينعقد السرد حوله وهو يمارس فعله في نظم كلّ الأحداث والوقائع، ليفضح النظرة الأخلاقية السائدة ويحقق حريته المفقودة. لذلك يسعى إلى انتهاك كلّ الموانع بما فيها العبودية المفروضة عليه والتي تختزله إلى عورة. ولتحقيق هذا الهدف يقوم النص بتقويض كلّ الحوائل دون ذلك بما فيها السرد التقليدي وما يشمل من بناء أسلوبي ودلالي. ويحلّ محلّ ذلك كتابة روائية جديدة ذات مكوّنات مندرجة في النص بلا نظام، تعريّ المسكوت عنه وتعبّر عن الأفعال الانتهاكية الجريئة فتبوح بالمدنس لتزيحه وتحلّ محله المقدس وهي مع ذلك تنتظم خيوط الرواية وتضمن لها تماسكها وانسجامها فتتمظهر فتنة المتخيّل السردي بأشكال مختلفة: فمن التعبير البصري للشخصيات إلى التعبير اللغوي السافر إلى التعبير الحركي الدلالي المتراوح بين الانفصال والاتصال.

2- لذّة الوصال وألم الفشل:

استدعى الخالدي صورة الجسد ومدّه بالحركة والحيويّة في جدل بين لذّة الوصول إليه وألم فشل المسعى. فحقّق الاتصال والتوحيد في مجالس السّكر والعربدة، ليصبح جسدا على محفّة الشّوق والوصال والاتصال والرغبة في الانصهار والانبهار ومعانقة الكائن والممكن والمحال. وهو ما كشف عنه الصراع بين عالم الأخلاق والفضيلة وعالم الجسد والمدنس، بين "نوره" وسكارى جسدها الذين أصبحت رغبتهم في مشاهدتها أمرا يحتاج إلى أكثر من وسيلة وأكثر من أداة لاستكمال النظرة وتحقيق الغاية، إذ "أصبح أكثر المتيّمين بنوره يملكون نظّارات مقرّبة..."11، هذا بالإضافة إلى لجوئهم إلى الشعوذة كـ"الرقي والحروز فهي وحدها قادرة على ترويض السيّدة العصيّة"12.

وهي رؤية للجسد المفرد بصيغة الجمع، حيث يتناسل المشرّدون والمتيّمون بغوايته وإعطائه بعدا حسّيا صريحا لا يتوقّف عند حدود النظر وإنّما يتجاوزه إلى وصف شهواني دقيق من العام إلى الخاص، يأتي على كلّ تفاصيله واختراق مناطقه الأكثر إباحيّة، فـ"كان التغزّل بنوره أمرا مباحا بين المولهين بها والمعجبين الحياديين"13، يأتون على الوصف المفصّل "لون فستانها وتسريحة شعرها ولون تبّانها وشكله ومدى إبرازه لتكوّر ردفيها..."14 وهو وصف تحوّل بموجبه الجسد إلى ملك للجميع، يصنعونه ويتفنّنون فيه ويفتخرون به، باعتباره "الرمز الذي يستعمله المجتمع ليعبّر من خلاله عن رغباته وطموحاته وآماله"15. والجسد الذي أعلنه الخالدي في الرواية هو جسد لذّة وشبق ومتعة، جسد مثير وجذّاب تشرئبّ إليه الأعناق الظمأى في حرقة وتعطّش، فتتناسل فيه الصّبابة وعلى هيكل الحبّ والوله يتحقق انكشافه وعريه الكينوني. فالجسد الأنثوي، ما لم يتحوّل إلى صورة وإلى شذرات إغراء وتمثّلات حالمة – وهو ما يطمح المؤلّف إلى تحقيقه- فإنّه يظلّ جسدا عاديا ذا "هويّة جنسيّة"16، على حدّ تعبير رامان سلدن، ومبتذلا ابتذال الحياة اليوميّة.

وبناء على ما ذكر، قام المتيّمون بأدوار هامة في وصف "نوره"، حيث "هام بها خلق عظيم، حتى أصبح لها مجانين يعدّون بالعشرات وربما المئات"17، يجتمعون في المقاهي ليرووا تجاربهم معها، فمنهم من يكتفي برؤيتها ومنهم من يتوسّل بخادمتها "أمّ الخير"، ومنهم من يقصّ رؤيته معها في المنام. ويتواصل الصراع فتنتظمه العديد من الثنائيات: الخفاء والتجليّ والظهور والاحتجاب والحلم والهزيمة، وتتحوّل أحلامهم في النهاية، إلى هزيمة كبرى، يقول الكاتب في ذلك: "بعد كأسين عبّهما دفعة واحدة على التوالي، قال العبروق، وهو يجيل بصره في الصالون: - يخيّل إليّ أنّني في الجنّة

 الجنة الحقيقية هناك: قالت نوره وهي تتجه نحو غرفة النوم وقد ترجرج ردفاها.

ارتمى العبروق على مضيّفته كالثور الهائج... وقبل أن يأخذها بين يديه أفاق على بكاء ابنه وزعيق زوجته وهي تبسمل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم." 18. وظلّت الشخصيات على شفا عالمين، عالم الحلم والإقبال على الجسد والمتعة، وعالم الهزيمة والإدبار وفشل المسعى. وهو فشل مقصود، يدلّ على أنّ الرجل موجود في الرواية ولكنّه في الوقت نفسه غير موجود، لا تواصل، لا شيء غير نوع من الرفض المضمر، فالرغبة في النص مقموعة تحوّلت معها "سيطرة الرجل مناخا إيديولوجيا للإذعان"19.

وفي مقابل ذلك، جعل الكاتب من المرأة لعبة للوجه والقناع أو المرايا المتحرّكة ممّا يشي بالمعالجة الحداثية في الخطاب الروائي، جعل منها شخصيّة متحرّكة تسعى باقي الشخصيات إلى الظفر بها، مكسّرا بذلك جاهزيّة بناء ونمطيّة الشخصيّة الروائيّة كما نلفيها في الرواية العربيّة الكلاسيكيّة.

فـ"نوره" قد بدت امرأة متمنّعة، هادئة لا تتوفر في بنيتها النفسيّة رغبة في التصادم أو المشاكسة رغم النظرة المركّزة التي يوجّهها العشّاق والمتيّمون إليها وما يحدثوه من هلع وفزع وجنون. ورغم كونها موضع حبّ وإعجاب من قبل كلّ شخوص الرواية نساء ورجالا. فإنها "تتأرجح بين الإحساس المؤلم بتبعيّتها لما هو سائد والاعتراف به كواقع وبين الإنصات إلى رغبات الجسد السالبة"20، فهي امرأة مثيرة، تتمرأى في ثوب المخاتل الذي يُرجى من ورائه استدراج العشاق وإغواؤهم بالنظر إليها والبحث عنها. إذ تتظاهر للعيان كأنها امرأة فلوت متمنّعة تأبى الانصياع، تحسن لغة الكرّ والفرّ، تعذّب الآخرين وتوهمهم بسهولة الإمساك بها ثمّ تنفلت معلنة بداية البحث من جديد وكأنها أسطورة "سيزيف" في قمة فلسفتها العبثيّة.

II- أسطرة الجسد

1- دلالات الجسد في الرواية:

يحقّق الجسد باعتباره "واقعة اجتماعية ومن ثمّ فهو واقعة دالّة"21، دلالات توليدية وتحويلية متعدّدة، منها الدلالة الفنّية ومنها الدلالة الاجتماعيّة. فالجسد يدلّ باعتباره موضوعا ويدلّ باعتباره حجما إنسانيا ويدلّ باعتباره شكلا،22 ذلك أنّ الرواية "مسكن تخييلي للجسد، فيه يتجسّد ويحقق وجوده المتخيّل"23 من خلال بروزه بصورة جليّة، حاول الكاتب من خلالها الكشف عن المناطق المحرّمة والمعتّمة وباح بالمكبوت عنه، فوصف أدقّ خفاياه وعرّى أعضاهء كلّها دون استثناء، وفجّر طاقاته التي لم يقف فيها عند حدود. ولعلّ في ذلك بعدا اجتماعيا يعكس مدى تقديس المتعة واللذة المرتبطة دائما بالمدنّس بدل الارتقاء إلى المقدّس أين يسمو العشق إلى مرتبة التصوّف. فالآخر [الرجل] يرى في المرأة المتعة واللذة، "فكلمة "المرأة" هي رديف الانحراف/الثانوي/الهامشي..."24. وهو موقف يعبّر عن دونيتها وتسفيلها أمام الرجل، "ممّا يفضي إلى إجبار المرأة على تحديد مكانتها في عالم الرجل، أو أن تخوض مجالا آخر في عالم اللانساء وبالتالي تنأى عن التيار الرئيس. وباختيار سبيل الفرادة تنكفئ المرأة على ذاتها في ظلّ حضارة تهيمن عليها قيم الذكورة"25. فتضيع ذاتيتها الفاعلة وهويتها أمام الرجل.

ومن جانب آخر يدين الكاتب الثقافة الاستهلاكية، تلك التي تحتفل بالجسد باعتباره مركزا للّذة بإخراجه في صورة جسد يُشتهى، وهو، إلى ذلك، محلّ رغبة الآخرين، فكأنّ العلاقة بين الجسد وعشّاقه علاقة عرض وطلب قائمة على الحاجة والإشباع. فالرغبة والمتعة قد فقدتا بعدهما التواصلي العميق والإنساني واستبدلتاه بالشغف والنهم والاستعراض. لذلك سعى الكاتب إلى تجاوز هذه الثقافة التي تشييء الجسد وتقصيه وتحجبه، بأن جعل من المرأة جسدا مثيرا لا بدّ من الإحساس بقيمته وإبراز معانيه. وهو في رسمه للجسد عاريا، لم يكن من أنصار مبدأ التحرّر الجنسي وإنّما يهدف إلى استنطاقه لتوظيفه توظيفا رمزيا دالاّ على رفعة مقامه، لذلك هيمن في نصّه عالم الجسد ورموزه فكسّر مستوى الأخلاق والفضيلة التي تدينه على سبيل توليد فعل صراعيّ بينهما. فطوّع الجسد "المدنّس" دلالات المقدّس وقام بصهرها في دلالات حقله من خلال عملية توليدها وتذويبها وخلقها من جديد وهو نوع آخر من الانتهاك على مستوى الدلالات العامة للنص. فحركة الجسد إذن وما رسمته في النص من هدم وبناء هي حركة احتواء وهدم وتوليد جديد.

ويحضر في النص أيضا بعد صوفي يتمثّل في ظاهرة الحلول، وهو ما يعني أنّ المعرفة بلا محبّة لا تكتمل، فمن لم يحبّ شيئا، ما تجلى له ذلك الشيء ولا عرفه حقّ معرفته. لذلك كان الكاتب جريئا في الكشف عن خفايا جسدها لأنه متمكّن وموغل في معرفته حقّ المعرفة. وهو ما أحدثته ظاهرة الحلول الصوفي لديه، فقد أحبها حدّ العبادة "والعارف المحبّ إنّما يتمرأى مع كلّ الذوات، ويعشق كلّ حسن وجمال، بل هو يستحسن كلّ شيء وهذه حال من أسكرته محبّة وبلغ أقصى درجاتها"26. فالعاشق، مع الخالدي، يغيب عن نفسه ولا يدرك سوى معشوقته وهي مرحلة من مراحل الفناء الذي هو قوام العشق. وفي ذلك يقول: "زار مدنا طالما سكنت خياله منذ يفاعته، زار مأرب ومكّة وتدمر والبتراء، ارتاد حاناتها الصاخبة وتجوّل في أسواقها الضاجة يبحث عن شبيهة لنوره. صادف حشدا من الحسناوات حيثما تنقّل. لكنّه لم يصادف من تشبهها، وإن كان في كلّ واحدة منهنّ ملمح منها..."27 ممّا يفسّر أن العاشق في الرواية يعيش حقيقة الفناء والحبّ الأبدي في معشوقته.

وقد اتبط الجسد لدى الكاتب بالحب وهو مظهر من مظاهر التصوف، جعل العشاق يحنّون للآخر/نوره/ الحقيقة الصوفية باعتبارها الذات العليا، حيث يهيمون بها شوقا وتحرّقا لكنّها صعبة المنال، ومن الصعب لأيّ كان إدراكها لذلك يظلّ العشاق في حالة سكر دائمة.

ونلمس في العلاقة بالجسد، في جانب اللذة منها، ما يفتح أفقا للمتعة بعيدا عن الرغبات الزائلة المحصورة بالجسد. فالمحبّ مستغرق في من أحبّ حدّ ضياع كلّ الموجودات واختصارها فيه.

وقد انحاز الكاتب إلى تعرية الجسد تعرية تتجاوز الحياء الأخلاقي إلى التعرية باعتبارها وسيلة لاكتشاف العالم وقراءته من أجل اختراقه وتجاوزه للبحث عن الحقيقة التي ينشدها وهي الحقيقة الصوفية والتي يصعب الوصول إليها، لذلك يمثل الجسد عالما رحبا وتجربة فريدة قادرة على المنح والاكتشاف والتأويل. تصل في الرواية إلى القداسة وأحيانا إلى تألّهه.

2-هويّة الجسد

تتحوّل إدانة الجسد في الرواية إلى ترانيم مشتهاة واحتفاليّة أسطوريّة. يعدّ الاهتمام به من أبرز المداخل المشروعة لفكّ إسار مجاهيل النص باعتباره المفتاح الذي نلج به فضائه وبؤرة مهيمنة في الخطاب الروائي. ممّا جعل منه تناصا إنسانيا تحاول من خلاله الشخصيات المتيّمة به التعبير عن متخيّل الروائي حيال العلاقة الأزلية بين الذكر والأنثى، التي تتبدّى في ألوان الرغبات الجسديّة وتمدّ الكاتب بمادّة غزيرة يقف فيها على القناعات التي رسمت علاقاتها وسلوكها تجاه الآخرين.

لقد تحوّل الجسد في الرواية إلى موضوع جدير بالدراسة لأنه يعبّر عن هاجس ثقافي راهن، محطّما ثقافة المحرّم وثقل المحظورات التاريخيّة تلك التي أقصته ومنعته وأنهكته حتى صار صعب المنال. لذلك أُخرج من فضاء كتيم إلى فضاء سافر تجاوز من خلاله ثقافة القمع والمغطّى والمغتصب والوأد بمعناه الحقيقي والرمزي، إلى التحرّر وإثبات وجوده عبر العري والتجلّي. فالخالدي يرى في تهميش الجسد عنفا هادئا ينفي هويّة المرأة وفي الوقت نفسه يختزلها في وضعيّة المستثنى.

ويمكننا القول، بناء على ذلك، إنّ "سيّدة البيت العالي" قد أكسبت الجسد قدسيّة التجلّي ككائن أسطوري مقدّس أعيدت له اعتباراته لكي تتحقق له هويّته المغيّبة وأحيانا المشتهاة. فتحوّل الوصال حلما والمدنس مقدّسا من خلال قول الكاتب على لسان إحدى الشخصيات: "رأيت، في ما يرى النائم، أنني في الجنة أسبح في نهر من العسل والنبيذ بين حشد من الحوريات الأبكار، أفترعهنّ الواحدة تلو الأخرى وقد أتيت على عشرين أو ثلاثين منهنّ..."28 فلئن لم يتحقق الظفر بالجسد فسيناله في الجنة.

لقد بحث الخالدي عن حرّية الأداء الجسدي الأنثوي فطوّر من خلاله الكتابة باتجاه التحقق الذاتي للجسد واستعادة قوّته المجرّدة بعيدا عن تاريخ الاغتصاب. وما دام الجسد معطى ثقافيا "فهو نصّ يمكن قراءته وفكّ رموزه وتبيّن علامات الجندرة فيه"29 تحوّل بموجبه الآخر/الرجل إلى مجرّد صوت مفعول به فعلت فيه المرأة فعلها "نسجت حولها الأساطير وغنّى لها الموسيقار الحزين وما أدراك أغنيته الشهيرة "نوره يا نوره اسمك على رسم الصورة"30.

وهكذا سعى الخالدي، عبر روايته، إلى تجريد الجسد من عوامل العبث والتشويه ومقاومة منطق القوّة والرغبة في محوه. ليجعل منه علامة ارتكاز للإدراك والإنتاج المتجدّد للقوّة الأنثوية التي تتخذ أشكالا فريدة لانهائيّة دون تحديد، إيمانا منه بممارسة الاختلاف في كلّ شيء حتى على مستوى الكتابة "فأن تكتب يعني أن تفكّر ضدّ نفسك، أن تجادل، أن تعارض، أن تجازف، أن تعي منذ البداية أن لا أدب خارج المحظور ولا إبداع خارج الأسئلة الكبيرة التي لا جواب لها"31. وهذا ما جسّدته رواية "سيّدة البيت العالي" باعتبارها رواية متجدّدة على الدوام، تدفع القارئ إلى إعادة القراءة وإعادة النظر فيها لأنها مساءلة ومجازفة للذات متجدّدين. متبعا في ذلك منزعا تطهيريا يدعو إلى التحرّر من النظرة الدونيّة للجسد والسعي إلى استعادة هويّته الغائبة والهامشيّة، وهو ما نقف على معناه من خلال تحقيق اللقاء في قول الكاتب: "الليلة يعيش خالد نشوتين، لا بل ثلاثا: نشوة الخمرة ونشوة الموسيقى ونشوة اللقاء، أو بالأحرى المعجزة التي تحققت...أخيرا. سيشرب حتى يصيح الديك..."32. فالكاتب قد نجح في ما يصبو إليه، فحقق مبتغاه وحرّر المرأة من كلّ قيد، بأن جعلها تناضل "للتحرّر من ذلك "العيب" بإسكات شهوة الجسد التي لا تتحقق إلاّ بالانفصال عن عالم النساء والانضمام إلى عالم الرجال"33. فرغبة المرأة في التحرّر "تُحوّل في الحقيقة إلى شهوة للحياة وليس إلى رؤية متفتّحة لها، لقد أصبح مفهوم التحرّر في الغرب والشرق يعني طلب المتعة حتى الثمالة"34، لذلك جعلها الخالدي تشرب الخمر جنبا إلى جنب مع الرجل تقول "نوره" في ذلك: "بدأت أتناول من حين إلى آخر كأس نبيذ أوويسكيا وبيرجي وأنواعا أخرى كثيرة أعدّت خصيصا للضيوف"35. فالخالدي قد نطق بالمسكوت عنه في ثقافة روّضت نفسها على كتمان ذاتها، واعتمد في ذلك الوصف الجريء ليعرّي العناصر المكوّنة لمنظومة فكريّة عربية قديمة مازالت متواصلة، تسعى إلى توهين وإحباط المرأة. وتتحوّل إدانة الجسد ، في النهاية، مع الخالدي، إلى احتفالية أسطورية بأخيلته المستعادة في وعي حريص على إعادة إنشاء الهوية في الكتابة.

وتبقى رواية سيّدة البيت العالي رواية حاملة للقاح الملحمة الروائية الجديدة المكسّرة للنمطيّة والمقيمة لذائقة جديدة معبّأة بالتساؤل والدهشة والتحرّر من التقديس والتابو الكتابي. وتتجلّى، مع ذلك، مسؤولية الكاتب في قدرته على التخلّي عن مسؤولية الجماعة المحافظة على النوع التقليدي، ليجعل القارئ أمام مسؤولية جديدة تضعه دائما في أفق الاحتمالات.

قراءة في رواية «سيّدة البيت العالي» لمحمد الخالدي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى