الثلاثاء ١٨ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم إياس يوسف ناصر

يوم ولادتي

في هذا اليوم قبل ست وعشرين سنةً، كنتُ روحًا أُرفرِفُ مع الريح في سماء هذا الكون الفسيح، حتى نَفَخَتِ الأيامُ في حفنة من التراب فصرتُ جسدًا قائمًا. وفي هذا اليوم قبل ست وعشرين سنة كنتُ حلمًا ضائعًا يسير في غابة من الليل البهيم، فعثرتْ عليَّ يدُ الشمس وزرعتني في حقل خصيب لتنبُتَ أحلامي سنابلَ حول مهدي الصغير. وفي هذا اليوم قبل ست وعشرين سنة، جمعتْ عصافيرُ الزمن عيدانًا كثيرة وصنعتْ لي منها عشًّا صغيرًا، أقيمُ فيه وأُطيِّر منه عصافيرَ من الأفكار والخواطر...

في هذا اليوم قبل ست وعشرين سنة وُلدتُ، وجعلتْ لي الأزمانُ جسدًا لا أعلم متى يعود لحظاتٍ تجري في نهر الأبدية المتدفق... وفي هذا اليوم أتيتُ العالم، غير أن ولادتي لم تكن واحدة في رحلة الأيام، لأنني لا أزال أُولَدُ في كل يوم، وآتي هذا العالم من أبواب كثيرة في كل لحظة حاضرة...

فكم من يوم خرجتْ فيه العواصفُ من أعشاشها وحملتني ورقةً إلى كل أوب وصوب، ثم وضعتني في مهد جديد لأشربَ مرةً أخرى كأسَ الحياة السرمدية... وكم من يوم ضمَّدتْ فيه الحياةُ جروحي ونَزَعَتْ من نفسي شوكَ الطريق، حتى نهضتُ من فراشي حاملا بكفي أملاً جديدًا يَحمِلُني على إتمام المسير... وكم من يوم طوَّفتُ فيه بين الناس، فوجدتُ في جوع المسكين وتُخمة الغني موعظةً للعطاء، وفي دمعة المظلوم وابتسامة الظالم عبرةً للإنصاف، وفي افتراق العاشقَيْن واجتماع المتصادفَيْن عملاً من أجل الحرية الضائعة... وكم من يوم جرَّدْتُ فيه الغدَ من ثياب الأمس، وأخرجني الحبُّ من سجن الضغينة، وأطلقني الشوق من تحت أحجار الملل، فأخذتُ لعيني من الشمس شعاعًا جديدًا أُطفِئ فيه نارَ الليل المتوقدة، التي تجعلني لا أهتدي إلى طريقي...

فأنا أعيش بولادتي الكثيرة، ذلك أن ابن الإنسان يعيش ليُولَد، ولا يُولَدُ ليعيش ثم يزول بزوال جسده، وأن الولادة الروحانية في معبد الحب هي أعظم ذكر للميلاد على الأرض، مِنْ قِبَلِ أنها تُطعِمُنا خبزًا لا نجوع بعده، ونبقى بها أحياءً أبدَ الأبد، وإن صارت أجسادُنا مسجونةً في غياهب الموت الْمُنصِف.

وإلا، فما الذي يجعلني أنسُجُ دمعتي بخيوط ابتسامتي غير حبي للحياة! وما الذي يجعلني أضعُ قلبي رغيفًا في فم المخاطر غير شوقي إلى حرية مسجونة! وما الذي يجعلني أسهَر مع طيف حبيبتي الخيالية في كل ليلة غير ذلك الجامع الروحاني الذي يَسكُب أشواقَنا في أغنيات إلهية للصوت الأبدي!!

لا أجد في يوم ولادتي هذا ذكرى لميلادي الجسدي، بل ذكرى لميلادي المستقبلي الذي لا أتلفَّتُ فيه إلى ما قد مضى من كراهية وحقد وأمور دنياوية أخرى. وما أجمل ميلادي في كل يوم، حين أقطَعُ من شجرة عمري غصنًا يابسًا لم يُثمرْ مرة، وحين أقلَعُ الشوكَ الذي خَنَقَ السوسنَ والناردينَ في ربوة نفسي، وحين "أضع يدي على المحراث" لأبذُرَ عملاً صالحًا في حقل الوجود.

كثيرًا ما تعطينا الحياةُ فرحَنا بثمن حزننا، وكثيرًا ما أفقدتني السِّنونَ الماضيةُ أشياء كثيرة حزنتُ عليها لفرحي بها، غير أنني لم أفقِدْ ولو مرةً محبتي للحياة، وما العمر عندي إلا كشجرة تكسّر العواصفُ أغصانًا لها، فينبُتُ فيها الربيعُ جديدًا، وفي هذا اليوم أجدُ ربيعَ محبتي للحياة، ألا إنه يومُ ولادتي...

(كفرسميع، 15/5/2010)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى