الثلاثاء ١٨ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم حسن أحمد عمر

كلام من فضة (عن شخصية أبو العريف)

كثيرون من الناس من يحشرون أنوفهم فيما لا يعنيهم وفيما لا يهمهم ولا يخصهم فتراهم يتدخلون فى مواضيع لم يدرسوها ولم يفقهوها ولم يحضروا لها تحضيراً جيداً ويبدون آراءاً فجة غير ناضجة تحتاج إلى المراجعة والتنقيح والتريث والمشورة قبل خروجها إلى حيز الوجود وقبل أن تصطدم بالواقع الأليم الذى لا يقبل الإعوجاج فتنهال عليهم الآراء النقدية والإتجاهات المعاكسة عن اليمين والشمال ومن أعلاهم ومن اسفل منهم حتى ينبطح صاحب الرأى أرضاً معلناً خيبة أمله واستسلامه أمام الضربات المتتالية والموجعة من المعارضين الذين هم بالتأكيد ستكون فرصتهم أكبر كلما كان صاحب الرأى قليل العلم محدود الثقافة وذا براهين ضعيفة لا ترقى إلى مستوى فقههم أو علمهم فى الأمر المقصود من ذلك المتدخل بأنفه فارضاً نفسه فى كل موقف ومحفل من أجل شهرة زائفة أو سيط زائل، مثل هذا الرأى يقول عنه الناس أنه كلام من فضة ..لماذا ؟

لأن السكون والسكوت والصمت أفضل مئات المرات من إبداء رأى خائب يضر ولا ينفع ويؤخر ولا يقدم ويفسد ولا يصلح ويهدم ولا يبنى وقديماً قالوا إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب وذلك دعماً لأن يحكم الإنسان غريزته ويكبح جماح شهوته الكلامية فلا يتحدث فى شىء يجهله ولا يبدى رأياً فى موضوع لا يعقله ولقد جاء فى الذكر الحكيم قول الله تعالى :
( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً)

وهذه دعوة ربانية حكيمة لكل ذى لبّ ألا يتكلم فى موضوع قبل أن يدرسه جيداً ويراجعه ويتأكد من معلوماته فيه فإذا كان علماً بحتاً به تجارب وأبحاث ومعادلات وجب عليه مراجعة ذلك بدقة بالغة حتى يتسنى له عرض فكرته وشرح رأيه وتبيان وجهة نظره دون أن يتعرض للنقد والتقريع والإبطال والدحض من ذوى العلم والبحث والتجربة.

ليس معنى ذلك حصر الرأى والكلام فى فئة معينة من الناس ولكن الباب –باب العلم والبحث والتدبر --- مفتوح على مصراعيه لكل راغب ولكل محب للإطلاع والمعرفة أن يؤسس لنفسه بناءاً شامخاً من العلوم والبيانات الفكرية والمعلومات التجريبية حتى يصبح جديراً بعرض رأيه فى مسألة ما دون أن يعانى نقصاً فى معلوماته أو يوضع فى مأزق محرج بسبب عدم قدرته على توصيل فكرة ما أو شرح مسألة معينة بسبب قلة خبرته أو سوء فهمه للأمر من الأساس.

وفى هذا المعنى كتب الشاعر هذه الأبيات الجميلة
يا ايها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السقام وذى الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم
لا تنه عن خلق وتأتى مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم

وشخصية (أبو العريف) من الشخصيات الشهيرة فى مجتمعنا العربى وهو الشخص الذى يفهم فى كل الأمور ويفتى فى كل المسائل ويتحدث فى الطب كأنه جراح بريطانى وفى الفلك كأنه عالم همام وفى التاريخ كأنه الجبرتى وفى الرياضيات كأنه الخوارزمى وفى الشعوذة كأكذب دجال وفى الهرطقة عمال على بطال ويتحدث فى أمور النساء والعادة الشهرية وفى أمور الرجال والمسائل الشخصية ويتكلم فى هندسة الراديو والتلفزيزن ويقوم بإصلاح الغسالة والتليفون ويدعبس فى الكمبيوتر ويزرع الأرض ويفتى فى أجود انواع البذور ويتكلم فى البقالة وأسرارها والجزارة ومعجزاتها كما يعمل فى النجارة ويجرب حظه فى الحدادة ويحاول التكلم بلغات أجنبية فيطعم كلامه بألفاظ إنجليزية حتى يوضح للسامع مدى ثقافته التوسعية وأحلامه العلمية وأطماعه الفنية وتوجهاته الأدبية فهو غير محدد المعالم وغير واضح الملامح ولا تفهم له وجهاً من قفا فمعلوماته فى جميع المواضيع ناقصة غير حقيقية وكلامه فى معظم المسائل ليس له اهمية.

فمن المستحيل أن يكون هناك إنسان يفقه فى كل الأمور ويفتى فى الكبير والصغير ويتكلم فى الشعر كأنه أديب كلاماً عجيباً مريباً غريباً فتراه فى الصباح مدرساً وفى الظهيرة مهندساً وفى الأصيل موسوساً وفى الليل طبيباً وفى اليوم التالى يتقمص أدواراً أخرى ويقوم بتشخيصات جديدة وقصص عديدة.

فهو الذكى الألمعى الشديد الذكاء وهو الوقور الطيب الصابر على البلاء يسير فى كل مأتم ويأكل فى كل عرس ويحضر كل زفاف ويصفق لكل عروسين ويبكى فى كل جنازة ويزغرد فى كل حفل ويرقص فى كل مولد وله ملابس لكل مناسبة فكأنه ألف إنسان بألف وجه بألف جسم بألف رأى بألف فكر بألف دين بألف إتجاه بألف سليقة بألف هدف بألف حلم بالأف أمل.

أنا شخصيأ تنتابنى نوبات حادة من الصداع عندما ألتقى بهذا النوع المسمى أبو العريف ولا أعرف يمينى من شمالى وكل همى يتركز على كيف أغادر المكان الذى حل فيه وكيف أهرب منه قبل أن افقد صوابى فهو راديو مفتوح على كل الإذاعات وتلفزيون مثبت على كل القنوات وموسوعة جرائد ولكن أوراقها ملخبطة ومتداخلة وقهوة كاملة بكل طاقتها من بشر وكراسى وتربيزات ومشروبات وشارع متحرك ملىء ببشر لا يتعبهم الكلام فى أى شىء وفى كل شىء دون أن يسألهم أحد او يستفسر منهم مخلوق.

ليته يتوقف عن الكلام والإفتاء والرغى واللت والعجن، متى يتحقق لى هذاالأمل ؟ وما الحل لو فوجئت به يركب جوارى فى القطار أو السيارة الأجرة أو الباص ؟ وماذا لو حكم علىّ الزمان وكان أبو العريف هو جارى فى المنزل أو زميلى فى العمل أو رئيسى فى العمل ومطلوب منى أن أنافقه وأبارك كل آرائه وأشيد بكل كلماته؟؟

هل هو مريض نفسياً أم معيب خلقياً؟ أم فاشل إجتماعياً أم هارب من الأيام أم قليل المقام أم طافش من المدام ؟؟

أرجو ألّا اكون قد أزعجتكم بهذا الكلام


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى