الجمعة ٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

بين نارين

منذ أن ولدت الصبية البهية الطلعة تناسل في خيالهما حلم لذيذ بطعم البلح، طفقت ترتشف من رعايتهما الأبوية مثلما يرتشف الظمآن جرعات ماء، ولا زالت تتمرغ في كنفهما، وتمتص حبهما الأزلي، الأنقى كالزلال، أنقذتهما من ورطة انتظارية كالحة كادت تقضي على أجمل سنوات العمر، يهمس والدها همسا رفيقا: أدرسي بجد لتحوزي على الشهادة، وحينها سأراك صحفية لامعة.
تؤيده الوالدة هاتفة: لا تخيبي أملنا الواعد فيك.

التحقت نجوى بالجامعة بعدما قطفت ثمرة اجتهادها، وخالطت ثلة من الطالبات من جهات متباينة لعلها تصادق واحدة أو اثنتين منهن.
خطواتها كانت كلها في حيطة وحذر، لا تنجر وراء التيار الفاسد الذي انغمست فيه بعض الطالبات حتى الضلوع، سهر متواصل، خرجات من نوع خاص، تدخين السجائر، وممارسة ما هو محظور.

أقبلت على هذه الجامعة بحب كما يقبل النحل على امتصاص الرحيق، في نيتها تحقيق المبتغى، وإرضاء الوالدين. كافحت بصعوبة شظف العيش، وويلات الزمن الرديء، قوية كانت آنذاك، وما زالت صامدة، شامخة في وجه الأعاصير الغاضبة، ومربكات ذلك الغد المجهول.

شقاء أبدي رافقها منذ طفولتها، والدتها المسكينة تعمل عند الجارات كخادمة، تغسل لهن الصحون، والملابس، والأفرشة، وتنظف البلاط ، وترتاد على السوق لشراء ما يلزمهن مقابل أبخس الأثمان.
الحاجة بهية تأتي من أطراف المدينة جالبة معها أثوابا، وأحذية شبه قديمة، وتتكرم بها على هذه الأسرة البائسة، تقول الوالدة بفرح لا يقاوم: جزاك الله خيرا يا حاجة.

انفردت نسمة بنجوى هامسة في أذنها بصوت أرق من الندى: أخي رشيد يبلغ لك تحياته القلبية العميقة.
حاولت نجوى التملص منها كيلا تتمادى في الحديث عن أخيها، همت بالانصراف كأنها في عجالة من أمرها، بينما نسمة امتطت سيارتها الفارهة، وتوارت عن الأعين.

هذه الأمسية كانت مشحونة بالتوتر، والقلق مما دفع نجوى إلى الاسترخاء فوق سريرها، رشيد يبلغ لها تحياته القلبية، وشاب آخر لا تعرف هويته يقتفي آثارها، ويتفوه بكلام مصطنع، ملفت للنظر.
في عناء شديد تحاول جاهدة طرد هذه الخيالات المتراقصات، لا تبغي لها وجودا في وجودها، رأسها ثقيل ككتلة فلاذية صلبة، يكاد يعلن عن انفجاره المروع، الدراسة متواصلة يوميا، إرهاق دائم يأبى مفارقتها، طالبات داخلات، خارجات في كل آونة، صوت المذياع العجوز يبدد معالم الهدوء، وتعكر الجو ضحكات تتفرقع هنا وهناك.

أسبلت جفنيها المرهقين، ثم فتحتهما بصعوبة بالغة على صوت نورا وهي تقول: أنت متعبة فيما يبدو.
ـــ جدا، جدا.
وعاودت إسبال جفنيها من جديد.
لحد الساعة لم تدلف بعض الطالبات الحرم الجامعي، تعودن ألا يدخلن إلا في ساعات متأخرة من الليل، غير آبهات بما يقترفن من أعمال جنونية فاسدة.
هل تقبل بها الحاجة بهية زوجة لابنها رشيد وهي ابنة الخادمة التي تكدح في بيوت الناس مقابل اللقمة المضمخة بالأنين، والتأوهات، والعذاب؟

أوقفت نسمة سيارتها، مطعم فاخر هناك يصافح قدومهما، شعور فظيع استبد بنجوى، كاد يحبط قواها، ويدفعها دفعا إلى الدرك. هل تدلف هذا المطعم الراقي، وتنهمك في طلب ما لذ وطاب؟ ليس في حوزتها المبلغ الكافي لذلك، ستحرج بالطبع، وتوضع في موقف لا يليق بشخصيتها كطالبة جامعية.
ـــ تريثي قليلا، لا يمكن أن أقصد هذا المطعم الفاخر.
ـــ لا تتوجسي قلقا، مفاجأة سارة في انتظارك.
المفاجأة السارة في انتظارها كما قالت، رشيد جالس إلى طاولة أنيقة، يتطلع إلى الوافدين والوافدات بتلهف عسى أن تكتحل عيناه برؤيتها.
رآها تتقدم رفقة أخته، وقف من مقعده محييا: تفضلي آنستي، اجلسي، الفضل الكبير يعود لنسمة، هي التي رتبت لنا هذا اللقاء بعد إلحاح شديد مني.
ردت عليه كأنما تؤنبه: ونجحت خطتها المحبوكة. أليس كذلك؟
ارتبك بعض الشيء، ولم يرد على كلامها بحرف.
ـــ سأدعكما وشأنكما، طابت جلستكما، إلى اللقاء.

غلالة من الصمت الرقيق تحنو على حضورهما كما تحنو الأم الرؤوم على وليدها، تململت في مقعدها كالمصابة، ضاعت من فمها شتى الكلمات.
نطق بصوت يموج بالدفء: ألست جائعة؟
ـــ لا، أبدا.
لم تشعر حينها بالجوع يعض أمعاءها، المفاجأة أربكتها، وأشعرتها بالخجل أمام هذا الرجل الناضج الوسيم.
طفق يتحدث كأنه يستعجل دقات الزمن المشاغب: لقد اختطف الموت والدي مخلفا وراءه ثروة طائلة، المسؤولية ألقيت على عاتقي كوني الأكبر في إخوتي، أخي جلال الابن المدلل في الأسرة، هو الوحيد الذي يختلق المشاكل، ويعظمها، طالب بنصيبه من الثروة، كان له ما أراد، ولكنه بدد أمواله يمينا وشمالا، أما أنا فاحتفظت بنصيبي للأيام السوداء. الناس يعتقدون أن المال هو كل شيء في الحياة، هو السعادة هو الرضا، هو القناعة، ولكن المال في حقيقته هو جزء من السعادة. تخيلي رجلا يملك مالا ويفتقر إلى صدر حنون يبثه متاعب يومه، وعذابات روحه، أيمكن أن يكون سعيدا في نظرك؟
ـــ لا أظن.
ـــ أنا مثلا بحاجة إلى امرأة صالحة، تتمتع بأخلاق عالية، ذات مستوى ثقافي مرموق، وتحسن تربية أبنائها، و.....
قاطعته واضعة إياه أمام الأمر الواقع: ألا ترى أن هذا لا يرضي عائلتك وأنا ابنة الخادمة المتواضعة التي تعمل في بيوت الناس؟
ـــ لا يهمني ذلك ما دمت متيقنا بفكرتي، ومتمسكا بها، إن والدتك امرأة شريفة وفاضلة، تعمل لجلب قوتها، وقوت عيالها، أليس العمل شرفا، وواجبا، وعبادة؟

ها هو القدر الساخر يتدخل بصورة عجيبة، جامعا بين الثلاث في آن واحد، رشيد، نجوى، وجلال ذاك الذي يحاصرها بمطارداته.
ـــ أقدم لك أخي جلال، إنه المدلل الوحيد في أسرتنا.
تضببت أمامها المرئيات، كادت تتهاوى على الأرض كشجرة نخر السوس لبها.
ـــ لم تبتهجي لوجود أخي، ما الأمر؟ أفصحي عما بك.
انسحبت من المكان بكل هدوء، عقلها الرصين يرفض تماما الأخوين معا، إنها لأفظع صدمة تتعرض لها في الحياة، ولكن ماذا عساها فاعلة؟
لا زالت صامدة، شامخة في وجه الأعاصير الغاضبة، ومربكات ذلك الغد المجهول.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى