الاثنين ٣ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم فتحي العابد

أرض عبقر

ما زلتُ أنهجُ مِن مُراكضتي وراءكِ
قبلَ ألفٍ مِن سنينْ!
ما زال يكتنفُ الوجودَ بخافقي
صوتُ المسافةِ في الأنينْ!
فمتى تُرايَ سأستريحُ بحاضري
مِن كلّ ماضيكِ الحزينْ؟!

في ذلك الماضي، الذي يصفه بعضنا بـ"الجاهلي"، ويظن أغلبنا أن صفة "الجاهليّة" فيه مرادفة لصفة "الجهل والتخلّف"، نقف على أطلال شعرٍ لا يستقيم حضوره مع غياب المعرفة والفكر والخيال والإبداع عن أهله، بحال من الأحوال.

نعم، لقد كانت خياليّة الشاعر القديم، خاصة في العصر الجاهلي، أرقى وأعمق بكثير من خياليّة الشاعر في عصرنا هذا، هم الذين اختارهم الشعر واستضافهم ومنحهم بطاقة الدخول إلى "أرض عبقر" كما يسمي بعض المؤرخون تلك الفترة من الزمن، التي انحسرت فيهم وعليهم عبقرية الإبداع، وأذن لهم الشعر بالغوص في بحوره اللامتناهية العمق والحدود والسر والسحر، تلك الفترة العميقة والغنية بالشعر الذي اختار الشعراء وليس العكس، ومنحهم رموز سره وسحره الإستثنائي ولم ينحاز لموقع "ريف أو حضر"، كما أنه لم يتعنصر إلى لون أو عرق، فعنترة لم يكن سيدا في قومه من مبتدأ أمره.

وليس السبب في ذلك أن حياة العرب القديمة اجتماعيّا وحضاريّا، كانت أرقى من حياة المجتمعات في القرون المتأخرة فحسب، ولكن كذلك لأسباب لغويّة. والتلازم بين اللغة والمستوى الحضري أمر بديهي. آية ذلك أن اللغة العربيّة التي أنزل بها القرآن الكريم كانت قد بلغت في نموذجيّتها، وفصاحتها، مستوى لم تبلغه أي لغة قط، وليس من قبيل الصدفة أن الله اختارها لكتابه الذي هو ذروة عظمتها التعبيريّة، البالغة حدّ الإعجاز البلاغيّ، ولهذا بلا ريب تأثيره في فكر الإنسان، ونظامه العقليّ والروحيّ والحياتيّ. لن تكون لغةٌ كتلك التي صيغ فيها الشعر الجاهلي إذن لرعاع من البشر، لم يبلغوا شأوا راقيا جدا في فكرهم وذوقهم وأدبهم. وإذا خرجنا من مقياس الماديات بكل أشكالها مقياسا، أمكن القول: إن بداوة العصر الجاهلي كانت أرقى بما لا يقاس من بداوات العصور المتأخرة، فنا وخيالا وتعبيرا، وربما مجتمعا. وليست العبرة في هذا بالجانب العقدي كذلك، فالإغريق على سبيل المثال كانوا أمّة أسطوريّة وثنيّة، تؤمن بتعدّد الآلهة، لكنهم كانوا في الوقت نفسه ذوي فلسفة، وفنون، ومسارح، وملاحم، ظلّ العالمُ عليهم فيها عالةً إلى اليوم. وإلى جانب شِعرالعرب وأدبهم، فضلاً عن آثارهم التي عُثر عليها مؤخّرًا في الجزيرة العربيّة، فإنه يدلّ على رقيّ العرب، الموصوفين بالجاهليّين عقيدة واجتماعا، وأنهم لم يكونوا كما نتصوّرهم عادة متخلّفين كعرب الصحراء في القرون المتأخرة، ذلك الفكر الذي سجّل القرآن الكريم أنهم كانوا يجادلون من خلاله النبيّ والذين آمنوا، ويقاومون الدّين الجديد برمّته. وهو ما استدعى أسلوب الحوار الإستدلاليّ أسلوبًا في مواجهتهم، واستراتيجيّة الجدال المنطقي، لإقناع أولئك القوم "اللُّدّ"، كما يصفهم القرآن.

ولعل أهم روائع القصيدة الجاهلية في ذلك الوقت، وقمة البلاغة في اللغة والتعبير، وقوة الإحتمالات التعبيرية الزاخرة بها تلك القصيدة، والنمط الفني الراقي لها، ماقاله امرئ القيس: "مكرّ مفرّ مُقْبِل مُدبر معا < > كجلمود صخر حطّه السيلُ من علِ"، حينما صوّر الحِصان بلغة شعريّة أشبه ما تكون بالرسم السورياليّ، أو قل: صوّره في لوحة أسطوريّة. وذلك ما خلق جماليّة صورته، التي تلبّث عندها النقّاد..! إنها صورة يمكن أن تُقرأ قراءتين:

أولا: "مكرّ مفرّ مُقْبِل مُدبر (معًا)"، وهو في كلّ هذه الحالات كأنه يتحرّك حركة اندفاعيّة واحدة، "كجلمود صخر حطّه السيلُ من علِ".

ثانيا: مكرّ كجلمود صخر حطّه السيل من علِ + مفرّ كجلمود صخر حطّه السيل من علِ + مُقْبِل كجلمود صخر حطّه السيل من علِ + مُدبر كجلمود صخر حطّه السيل من علِ.

لذا جاء في تحليل هذه الصورة في كتاب "مفاتيح القصيدة الجاهليّة": إنها "تُلحظ آثار المناخ الأسطوري في عددٍ من الأوصاف التي يضفيها الشاعر على فرسه. فهو: مُنجرد. وصفة الإنجراد هنا ليست بصفةٍ شكليّة، أي أن شَعره خفيف كما يرد في شروح اللغويّين، فقط، ولكن المعنى يتجاوز هذا إلى أن الفَرَس منطلق لا يقرّ، ومُجرّد، لا تكاد تحيط بمعانيه صفاته… ولذا ففَرَس امرئ القيس مِطْواع للفعل فاعل بنفسه في آن: "مِكَرّ مِفَرّ.. مُقْبِل مُدبِر معًا.. كجلمود صخر حطّه السيل من عَلِ"، في تزامنٍ حركيّ متضادّ، مستحيل، لحيوان خرافيّ، فوق الزمن والواقع. وتلك صورة تعلّق بها نمط فَرَس الشاعر، حيث تتكرّر لديه".

فهذه القصيدة الجاهلية تخضع تارة لبناء فني موضوعاتي تتحكم فيه ظروف الفن والصنعة الشعرية ، وتارة لبناء بسيط تتحكم فيه ظروف الواقع والحياة، فتكون في البناء الفني ممثلة لغلبة تجليات الفن على الواقع، وفي البناء البسيط ممثلة لغلبة تجليات الواقع على مجال الفن، فإنها من حيث التركيب خاضعة لنفس الثنائية، أي ثنائية الواقع والفن، مما جعل التلاحم الفطري بين العربي في تلك الفترة والبيئة ببعديها الإجتماعي والطبيعي، هو الذي أدى إلى تلك العبقرية والإستمرارية عند امرئ القيس، لاسيما أن البيئة الطبيعية هي نفسها التي أثرت كذلك في شعر الأعشى ولبيد والقتال الكلابي والنوابغ وشعراء هذيل وابن أحمر وغيرهم من بعد.. وبقي ذلك الترابط الإجتماعي قوي إلى حد كبير، حتى أولئك الذين أقلتهم مراكب الإسلام إلى البر الإفريقي، إذ اختاروا لأنفسهم حياة تمثل استمرارا لما كان عليه آباؤهم من التحام بالبيئة مراحا ومرادا ومرعى ومنهلا وملعبا، وظواهر طبيعية تتوالى في فصولها، وأجراما تتلألأ في سمائها، ومن التمسك بالوشائج القبلية التي يلوذ بها الإنسان إذ ضاقت عليه أسباب الحياة.

إن القصيدة الشعرية عندهم ليست بناء فحسب، بل تركيبا أيضا، والبنية التركيبية للقصيدة الجاهلية لم تأت على نسق واحد في جميع القصائد التي أنتجها العصر، بل جاءت متباينة سواء على مستوى الضمير، أو على مستوى الألفاظ والعبارات، أو على مستوى الأساليب التداولية المعتمدة في الخطاب الشعري، فبنيتها تهتم كثيرا بالعملية التواصلية. فالشاعر يريد من خلال تراكيبه إيصال مجموعة من الأفكار والمعاني والدلالات التي تندرج ضمن ما يسمى بالبنية الدلالية للنص. إن التركيب يقدم ويبين طريقة التواصل والوسيلة التعبيرية التي استعان بها امرئ القيس مثلا لإيصال مضامينه، تجمع بين الواقعية المباشرة، والفنية الإنزياحية.. فتلك الإبداعات الشعرية، كانت متكاملة منسجمة ومتماسكة لا تناقض فيها. ولا غرو في أن تركيب القصيدة الواقعية في العصر الجاهلي كان يعتمد مبدأ الإنسياب التركيبي الملائم لإنسياب الأفكار والدلالات على قريحة الشاعر.

إن التركيب الذي يسعى من خلاله الشاعر إلى تحقيق هدف واحد هو إيصال أفكاره إلى المتلقي بطريقة شعرية مباشرة ، هو تجل من تجليات الواقع في القصيدة الشعرية الجاهلية .

يقول جان كوهن في كتابه بنية اللغة الشعرية: "أن الشاعر لا يتحدث كما يتحدث الناس جميعا، بل إن لغته شاذة، وهذا الشذوذ هو الذي يكسبها أسلوبا". إن شذوذ لغة الشاعر حاضر دائما سواء تعلق الأمر بالتركيب الخاضع لمبدأ الواقع، أو ذاك الخاضع لمبدأ الفن والصنعة. ففي أبيات امرئ القيس تكمن خطورة التركيب اللغوي وأهميته في نسيج العمل الإبداعي، فالتركيب الذي ينتجه هذا النوع من الشعراء يختلف عن التركيب اللغوي لأي شاعر عادي يستعمل لغة يومية عادية لا أثر فيها لخرق أو انزياح… إن هذا الإختلاف هو الفيصل بين الإبداع واللا إبداع، كما أنه أحد العناصر المحددة للأجناس الأدبية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

إن امرئ القيس يستعمل اللغة لأنه يسعى إلى تحقيق التواصل مع من بعده، أي "يريد أن يفهم، ولكنه يريد أن يفهم بطريقة ما. إنه يهدف إلى إثارة شكل خاص من الفهم عند المتلقي، يختلف عن الفهم التحليلي الواضح الذي تثيره الرسالة العادية" كما يقول صاحب كتاب بنية اللغة الشعرية.

إن قصيدة كقصيدة مالك بن الريب التي يظهر فيها تحسره على الحياة ومظاهرها، بعد أن أدرك أن الموت العاجل نهايته المحتومة يقول فيها:

ولما تراءت عنـد مرو منيتـي
وخل بها جسمي وحانت وفاتيـا
أقول لأصحابي ارفعـوني فإنني
يقـر بعيني أن سهيـل بدا ليا
بأن سهـيلا لاح من نحو أرضـنا
وأن سهيلا كان نجما يـمانيـا
ويا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا
برابية إنـي مقيــم لياليـا
أقيما علـي اليـوم أو بعض ليـلة
ولا تعجلاني قـد تبين ما بيـا
وقوما إذا ما استـل روحي فـهيئـا
لي السدر والأكفا ثم أبكيا ليا
وخطا بأطراف الأسـنة مضجـعي
وردا على عيني فضل ردائيـا

فهي بعيدة عن ذلك التكلف التركيبي الذي طال أبيات قصيدة امرئ القيس، رغم أنها تحمل إنسياب لغوي تركيبي ملائم لذلك التدفق العاطفي الحزين الذي ينبع من أعماق الشاعر ، معبرا بذلك عن عفوية تقارب الواقع دون أن تبتعد عن الفن والجمال، عفوية شعرية راقية جعلت من هذه القصيدة إحدى روائع الشعر العربي.

إن التركيب اللغوي لهذه القصيدة يستجيب للظرف الواقعي الصعب الذي يعيشه الشاعر، وهو قريب من ذلك الشبح المفزع والمرعب: الموت، كما يستجيب للخصوصيات الفنية الشعرية، وهذا ما يجعلها تجليا للواقع على مستوى التركيب. وهو ممثل للواقع كذلك، ولا يعتمد تلك الصيغ الشعرية التعبيرية التي أصبحت صيغا نمطية متعارفا عليها لدى الشعراء فيما بعد، ويتضمن في الوقت نفسه دلالات إيحائية، وبهذا فهو يشكل طريقة من طرق التعبير لدى الشاعر الجاهلي، طريقة اتهمت من قبل بعض النقاد بالتقريرية، حيث يقول مصطفى بدوي في كتابه "دراسات في الشعر والمسرح": "إن الشعر العربي القديم في جوهره شعر تقريري تستخدم فيه الألفاظ بكل ما فيها من قوى تقريرية، وتكاد لا تستغل فيه إمكانياتها الإيحائية..."، وغالبا ماجاء تركيب هذه القصائد منما ومعبرا عن رؤية الشاعر الذاتية للواقع والحياة. والذاتية لا تعني التفرد، بقدر ما تعني الخصوصية التي تجعل الشاعر مستقلا في تراكيبه وعباراته وكلماته، وإن كان يعبر عن موضوع أو مواضيع مشتركة وعامة.

إن أمثال امرئ القيس من الشعراء قد خضعوا للنمطية التعبيرية تارة، وثاروا ضدها تارة أخرى. وهذا يعني أن هذه الثورة في القصائد المعبرة عن الواقع بدرجة أقوى كانت متعمدة. إن الشاعر يسعى من خلال هذه القصائد التي يعتبرها مرآة لذاته ومجتمعه وواقعه إلى توظيف التراكيب التي تسعف أفكاره، وتتلاءم مع آرائه وتطلعاته. إن الشاعر يستسلم لهذا الفرض وهذا الإجبار عندما يريد لقصيدته أن تكون تجليا للفن، وبالتالي تكون أداة لتحقيق أغراضه المادية المتنوعة، أما والحال يقتضي التعبير عن المكنونات والمشاعر الذاتية، فالشاعر يرفض، بل ويثور على كل قيد أو غل شعري اجتماعي.

ولقد كانت أسماء الحيوانات، من الأمور المكررة في قصائد شعراء الجاهلية. هذه الأسماء لم تكن لتحتل وحدات شعرية خاصة بها، وإنما كانت تأتي في سياق الأحداث التي يعيشها الشاعر الجاهلي الصعلوك في أثناء صراعه من أجل البقاء، صراعه ضد الظلم والفساد والطبقية، صراعه ضد الأعراف الإجتماعية المستبدة. ولعل لفظتي الذئب والضبع وردتا كثيرا في أشعار الصعاليك، من ذلك قول الشنفرى في اللامية:

ولي دونكم أهلون: سيد عملـس
وأرقط زهلول وعرفاء جيـئل.
 
وقوله كذلك:
 
وقالوا لقد هرت بليل كلابنا
أذئب عس أم عس فرعـــــل.
 
وقول الأعلم الهذلي:
 
فأكــــون صيدهم بـهـا
للذئب والضبـــع السواغـب
جزرا وللطيـــــر المربــة
والذئــــاب وللثعالب.

إن هذه القصائد ذات التركيب البسيط، لتشكل رفضا قاطعا للنمطية التعبيرية والتركيبية بكل أشكالها . هذا الرفض قد يتنازل الشاعر عنه، وبسرعة كبيرة في قصيدة موالية.

ومن المظاهر التركيبية لهذه القصائد الشعرية التي يبرز فيها الواقع بشكل كبير، بنية الضمير الموظف، والذي يأتي غالبا دالا على الأنا المعانية والحزينة. إن المعاناة والحزن يطغيان على نفس الشاعر وذاته في أغلب القصائد ذات البناء والتركيب البسيطين، البعيدين عن كل نمطية فنية فرضتها البيئة الثقافية الجاهلية.

إن الضمير الدال على الفردية يؤكد سعي الشاعر الحثيث لإبراز خصوصيته في هذا النوع من القصائد، تلك الخصوصية التي يفقد جزءا كبيرا منها في القصائد المعبرة بشكل كبير عن المظاهر الفنية للشعر. ومن أمثلة ذلك قول يزيد بن خذاق، وهو يروى للممزق واصفا حالته بعد الموت، وذاكرا مراسيم موته ودفنه:

هل للفتى من بنات الدهر من واق
أم هل له من حمام الموت من راق
كأنني قد رماني الدهر عن عرض
بنافـذات بــلا ريـش و أفواق
إذ غمضوني وما غمضت من وسن
وقال قائلهـم أودى ابـــن خذاق
ورجلوني وما رجلت من شـعث
وألبسونـي ثيابــا غيــر أخلاق
ورفعوني وقالوا أيمـا رجل
وأدرجوني كأني طــي مخراق
وأرسلوا فتية مـن خيرهم حسبا
ليسندوا في ضريح الترب أطباقـــي
هون عليك ولا تولـع بإشـفـاق
فإنمـا مالنا لـلواحــد البـاقي.

هذه القصيدة من النمط العاطفي. إنها قصيدة يتجلى فيها حضور الواقع بقوة دون إلغاء لعنصر الفن. إن الواقع الذي يتعرض له الشاعر خاص به شخصيا، إنه واقع الموت والفناء الذي سوف يحيط به بين عشية وضحاها، لذلك فهو يستعمل ضمير الأنا استعمالا صادقا للتعبير عن عواطفه وأفكاره وأحاسيسه، اتجاه هذا الحدث الخطير والمصيري الذي سوف يتعرض له.

إن ضمير الأنا في هذه القصيدة ليساهم في إغناء النص الشعري بذلك الإيقاع الحزين، وتلك الرنة الموسيقية المأساوية، مما يوفر له جمالية كبرى تؤثر وبشكل كبير في المتلقي.

إن وجود ضمير الأنا يضفي على القصيدة الشعرية صفة الواقعية، فتتحول حادثة الموت من تجربة إنسانية حزينة إلى تجربة ذاتية وشخصية أشد حزنا ومأساوية. ولعل التعبير عن الواقع هو أول الأمور التي تسعى إلى تحقيقها هذه القصائد.

إن الجسد الميت في هذه القصيدة هو جسد الشاعر، والكفن هو لباسه، وتلك الحفرة المظلمة التربة هي قبره الذي يرمى فيه، وذلك المال المتبقي هو ماله.. كل هذا يجعلنا نقول بأن "الأنا" مرتبطة بالمعاناة الذاتية.

ومثل هذه القصيدة قول متمم بن نويرة في قصيدته الموجودة في الجمهرة للقرشي ومطلعها:

لعمري وما دهري بتأبين مالـك
ولا جزعا مما أصــاب فأوجعا.

هذه القصيدة التي قالها في رثاء أخيه مالك الذي قتل، في من قتل من مانعي الزكاة والمرتدين زمن أبي بكر. إنها قصيدة قيلت في العصر الإسلامي، لكنها ليست إسلامية، بل جاهلية. يقول فيها متمم واصفا حزنه وجزعه لفقد أخيه في نفس الكتاب:

وحسبك أني قد جهدت فلم أجد
بكفي عنه للمنــــية مدفــعـا
وما وجد أظآر ثلاث روائم
رأيـن مجرا من حـوار ومصرعـا
فذكرن ذا البث الحزين بشجوه
إذا حنت الأولى سجعن لها معـا
إذا شارف منهن حنت فرجعت
من الليل أبكى شجوها البرك أجمعا
بأوجد مني يوم فارقت مالكـا
وقام به النائي الرفيـــع فأسمعا
وإني وإن هازلتني قد أصابني
من الرزء ما يبكي الحزين المفجعا.

إن الشاعر يستعمل ضمير المتكلم للتعبير عن فقد أخيه. إن هذا الموقف الهام يجعل الشاعر ينفي القبيلة، وينفي المجتمع بأسره ما دام هذا المجتمع لا يبالي بموت أخيه مالك، وإن بالى به، فلا تتعدى مبالاته التحسر الآني والسريع. إن هذا الموت يشكل بالنسبة للشاعر نهاية حياة سعيدة قضاها وأخاه، نهاية الفرح والنشوة والشعور بالحياة، وبالمقابل بداية التعاسة والمأساة.

إن واقع الشاعر العاطفي والشعوري المرتبط بفقد أخيه لا يمكن أن يتجلى ويتضح على المستوى التركيبي، إلا من خلال استعمال ضمير "الأنا"، وبتكثيف شديد كثافة أحاسيس الفراق والحزن التي تغمر عقل ووجدان الشاعر.

إن ضمير الأنا حاضر بقوة في القصائد التي تقدم رؤية ذاتية للواقع بمختلف أنواعه المادي والمعنوي.

ويقول متمم بن نويرة كذلك في المفضليات:

أرقت ونام الأخلياء وهاجنــي
مع اللـيل هم في الفؤاد وجيع
وهيج لي حزنا تذكـر مالــك
فما نمــت إلا والفؤاد مروع
إذا عبــرة وزعتها بعد عـبرة
أبت واستهلت عبرة ودموع .

إلى أن يقول من نفس القصيدة:

إذا رقأت عينــاي ذكرني به
حمام تنـادى في الغصون وقوع
دعون هديلا فاحتزنت لمالـك
وفي الصدر من وجد عليه صدوع
كأن لم أجالسه ولم أمس ليلـة
أراه، ولم يصبح ونحــن جميع.

إن الشاعر في هذه الأبيات يحمل جميع المآسي الإنسانية في فؤاده وعقله. إن موت أخيه مأساة إنسانية جليلة بالنسبة إليه وحده، لهذا عبـر عن مشاعره بضمير المتكلم، ما دامت هذه المشاعر خاصة به دون الآخرين. إن الآخرين لا مكان لهم في مصيبة الشاعر على المستوى الواقعي والمادي، لذلك فإن إلغاءهم على المستوى الشعري هو من قبيل تغليب الجانب الواقعي في هذه القصيدة.

إن مفهوم القبيلة أو المجتمع غير حاضر بشكل واضح في القصائد التي يغلب عليها التجلي الواقعي، ما دامت هذه القصائد تعبر بتركيبها عن رؤى ذاتية للوقائع والأحداث التي تمس حياة الشاعر الجاهلي.

إن ضمير الجماعة: الـ"نحن" أو الـ"هم" يعني الحديث عن قضايا تهم الآخرين، تهم مجتمع الشاعر، وهذا يتطلب الرضوخ في أثناء الإنشاد الشعري للقواعد الفنية التي تتعارف عليها القوى الثقافية والفنية المشكلة لهذا المجتمع، بل والرضوخ للعادات الفنية الشعرية التي تعود عليها المتلقي العادي المنتمي لذلك المجتمع.

إن ضمير "الأنا" في القصيدة الواقعية هو إثبات للأنا ولأفكارها، وإلغاء "للآخر" بكل أشكاله، إلغاء فرضته طبيعة الموضوع، والطريقة المتبعة لعلاجه والتطرق إليه شعريا وفنيا، كما يقول المتنبي:

إني أنا الذهب المعروف مخبره
يزيد في السبك للدينار دينار.

ويحضر ضمير "النحن" في القصائد ذات التجلي الواقعي كذلك، لكن حضوره مطبوع بطابع خاص، طابع يجعل من "النحن" "أنا" واحدة، حيث تندمج الجماعة في الفرد، ويتحول الآخرون كلهم إلى إنسان واحد. وبهذا الشكل تختفي الإختلافات والتمايزات بين الناس ليوحدهم شكل أو شعور أو فكر واحد.

يقول إمرئ القيس في ديوانه:

أرانا موضـعيـن لأمر غيب
ونسحــر بالطعام وبالشـراب.

إنه يعترف، بل يؤكد بأن الجميع سوف يتعرضون لأمر غيب مجهول، سوف يلقون مصيرا واحدا، مصيرا مجهولا لا يعرفه أحد رغم أنهم يسحرون في هذه الدنيا بالعيش والطعام والشراب والملذات. إن الجميع مفتونون ومنشغلون بأمور الحياة يتناسون المصير المؤلم: الموت. وماذا بعد الموت؟ لا علم لأحد بذلك.

إن امرئ القيس هنا يتكلم بضمير "النحن" لكن الجماعة في هذا المقام تتحول إلى مفرد هو الذات الإنسانية. إن "الأنا" يعيش نفس حياة "النحن" ويتهدده نفس المصير المجهول الذي يتهدد البشر بأكملهم.

إن ضمير الجماعة في هذا المجال لا يشير إلى الجماعة ممثلة في القبيلة أو العشيرة، وإنما يشير إلى الذات الإنسانية في شموليتها وكليتها، حيث تنتفي تلك الخصائص والصفات الجزئية التي تميز بين فرد وآخر.

إن مشكلة الموت وما بعد الموت بالنسبة للإنسان الجاهلي كانت مشكلة فرد وجماعة في نفس الوقت، فقد كان الجميع يتساوون في معاناتهم إزاء المصير المجهول الذي يجعل من الإنسان مجرد طلل تعفيه الرياح والأمطار، بعد أن كان ملاذا للحياة والخصب والنماء.

إن ضمير "النحن" في القصائد ذات التركيب البسيط هو تعبير في نفس الوقت عن ضمير "الأنا". و"الأنا" هنا ليست الإجتماعية أو السياسية، بل الإنسانية في شموليتها، والدليل على ذلك أن قصيدة امرئ القيس هذه تتحول من الحديث عن الجماعة "أرانا" إلى الحديث عن الفرد، حيث يقول فيها فيما بعد:

إلى عرق الثرى وشجت عروقي
وهذا الموت يسلبنــي شبابي
ونفسي سوف يسلبني وجرمـي
فيلحقني وشيكــا بالتــراب.

ويبرز ضمير الجماعة في القصائد التي تكون درجة حضور الواقع فيها كبيرة، خاصة عند شعراء الجاهلية، ثم إن تجليات الواقع حاضرة في قصائد شعراء الجاهلية على المستوى التركيبي، وذلك من خلال توظيفهم للضمير ذلك التوظيف الواقعي الذي لا تشوبه شوائب الزيف والرياء، والملاحظ كذلك أن ضمير الجماعة في الشعر الجاهلي، شمل حتى المجتمع الحيواني، حيث يجعل الشنفرى الذئب والضبع والنمر أهلا له في قوله في لامية العرب:

ولي دونكم أهلون سيد عمـلس وأرقط زهلول وعرفاء جيئل.

إن كثير من شعراء الجاهلية لم تكن تربطهم بالمجتمع أي علاقة، إلا إذا استثنينا علاقة الصراع والحرب القائمة بينهما، وقد يحضر ضمير الجماعة المعبر عن القبيلة أو العشيرة في شعر الصعاليك، لكنه يأتي بالمعنى السلبي الذي يهدد حياة الشاعر ومرافقيه ويعرضهم للخطر.

إن وجود "الآخر" في الشعر الجاهلي يعني غياب "الأنا" واندثاره. لذلك يسعى الشاعر إلى إثبات وجوده الذاتي شعريا، وذلك بإضفاء صفات السلبية على "الآخر" الذي لا يتردد في قتله إذا ما ثقفه. ويؤكد هذه الفكرة تأبط شرا الذي يصف الآخرين: مطارديه، وهم يرسلون عليه سهامهم بالنحل الذي يتعقبه، وهذا موجود في كتاب الأغاني حيث يقول:

ولم أنتظر أن يدهموني كأنهم
ورائـي نحل في الخلية واكنا
ولا أن تصيب النافذات مقاتلي
ولم أك بالشد الذليــق مداينا.

إن ضمير "الآخر" في القصيدة الشعرية الجاهلية هو شيء مرادف للعادات والتقاليد القبلية المتعارف عليها، سواء من الجانب الشعري أو الإجتماعي أو السياسي. وهذا "الآخر" استبدادي واستغلالي، محكم سيطرته على كل "أنا" تحاول الخروج عن نطاقه، لأن ذلك الخروج هو خروج عن القبيلة وتقاليدها، هو إعلان للثورة من جانب الذات، وإعلان للحرب والمطاردة من جانب "الآخر".

هكذا نرى أن بعض القصائد الشعرية الجاهلية قد تمثلت الواقع بكل تجلياته ومظاهره على المستوى التركيبي، سواء تعلق الأمر بالكلمات والألفاظ أو الجمل أو الضمائر، مبرزة بذلك، الحضور القوي للتجلي الواقعي على حساب التجلي الفني الذي لم يغب عن هذه الأعمال الإبداعية الراقية.

إن تجليات الواقع في هذه الأشعار لتظهر بوضوح في بنيتها التركيبية، مبرزة بذلك سعي مجموعة من الشعراء الجاهليين في قصائد معينة إلى إبراز رؤاهم الذاتية، والفكرية والشعورية في طابع مباشر، ومن خلال نمط شعري معين، يهدف بالأساس إلى تحقيق عملية التوصيل الشعري.

يظل الشعر الجاهلي ثريا، وينطوي على نصوص إبداعية، على قدر من الخصائص الفنية والجمالية التي لها أهميتها وقيمتها، والتي أسهمت في إبداع الشعر العربي، رغم أن هناك كثير من الحكم المتعجل والإستخفاف بالذين أسمعوا كلماتهم من به صمم، من طرف من لم يصل إلى مصاف القول، ويقول أبو علي المرزوقي في مقدمة كتابه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام مبرزا أثر الشعر في حياة الجاهليين وقيمته عندهم: "إذا كان الله عزّ وجل، قد أقامه للعرب مقام الكتب لغيرها من الأمم، فهو مستودع آدابها، ومستحفظ أنسابها، ونظام فخارها يوم النّفار، وديوان حجاجها عند الخصام". لقد عرف عظمة وعبقرية هؤولاء الشعراء من اطّلع عليهم وتعلّم منهم وغاص في أسرار أشعارهم من العرب في القديم والحديث. فالنبع منه ما زال ثريا معطاء، وعطاؤه هذا لا يقف على عصره الذي مجد فيه، ولا زمنه الذي ولد فيه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى