الاثنين ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
في حوار مع التشكيلي العراقي صلاح عباس
بقلم بسمة نجار

نعمل لكي نلتحق بالعالم الحديث

رئيس تحرير مجلة تشكيل العراقية ومدير قسم الثقافة الفنّية في وزارة الثقافة ببغداد، وعضو مؤسس لهيئة الإحياء والتحديث الحضاري ببابل، عضو مؤسس لجمعية إنقاذ الأعمال الفنّية المفقودة من المتحف ببغداد لعام 2003 وهو كذلك عضو نقابة الصحفيين العراقيين وعضو اتحاد الكتّاب العراقيين، عضو الهيئة الإدارية لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين من مواليد بابل حاصل على دبلوم فنون غرافيك وهو كاتب وناقد في مجال الفن التشكيلي عبر الشبكة، استطعت أن أجمع رائحة التراب بعد أول زخّة مطر ليشتمّها كل قارئ لهذا الحوار، ببعض الأسئلة الموجّهه للفنان العراقي الأستاذ صلاح عباس:

 أستاذ صلاح هناك مثل يقول:(يختبر الذهب بالنار) فهل ما مرّ على العراق من أمور وحروب ومصائب وويلات والتي يختصرها البعض بكلمة (ظروف) هي سبب لاستخراج إبداعاتك الفنّية والأدبية أم هناك أمور أخرى أكثر تأثيرا، علّك تحدثنا عن سرّذلك الإلهام الكائن بداخلك منذ بدايته؟
 منذ سنة 1977 ابتدات بنشر المقالات والقصص القصيرة في العراقية والعربية كما كتبت عددا من النصوص المسرحية التي تدخل في باب المسرح التجريبي مُثل أكثرها في مسارح بغداد وبابل كما كنت منشغلا بالرسم والمشاركة في المعارض التشكيلية التي كانت تقام داخل العراق ناهيك عن اهتماماتي الأخرى في مجالات التصميم الطّباعي وتصميم الديكورات المسرحية وغير ذلك إلا أن الحرب الاستنزافية مع إيران والتي ابتدات سنة 1980 وضعتنا في حيز ضيق جدا وحجبت عنا الطموح والاستمرار في العملية الإبداعية.فالحرب كما تعرفين هي الموت دائما فلا رابح فيها ولا منتصر وهذه الحرب استلبت منا أجمل سنوات عمرنا تلك السنوات الفتية المؤججة بالطموح والأمل وكما قال احد أصدقائنا الشعراء : شكرا لكل تاريخ الحروب لأنني بقيت حيا .
لكن وبعد أن استمرت الحرب أكثر من ثماني سنوات تدفق الدم مجددا في الحرب الكريهة مع الكويت الشقيقة فالحياة في العراق كانت أقسى، و جهنم ارحم منها فالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كانت عجلتها تسير ببطء شديد ، إذ كانت أحلامنا تتداعى شيئا فشيئا. وبعد سنة 2003 فقد اختلف الوضع تماما على الرغم من كل الجروح العميقة وعلى الرغم من الموت المجاني والخسائر الفادحة فإننا وفي حيز الثقافة والإبداع نعمل من أجل مواكبة العالم والتطلع إلى الغد المضيء فالديمقراطية في العراق تمثل مشروعا ثقافيا وتنمويا ، له تأثير بالغ على حياة المبدعين في الحقول الإنسانية في العراق وأنا واحد منهم وقد تجاوز عمري الخمسين عاما أعمل على استخراج مكنوناتي التي استحالت فكلما أقشط طبقة من المؤجلات تظهر طبقة أخرى أجمل منها .

لقد أتاحت لنا الديمقراطية فرصا ثمينة للإعلان عن الأنا المبدعة وها هي قطوفها بين أيدينا ، عبارة عن ثمرات طيبة تستحق الكدح للحصول عليها .

 الفنان حسب رأي ( جورج براك).صديق بيكاسو الوحيد، كمتسلّق الجبال لأنّه كان يربط مصيره بمصير بيكاسو للنهاية،كذلك الأمر بالنسبة للفنان العربي باتّباعه مدرسة أو أسلوب فنا ن غربي، كل حسب قناعته،أما التشكيليون العراقيون فكل حسب ميوله أم لك رأي آخر بهذا الموضوع؟
 أنت تعرفين الفوارق الأساسية بين الفكر الأوربي والفكر العربي والإسلامي وكذلك المنجزات الإنسانية المتفرعة عن الثقافة كالفنون الجميلة والفن التشكيلي حصريا فالفكر الأوربي يتمسك بتطبيقاته العملية على الأرض أي انه يعيش مثل أي كائن حي، يولد ثم ينمو ثم يثمر ثم يموت هكذا هو الجدل المتماسك مع اشتراطات الحياة ولكن للأسف الشديد فان الثقافة والفكر وحتى المعرفيات المكتسبة من خلال نظرتنا القومية فإنها تعد سباحة في الهواء أو أنها مناغمة للأوهام والتخرّصات فإذا كانت مقارنتك بين بيكاسو وبراك فان ثمة صلة زمانية ومكانية تلاقي الاثنين في حيز واحد وهو حيز التأسيس الفني والإبداعي ولكننا في العراق وفي أرجاء الوطن العربي نعمل وفق معطيات الحداثة بطريقة المسايرة والمواكبة أي إننا لنحاول المغامرة كيف نقف على عتبة الريادة والتاسيس فكل المحاولات المقدمة في مجالات الثقافة والاداب والفنون إن هي إلا محض أصداء تتردد فالمعنى الكامل في فنوننا يكون في النهج المعاصر لا الحداثي وما بعده، فالحداثة هي التأسيس أما المعاصرة فهي المسايرة وكل ذلك ناتج عن طبيعة الحياة المجتمعية واليات اشتغالها ولكي تنهض الأمة بمشروعها الثقافي فما عليها سوى المقدرة على تحرير المجتمع من المقدسات التي هي بمثابة أصنام، والنظر إلى التاريخ باعتباره مادة خام من الماضي وفسح المجال واسعا أمام الفنانين كي يظهروا ذواتهم .ويعملوا (الأنا) عندهم، وبذا ستكون التجارب مستندة على ارض قوية، وستكون الأفكار محض مشاريع قابلة للتحقق.

 يقول (بول جونسن)في كتابه (تاريخ جديد للفن)أن بيكاسو شرع في رسم بورتريه لزميلته (كرترودآستين)التي أنهكها المثول أمامه في 80 جلسة .وأنهى قبل أن يتوقف بالتعديل النهائي للوحة إلى تشويه عنيف وشنيع في معالم زميلته دون فقدان جمالية اللوحة التشكيلية ،ليربط هذا العمل الواعي بحاجته النفسية اللاواعية إلى التعبير عن موقفه من النساء المومسات وبنات الهوى،هي من أسباب نهج بيكاسو للتشويه وما سمّاه بالتكعيبية أو التكنيك للتكعيبية التي اتبعها (براك سيزان)،برأيك لو أن كل فنان عبّر بطريقته ،فكم مدرسة من المدارس الفنّية أصبح لدينا باعتبار أن الحركة التكعيبية ظهرت حصيلة مؤثرات وظروف عديدة؟
 حين ولدت التكعيبية كانت مقرونة بحتميات وجودها، فكما اشرنا، بأن الفكر الأوربي يستند على ممكنات تحققه على ارض الواقع العملية، فإن ظهرت في أوربا وأمريكا عمارة تكعيبية وشوارع تكعيبية وطبائع بشرية تكعيبية فمثلما ظهرت الوجودية التي تزعمها جان بول سارتر والبيركامي ظهرت نزعات وجودية شملت مفاصل الحياة المختلفة هكذا هو ديدن الفكر الأوربي وحين عمل بيكاسو على منهجه الفني إنما أراد أن يثبت وجهات النظر الجمالية المفعمة بالديالكتيك والجدل المستمر فالعمل على إحالة القبح إلى جمال أو بالعكس كان ذلك يشغل بيكاسو وغيره من الفنانين العالميين من جيل مطلع القرن الماضي .

أنت تعرفين تاريخ الفن العام كما أنك مطلعة على الفنون الحداثية فاغلب التجارب المقدمة كانت من رحم الفكر الأوربي ولهم قصب السبق في ذلك والحال نفسه مع كل فروع العلوم والتقنيات المتقدمة فإنها من عمل الأوربيين والأمريكيين وأننا في العالم العربي والإسلامي لا حيلة لنا سوى أن نكون مستهلكين لا منتجين ولذا يجب وضع افتراضات جديدة تؤمن لنا طرق الوصول للالتحاق بالعالم .

 هناك رموز قد يستخدمها بعض الفنانين في لوحاتهم مثل الفنان الهولندي (فان كوخ)الذي خلق أسلوب تعبيري متمّيز بالرمزية،فمثلا اتخذ الغراب رمزا للموت والخراب ،والغيوم الحلزونية نذيرا للعاصفة ......إلى آخره،فهل هناك رموز تستخدمها في أعمالك ،حبذا لو تحدثنا عنها؟أم أنك لا تستخدم هكذا أشياء؟
 لك أن تدركي بان الرموز هي محطات للوعي التاريخي، بالإشارات والمفردات وكل التلميحات، فالرموز تبدأ مع معرفتنا بالأبجدية وتتداخل بقوة كي تكون قاموسا متسعا من المعرفيات والمحسوسات، ومنذ الحضارات المبكرة انشغل الإنسان بالرمز ،وحين انطلقت ريشة فان كوخ لتعبر عن عمق الإحساس بالمشاهد المرئية كان يفكر بطرائق متماسكة، مع شعوره الداخلي الدافق المؤيد بصدقه مع ذاته المتصلة بالكون الفسيح، وأنا اشتغل على الرمز من منظور ارتباطه بالأغراض الإنسانية النبيلة والمهذبة، لا لكي اخلق انسجاما بيني وبين الأخرين بل لأن حقبتنا التاريخية بعد كل المكابدات والمحن التاريخية تحفز فينا الشعور بالتماسك مع الأخرين والعمل على تنوير بصائرهم .

 ابتعادا عن الحروب والسلوك أو الغاية ،ووفق نظرة عقلانيّة وحياديّة،نلاحظ أن بريقا غربيا يشدّ التشكيلي العراقي المغترب فهل من السّهل عودته إلى العراق بكل ما تحتويه من جذور وإرث عراقي ،هل هو قادر على عودته إلى عراقه ليرسم طبيعتها وأشجارها الخضر،أم أنّ تغيّر حياته ومتطلباتها أدّى إلى تغيير أدواته وتقنياته ومفاهيمه ومعاييره التشكيلية إن صحّ التعبير،إذ أن البعض أصبح يرسم لوحته باستخدام تقنيات ألكترونيه فتبدو لوحته فراشة هجينة الألوان داخل متحف من أحد المتاحف الغربية كمتحف أثينا أو دبي إلخ............برأيك هل لديه القدرة على العودة للبدء من جديد؟
 نعم لدينا فنانون عراقيون يشتغلون في منطقة الفن المتقدم ذلك الفن الذي يحسب له ألف حساب نذكر منهم : ضياء العزاوي ، رافع الناصري ، علي طالب ، احمد البحراني ، مظهر احمد ، هاني مظهر ، عمار سلمان ، بشير مهدي ، سعد علي ، إبراهيم العبدلي ، محمد غني حكمت ، محمد مهر الدين ، وأخرين غيرهم أنهم جميعا فروا من جحيم العراق ليواصلوا رسالتهم الإبداعية في الخارج وأنا اعمل الآن على لم الشمل وإعادة الحياة للمشهد التشكيلي في العراق من خلال التشارك وتنظيم معرض وطني كبير يقام في بغداد وفي عدد مجلة تشكيل المقبل سأكرس ملفا كبيرا عن تجارب الفنانين العراقيين في الخارج ، سأجمعهم في حاضنة جميلة اسمها مجلة تشكيل فهناك استجابة من جميع الفنانين للمشاركة في الهم الإبداعي والإنساني ولكي نظهر للعالم صورة الفن العراقي المشرفة فما علينا إلا المصالحة مع أنفسنا أولا ومع الآخرين ثانيا.

 قرأت في إحدى المقابلات الصحفية التي أجريت معك بأنك تواصل في تأليف كتاب(النحت العراقي المعاصر) وأيضا تشرع في إصدار كتاب للفن التشكيلي في أزمنة الحرب –حبذا لو تكرّمت -وتحدّثت عن مضامين هذين المؤلّفين؟
 لقد أنجزت مؤخرا كتاب عن تجربة النحات صالح القره غولي / معد الآن للطبع كما إنني منشغل باستمرار في تحرير مجلة تشكيل والكتابة في أدلة الفنانين العراقيين ولقد فتحت نافذة مع الفنان هيثم فتح الله مدير مطابع الأديب ومقرها في عمان كي نستمر في نشر المؤلفات الخاصة بالفن التشكيلي العراقي المعاصر، ومن موقعي الوظيفي / مدير قسم الثقافة الفنية في وزارة الثقافة ، سنعمل على تلقي النصوص الإبداعية بعد أن يصار إلى تخصيص مالي يكفي لنشر الموسوعات الفنية والكتب المختلفة وبصراحة ، يعتبر هذا الكلام سابقا لأوانه ومن ضمن المواضيع المؤجلة لحين ما تتاح الممكنات الإنتاجية اللازمة.

إن لدي كتابا عن النحت العراقي المعاصر وعن تجارب الفنانين العراقيين في زمن الحرب إلا أن ممكنات الإنتاج شحيحة جدا ولكننا سنعمل على إتاحة الفرص لنا وللآخرين كي نظهر صورة الفن العراقي المشرف للعالم .

 منذ العقد السابع وحتى بداية عام 2000 كان العراق أهم بلد عربي في جميع المجالات وقد ذكرت في أحد اللقاءات بأنك سوف تسعى إلى تأسيس متحف لتسمّيه(متحف الغد العراقي)علّك تحدّثنا عن ذلك المشروع العظيم وهل هو قائم للتنفيذ أم عدلتم عنه ولو مبدئيا؟
 لقد وضعنا أمام أنظار المسؤولين في وزارة الثقافة الكثير من المقترحات العملية التي من شانها الإسهام في بلورة الوعي ،ونشر الفنون العراقية على أوسع نطاق ،ولكن الإجابات التي كانت تردنا علينا هي : التخصيصات المالية الشحيحة المقررة لوزارة الثقافة، فسياسة الحكومة العراقية ،كانت تعتمد على عمى الناس ولذا فان أي آلية لتبصير الناس سوف لن تخدم أغراضهم.

إننا نعمل لكي نلتحق بالعالم الحديث، ومن منطلق متحرر من العقد والولاءات والإملاءات، ولكن هناك أحجار ترمى في الطريق ومن المؤسف حقا ألاّ نجد إسنادا مناسبا يدعم الثقافة، ويلبي احتياجاتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى