الجمعة ١١ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم عماد عبد الله موسى

أثر المرجعيات الثقافية على أدب الطفل الفلسطيني

المقدمة:

تعالج معظم الدراسات النقدية والأدبية الأدب المنتج من الكبار الموجه إلى الأطفال من منظور الكبار، ضمن استراتيجية بناء النشء وفقا للفلسفة الثقافية والاجتماعية والدينية والثقافية والتعليمية للدولة، فيما يطلق عليه المختصون والدارسون أدب الأطفال أو الصغار من حكايات وقصص وأشعار وأناشيد ومسرحيات وصندوق العجب...الخ، الذي نتفق مع كثير من الدارسين والنقاد على تسميته بأدب الكبار الموجه للأطفال، نظرا لما في هذه التسمية من تعمية وتضليل. وفي هذا الشأن، يؤكد سيسيليا مرايل في كتابه "مشكلات الأدب الطفلي" أن: "الأطفال –في الحقيقة- هم الذين يحددون الأدب المفضل لديهم. ولقد اعتدنا أن نصنف كل ما كتب للأطفال على أنه (أدب طفلي) بينما الأصح أن يكون التصنيف على أساس ما يقرأ الأطفال بفائدة وسرور فلا وجود لأدب طفلي سابق، بل لاحق".(1)

ولكنني في هذه الورقة سأعالج الأدب الطفلي الفلسطيني، وخصوصا القصة الطفلية المبدعة والمنتجة من الأطفال أنفسهم، لأنها تعكس رؤاهم وآلامهم ومشاعرهم وأحاسيسهم التي تشكلت تحت ضغط الحراب الإسرائيلية وتحت صخب حجارة الانتفاضة ورصاصها، وما تركته في المخيلة البصرية والسمعية من صور الدمار والخراب ومشاهد الدم والقتل..الخ. ومن مشاهدة آلات الدمار والخراب والقتل العسكرية الإسرائيلية من طائرات إف16 والاباتشي والزوارق الحربية والدبابات والمصفحات، والرشاشات والأنواع المختلفة من الرصاص الحي والمطاطي.

ما هو أدب الأطفال؟

يعرف الدكتور عيسى الشماس أدب الأطفال بأنه هو الذي يمثل: "الإنتاج الأدبي المقدم إلى الأطفال، والذي يجسد المعاني والأفكار والقيم التي تسهم في تشكيل وجدان الطفل، فلا بد أن يكون هناك وسيلة تربوية تسهم في إشباع حاجات الطفل واغنائها وفق ما تتطلبه الحياة الاجتماعية التي سيدخل معتركها ومتطلبات النهوض بها وتقدمها.. ومن هنا كان الأولى بأدب الأطفال أن يكون جادا بمعطياته، ملتزما بحاجات الطفولة من جهة وبأهداف المجتمع التربوية من جهة أخرى. (2)

ولو قمنا بتحليل هذا التعريف لوجدناه يحتوي على العناصر التالية:

1. أدب الأطفال هو المنتج من الكبار للأطفال.
2. هو الذي يجسد أفكار الكبار والمنظومة القيمية.
3. أدب الأطفال هو الوسيلة لنقل هذه الأفكار والقيم.
4. هو الذي يلبي حاجات الأطفال من وجهة نظر الكبار.
5. يهدف إلى التعليم والتربية.

فالتعريف لا يتجاوز الحدود التي وضعها الكبار لتعريف أدب الأطفال، من هنا نجده قد خلا من أي إيحاء إلى الأدب المنتج من الأطفال أنفسهم، أو إلى دور الكبار في اكتشاف مشاعرهم تجاه مختلف القضايا وتجاه البيئة والمحيط الاجتماعي والسياسي الذي يعيشون فيه، من أجل القيام بوضع الخطط والبرامج اللازمة للنهوض بهم من خلال معرفة همومهم وأفكارهم ومشاعر القلق والخوف والأمل والفرح والحب والكراهية وغيرها من المشاعر التي تنتابهم.

وأما الهيتي فيرى أن: "لأدب الأطفال من الناحية الفنية ذات المقومات الخاصة بالأدب بشكل عام، أي أن مقومات أدب الأطفال وأدب الراشدين تكاد تكون واحدة، ولكن اختيار الموضوع وتكوين الشخصيات، وخلق الأجواء واستخدام الأسلوب والتراكيب، والألفاظ اللغوية في أدب الأطفال، تخضع لضوابط مختلفة إلى حد ما، وتقرر هذه الضوابط حاجات الطفل وقدراته ومستوى نموه بصورة أساسية."(3)

يقر الهيتي أن أدب الأطفال لا يختلف من النواحي الفنية عن أدب الراشدين، إلا أنه يختلف من الناحية العمرية التي تتطلب تبسيطا للغة الاستعارية والمجازية أحيانا وتسطيح اللغة أحيانا أخرى حتى يتسنى لهذه الفئة فهم ما تقرأ استنادا لقدرات أفرادها ومراعاة للفروق الفردية بينهم. من هنا يرى عبد المجيد القاضي: "أن أدب الأطفال يختلف عن أدب الكبار، في أن أدب الكبار يتخاطب مع متكامل وثابت نسبيا، بينما يخاطب أدب الأطفال وعيا غير متكامل وغير ثابت. ومن ثم يعتمد أدب الأطفال على مقومات أساسية، يستمدها من علم النفس والتربية والأخلاق وعلم الأحياء، إلى جانب اللغة وهي الأداة الأولى للاتصال بالطفل وفق مراحله."(4)

ممارسات الاحتلال وأثرها على الطفل الفلسطيني:

إن فهمنا لأدب الأطفال المنتج من الأطفال أنفسهم يتوقف على فهمنا لماضي هولاء الأطفال، وعلى طبيعة الخبرات المختزنة في المخيلات الطفلية التي تشكل المخزون البصري والسمعي وغيره، وخصوصا المخزون اللغوي من مفردات وألفاظ وجمل وتراكيب مختلفة، بحيث تقوم المخيلة برصد المشاهد وتخزينها مع اللغة المعبرة عنها. "وقد أجمعت نظريات علم النفس جميعا على الأثر الفعال الذي تلعبه خبرات الطفولة في التأثير وتشكيل الواقع النفسي والسلوكي للإنسان" (5)، وكذلك الواقع اللغوي.

ومن أجل أن نتمكن من استكناه الخطاب الأدبي الطفلي ومعرفة الأبعاد الجمالية للنص، لا بد من عملية استقصاء ورصد لما يقدمه النص نفسه، لمعرفة المواد التي اعتمد عليها في البناء الحكائي والسردي لقصته، وفي تحديد هوية المكان والزمن السردي، والتي دفعته لإنشاء، شخصياته وأخرج منها أفكاره والتي أثرت على تكوين مشاعره وأحاسيسه تجاه ما يدور حوله، من هنا ارتأينا أنه من الضرورة بمكان استعراض نتائج الدراسة التي أجراها برنامج غزة للصحة النفسية حول (واقع الأطفال الفلسطينيين)" وما تمخض عن هذا الواقع من تأثير المواقف الصعبة التي تمثل الواقع المعاش للطفل الفلسطيني وأثرها على استجاباته وحياته النفسية. ومن أهم هذه النتائج ما يلي:

1- تأثير هدم المنازل على الأطفال:

ترى الدراسة أن المنزل بالنسبة للطفل: "يرتبط بالأمن والأمان، ويمثل أيضا، مجموعة العلاقات الاجتماعية والأدوار والروابط والصداقات والعادات والتقاليد التي تكونت لدى الطفل، والتي ترتبط بالمنزل، لذلك فإن تدمير المنزل يشير إلى ضياع الأشياء التي يرمز المنزل إليها لدى الطفل من الأمن، وعليه فإذا شعر الطفل بفقدان الأمن فإن القلق والتوتر هما البديل الذي يسيطر ويسود في حياة الطفل.

2- تأثير منع التجول على الأطفال:

يعتبر منع التجول من الإجراءات الأكثر استخداما منذ اندلاع الانتفاضة، حيث يحرم السكان من الخروج والحركة ويصبح البيت هو المكان المسموح بالحركة فيه بالنسبة للطفل، وتزيد الأمور سوءا على الأطفال وخصوصا قاطني المخيمات التي تتصف مساكنها بالضيق وعدم وجود متسع للسكن والحياة، ويصبح الشارع هو المكان الذي يجذب اهتمام الطفل لأن فيه متسعا للحركة واللعب.

3- تأثير التعرض للضرب، أو مشاهدة الضرب على الأطفال:

وتكشف الدراسة عن عدم وجود دلالة إحصائية تبين الفرق بين التعرض الشخصي للضرب وبين الشعور بتقدير الذات أو القلق لدى الأطفال، في حين كانت الدلالة قوية بين مشاهدة تعرض الآخرين أمام الطفل للضرب وبين الشعور بتقدير الذات والقلق.

4-تأثير المداهمات الليلية على الأطفال:

تبين الدراسة أن 85% من منازل عائلات الأطفال تعرضت للمداهمات الليلية وفقا لبرنامج غزة للصحة النفسية وقد تبين أيضاً أن حوالي 39,8% من الأطفال تعرضوا للعنف الشخصي خلال المداهمات الليلية، وأن 84,3% شاهدوا تعرض أحد أفراد الأسرة للعنف أيضا، وتبين كذلك ارتباط دال إحصائي بين المداهمات الليلية والخوف من الظلام والخوف من الجيش وكذلك الخوف من حدوث مكروه لدى الأطفال، إذ يرتبط الظلام بفقدان الأمن للطفل وتوقع حدوث المكروه، وبالنسبة للأطفال الفلسطينيين، فإن الظلام يرتبط بالمداهمات الليلية والاعتقالات وتعرض الطفل للضرب خلال هذه المداهمات.(6)

ويمكننا أن نضيف عوامل أخرى أثرت على النمو السيكولوجي وعلى النمو اللغوي عند الطفل الفلسطيني، فانعكس جزء منه في قصصهم التي كتبوها بأنفسهم لتعبر عما يختلج في صدورهم ويعتمل نفوسهم من انفعالات مختلفة، ومن أهم هذه العوامل:

 الاغلاقات: وتعني منع السكان من مغادرة مدنهم وقراهم ومخيماتهم والحد من حرية الحركة بين المدن والقرى، أو الإغلاق الجزئي بوضع مدينة داخل الطوق الأمني، ما يترك إحساسا بالأسر والتعرض للعقاب الجماعي...الخ من المشاعر.
 الاغتيالات: التي يقوم بها الاحتلال ضد نشيطي الانتفاضة، وهي تمثل المشهد الدموي بما فيه من قسوة وجبروت المحتل، وتأثير ذلك على الطفل الفلسطيني، إما بالتفكير بالانتقام أو الحقد والكراهية أو الخوف من الموت.
 الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة وما صاحبها من ممارسات متعددة مثل القتل والتدمير والاعتقال والضرب والتنكيل ومداهمة المنازل وغيرها من الممارسات الحاطة بالكرامة الإنسانية.
 مشاهد طائرات إف 16 وطائرات الاباتشي وهي تقصف مواقع للسلطة أو نشيطي الانتفاضة وسياراتهم، إضافة إلى انفجارات الصواريخ والقنابل، واستعمال الرشاشات المختلفة، كل ذلك أثر على تكوين التنظيم الوجداني والانفعالي للطفل وأثر على اللغة وعلى مستويات الفهم والوعي المبكر للدلالات التي تحملها المفردات والألفاظ والتراكيب والجمل لأسماء الأسلحة وصفاتها ولأفعال الجنود.
 الحواجز: التي يمارس عليها جميع أشكال الامتهان للكرامة الإنسانية وجميع أساليب التنكيل والإذلال.

5. - أثر الفضائيات على الطفل الفلسطيني:

إن الضخ اليومي وعلى مدار الساعة للرسائل الإعلامية من مختلف الفضائيات العربية والعالمية، وما تحمله هذه الرسائل من مشاهد الدمار والقتل والاعتقال والخنق والتنكيل، قد أثر على الطفل الفلسطيني وأسهم في تطوير لغته، الأمر الذي أدى إلى زيادة في نموها بسرعة فائقة، لأنه لا يحتاج إلى تخيل الموقف، أو الحدث، فالموقف متلفز بالصوت والصورة، ما طور أيضا لغته السياسية وعرفه بأهم الشخصيات الأمنية والعسكرية والسياسية من كلا الطرفين بالإضافة إلى أصحاب العلاقة المباشرة بتطور الأحداث في فلسطين.

المرجعيات المتعددة وأثرها على الإبداع في القصة الطفلية:

اعتمد الكتاب الأطفال في أعمالهم الإبداعية على مرجعيات أساسية، حيث نهلوا منها اللغة المعبرة عن الصور والمشاهد المخزنة في الذاكرة، وسنتتبع في هذه الدراسة المرجعيات الرئيسة التالية:

أولا: المرجعية التاريخية.

ثانيا: مرجعية الثنائية الضدية: الاحتلال والانتفاضة.

ثالثا: المرجعية الإعلامية.

أولا: المرجعية التاريخية:

تعد المرجعية التاريخية المحكية شفاهاً من الآباء للأبناء من أهم مكونات المخزون الثقافي واللغوي في الذاكرة الطفلية الفلسطينية، والتي ستظهر تجلياتها في الخطاب الأدبي الطفلي، حيث يتم استحضار الماضي بقوة الصدم الناتج عن عنف الاحتلال وممارسته غير الإنسانية، فتشتعل ذاكرة السارد وتزداد اتقادا، مع تزايد هذا العنف، ما يضطره إلى توظيف هذه المرجعية في البناء الحكائي، وليكون الماضي حاضرا بآلامه وبأحزانه وبكل أوجاعه، ما يوفر للسارد إمكانية تظهير صورة المحتل في مختبر الذاكرة، التي يعيشها في الحاضر المخضب بالدماء وبالدموع لحظة بلحظة، فما كان في الماضي ضد الآباء والجدود وضد الأرض وساكنيها الأصليين، يمارس ضده وضد شعبه بهدف الاقتلاع من الأرض.

ففي قصة الطفل حازم بشير عفانة بعنوان "صديقي مصطفى"(7) تتجلى صورة التوظيف الواعي للمرجعية التاريخية الفلسطينية المرتبطة بالحياة الهادئة والسعيدة وبالنكبة والاحتلال الذي استبدلها بالتشريد واللجوء، فيقول في قصته: "بدأ والدي يقص علينا من حياة أهلنا في فلسطين وكيف كانوا يعيشون حياة هانئة وسعيدة على أرض فلسطين، قبل أن يأتي الصهاينة ويرتكبوا المذابح بحقهم ويطردوهم من ديارهم وأراضيهم التي ورثوها عن آبائهم وعن أجدادهم".

لم يفتش السارد عن صور بيانية ولم يجهد عقله لتوصيف ما يجري حوله من أحداث، بل رجع إلى المخزون التاريخي المحكي، ليحضر منه مشهدا فلسطينيا يتكرر أمامه، ليكون التاريخ هو متوالية الزمن السردي، وليؤسس عليه بناء حكايته وشخصياتها، وليمنح للمكان قيمة من خلال العلاقات القائمة بين الإنسان الفلسطيني والأرض في جدلية الحضور والنفي، والنضال والقهر.

وإذا تتبعنا الدلالات التي تحملها المفردات المألوفة لوجدنا أنها غنية بالمعاني نظرا لارتباط هذه المفردات بمركبات رئيسية لا يمكن للغة تجاوزها، لأن "الكلمة لفظة ذات دلالة وطبيعة الدلالة في اللغة البشرية تتمثل في قدرة الرمز اللغوي على التعبير عن مدلوله سواء أكان حسيا أم عينيا أم مجردا أم واقعا أم محتملا، وهذا يعني أن معاني الكلمات لا تكتسب إلا بعد أن يكون الطفل صورا ذهنية أو مفاهيم عن الأشياء والأحداث التي تشير إليها الكلمات وترتبط بها، وتصبح الكلمات في النهاية عبارة عن رموز تشير إلى مفاهيم، وهو ما نقصده بالمعنى، فالمعنى والمفهوم أو المحتوى الدلالي شيء واحد".(8)

لذلك نجد أن كلمة (الأرض) تتبطنها الدلالات التالية:

 ارتباط الارض بالسعادة والهناء.
 هي الكيان الوجودي للعائلة والشعب.
 هي مركز الصراع وجوهره بين الصهاينة والفلسطينيين، وهي التي تتعرض للسلب والسرقة والمصادرة.
 هي الميراث التاريخي للفلسطينيين، فانتقلت من الآباء إلى الأجداد إلى الأحفاد في متوالية زمنية غير منقطعة.
 وهي أصل الهوية الثقافية والاجتماعية والإنسانية للشعب الفلسطيني.

أما كلمة فلسطين فتحمل معاني كثيرة ومتعددة، فهي تحتقب الزمان(التاريخ) والمكان (الأرض) والشعب(السكان الأصليين الفلسطينيين) والحضارة المادية والهوية العربية والإسلامية والهوية الوطنية. واستعمال أرض فلسطين يهدف إلى التأكيد على الأرض من جهة وعلى هويتها من جهة أخرى. أما الدار أو الديار والأهل فتوجد بينهما علاقة عضوية وترابطية وتاريخية ونفسية واجتماعية، من هنا يتفجر الألم في عروق الفلسطيني بضرب أحد أركان هذه العلاقة (الإنسان أو الدار) أو أحد ركني العلاقة(الإنسان والأرض)، في الوقت الذي تحمل فيه مفردة الصهاينة المعاني والدلالات المنبثقة عن الأفعال التالية:

 النقيض الوجودي للوجود الفلسطيني بهجرتهم إلى فلسطين (قبل أن يأتوا).
 ارتكاب المذابح (إشارة إلى مجازر دير ياسين وقبية وغيرها).
 التهجير والطرد للفلسطينيين من الأرض والدار.

ويستعمل السارد تقنية التذكر لاستكمال بناء السرد الحكائي لقصته التي يحدث فيها مقاربة بين التاريخ المحكي على لسان والده والحاضر المعاش الذي يحيا تفاصيله: "تذكرت أحاديث والدي عن جدي وجدتي، وقصص المعاناة التي عاشها أهل فلسطين أثناء احتلال بلادهم من قبل العصابات الصهيونية، وقارنت بين حديث والدي وما حدث لصديقي مصطفى وأهله وهم يبكون على أطلال منزلهم".

وقد اعتمدت ديمة اللبابيدي في بناء قصتها "كفاح صياد"(9) على المرجعية التاريخية الثقافية التي تظهر من خلال انكشاف الزمن السردي البعيد (يحكى أن، وكان..، وكان .. ورغم مرور السنين) ومن خلال الإعلان المباشر عن المكان وما يحمله من دلالات ورموز في حياة ذلك الجيل الذي عرف يافا مكانا وزمانا والذي أضحى صعب المنال فتقول: "يحكى أن صيادا عجوزا عاش على شاطئ يافا الجميل، وكان لهذا العجوز ابن وحيد اسمه صابر".

ثم تبرز الساردة الصراع الدائر على الأرض بين المحتل الإسرائيلي وبين الصياد، والذي يمثل حالة الكفاح الجمعية لشعبه في مرحلة تاريخية لم تعشها الساردة فتقول: "... أخذ ابنه وخرج كعادته، وقبل وصولهما إلى القارب أوقفهما جنود الاحتلال.

 قال أحد الجنود: هيا اخرجا من هذه الأرض حالا، وإلا فسنحطم البيت والقارب أيضا.
 فرد العجوز: كيف أترك الشاطئ وهو فراشي...وقال صابر: من أنت حتى تطردني من أرضي؟
 فقال له الجندي: اصمت أيها الغبي.
 فقال صابر: أنت لست غبياً وإنما الظالم. فما كان من الجندي الإسرائيلي إلا أن أطلق على صابر رصاصة اخترقت صدره".

ثم تكشف الساردة عن مشهد التشييع لجثمان الشهيد، هذا المشهد المتكرر والمألوف في حياة الشعب الفلسطيني: "رجع أبو صابر إلى بيته متألما بعد أن غطى ابنه بكوفيته". ويتطور المشهد ليصل إلى النهاية فتقول: "واجتمع الصيادون وحملوا صابر، الشهيد المخلص لوطنه، إلى مثواه الأخير". فهذه المرجعية أكدت على أهمية الأرض وأبرزت الصراع الدامي وأظهرت بعض الرموز الوطنية مثل الكوفية، والبعد القيمي للشهادة والتضحية والإخلاص.

أما الطفلة مرام سليمان إسماعيل في حكايتها "عائدة إليك يا بيت نبالا" (10) فتتكئ على المرجعية التاريخية الثقافية في البناء السردي، حيث تصف فيها بيت نبالا بين زمنين، الزمن الفلسطيني حيث ينعم أهلها بالهدوء والسكينة، والزمن الاحتلالي الذي تنبعث فيه رائحة القتل والدمار والتنكيل، فعن الزمن الأول تقول الساردة: "كانت قرية بيت نبالا تنعم بالسلام والمحبة وكان أهلها فلاحين يقضون النهار كله في زراعة الأرض والعناية بها" ولكن هذا الزمن لم يدم لأنه سرعان ما بدأ زمن احتلال، فأحدث في حياة القرية وفي حياة أهلها الاختلال، "فبينما كانت عائلة أبي السعيد منشغلة في الحديث، قرع الباب بشدة، ودخل عليهم رجال مسلحون بدأوا يكسرون أثاث البيت البسيط، وطلبوا منهم الرحيل".

وتتابع الساردة روايتها فتقول: "ويوما بعد يوم أخذ الجنود يحرقون البيوت ويقتلون الفلاحين. ولم يعد أبو سعيد يدري ماذا يفعل؟ أيبقى هنا ليقتل الصهاينة أولاده أمام عينيه، أم يرحل؟ وأخيرا قرر أبو سعيد الرحيل". وتكشف الساردة عن رحلة اللجوء القسري للفلسطينيين "رحلت عائلة أبي سعيد مع غيرها من العائلات إلى قرية مجاورة، إلا أن جنود الاحتلال هاجموا تلك القرية أيضا. فاضطروا للرحيل مرة أخرى".

لقد بدا واضحا مدى تأثير المرجعية التاريخية الثقافية المحكية في البناء الحكائي للقصة وخصوصا اللغة التي تحمل الزمان والمكان اللذين تعرضا للتغيير بفعل الاحتلال الإسرائيلي في الماضي(كانت قرية بيت نبالا) إلى الذاكرة الحاضرة واللذين أخذت تجسدهما الساردة بما فيهما من أحداث مؤلمة في صياغة هذا النص(الخطاب). والقصة تحمل أبعادا رمزية منها: نكبة 1948 والمجازر التي ارتكبها الصهاينة ضد قرى فلسطينية، واللجوء الفلسطيني، وآمال العودة النابعة من حق العودة إلى فلسطين. فتقول: "شعر الفلاحون بالحزن والأسى لضياع قريتهم الحبيبة، واستقروا في بلدة أخرى، لكن قلوبهم ما زالت مليئة بالأمل والتفاؤل للرجوع إلى بيت نبالا، وما زالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم، ومن يشعر منهم بدنو أجله يسلم مفتاحه لابنه أو حفيده".

لا غرابة أن نجد البعد التاريخي ماثلا في النتاج الأدبي الطفلي، وذلك لأن فعل الاحتلال على الأرض والسكان لا يزال قائما، فللتاريخ حضور في الحاضر المعاش، وامتداد في الزمن القادم والمستقبل الفلسطيني المأمول. فإذا كانت القصص التي أشرنا إليها سابقا تعكس البعد التاريخي الثقافي لحقبة زمنية هي سنة 1948 ما قبلها وما بعدها فإن هذه القصة تعكس نكسة 1967 وما حدث فيه من فقد وقتل وأسر وعذاب.

نلاحظ أن تأثير المرجعية التاريخية على العمل الإبداعي للطفل الفلسطيني واضح وجلي من خلال قراءة النصوص، ولكن اللافت للانتباه هو غياب المرجعية التاريخية المكتوبة والتعليمية لأن هذه المرجعية لا تتحدث عن 1948 تاريخيا وجغرافيا بعد اتفاقات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، فمن هنا غابت بشكل ممنهج عن الذاكرة الطفلية لتصبح في وعيه ولاوعيه إسرائيل. وتختزل المدن الساحلية في مدن غزة والمدن التاريخية في أريحا وتغيب عكا وحيفا ويافا وتغيب الجغرافيا والتاريخ لتصبح الضفة وغزة. لذلك لم نقرأ نصا لطفل ما يشير بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى القراءة الواعية والتعليمية إلى المرجعية التاريخية المحكية عن طريق الرواية الشفوية التي تعمقت بفعل الاحتلال وممارساته. فكيف وظفت الطفلة سحر أبو الهطل المسرد التاريخي في قصتها "خالي أحمد". (11)

استعملت العنصر الزمني التاريخي للقص والحكاية في بداية الكلام من أجل التدليل على أن أحداث القصة قد دارت في زمن بعيد، حيث تفتتح الساردة قصتها قائلة: "في يوم من الأيام حدثتني والدتي عن قصة خالي أحمد " فالراوية هي الأم التي سرعان ما تختفي لتحل محلها الساردة كاتبة النص، وكأنها اندغمت فيها. وكما يتضح من قولها: "كان خالي أحمد يعمل في جيش التحرير الفلسطيني، وعندما وقعت الحرب عام 1967 بين إسرائيل والعرب، شارك خالي أحمد في القتال من أجل الدفاع عن الوطن" وتتابع الساردة متحها لمادة قصتها من رحم التاريخ فتقول: "وعندما انتهى القتال عاد الجنود... أما خالي أحمد فلم يعد" في إشارة إلى استشهاده أو جرحه أو أسره. فاللغة مفتوحة على هذه الاحتمالات إلى أن تحسم أمر اعتقاله فتقول: "أتى رجل يحمل رسالة من خالي المفقود تفيد أنه ما زال على قيد الحياة في سجون الاحتلال"، وكلما دارت عجلة الزمن اقتربت من تاريخ الإفراج عنه: "وبعد مدة خرج خالي الحبيب من سجن الاحتلال وأبعدوه إلى مصر ومنعت سلطات الاحتلال الصهيوني خالي من الرجوع إلى الوطن".

ثانيا:(الثنائية الضدية: الاحتلال والانتفاضة الثانية):

تظهر ثنائية الاحتلال والانتفاضة في تضادات متصارعة بشكل جلي وواضح داخل النص بعيدا عن الرمزية المغرقة في الغموض، فهذه لثنائية الضدية هي التي شكلت المرجعية الثقافية للذاكرة الطفلية والتي تكدس فيها كم كبير من الألفاظ والمفردات والجمل والمشاهد والصور ما مكن الطفل المبدع للنص من توظيف هذه الطاقات المخزونة في عمله القصصي. فيقول حازم عفانة في قصته "صديقي مصطفى"(12): "...كانت زيارة شارون إلى المسجد الأقصى، وهب الشعب الفلسطيني بكل فئاته للدفاع عنه وعن قدسيته، ورأيت الشباب والأطفال وحتى النساء يخرجون إلى الشوارع يقاومون جنود الاحتلال بكل ما تصل إليه أيديهم، وأصبحت أرى بعيني الجرائم التي يرتكبها الصهاينة بحق أهلي وشعبي، والتي كنت أسمع عنها من أبي".

إن المستقرئ لهذا النص سيلحظ أثر الانتفاضة والاحتلال بالإضافة إلى المرجعية التاريخية التي أسست لبناء القاموس اللغوي بدلالاته المختلفة وبالمفاهيم المرتبطة بالمفردات والألفاظ والتي يستعملها السارد عن وعي، إذ إن قوة العنف الذي يمارسه الاحتلال وما ينتج عن ذلك من ثقافة سرعان ما تختزنها الذاكرة الفردية والجمعية فتصبح حزما لغوية مكدسة يوظفها متى شاء، فالسارد وظف المفردات والجمل الناجزة عند صياغة خطابه الأدبي، الذي يحتوي على الثنائية الضدية: الاحتلال والانتفاضة، حيث يمكن وضعها على النحو الآتي:

أ-الاحتلال المرجعية الثقافية الثانية:

 شارون: الذي يرد في الخطاب اسما دون توصيف أو ذكر لتفاصيل، ما يدلل أن الاسم لا يحتاج إلى توضيح فهو رمز للجريمة والقتل والاحتلال والاستيطان في التاريخ الفلسطيني، وهو مدرك بأبعاده لدى المبدع.

 جنود الاحتلال: الأداة العسكرية للقمع والقتل وارتكاب الجرائم.

الصهاينة: هو المفهوم الأوسع للاحتلال وهي المفردة التي سمعها من والده لما قال له: "قبل أن يأتي الصهاينة ويرتكبوا المذابح بحقهم" لذلك استعملها في خطابه: "وأصبحت أرى بعيني الجرائم التي يرتكبها الصهاينة بحق أهلي وشعبي". ففعل الرؤيا والإبصار لجرائم الاحتلال عزز من المشهد التاريخي المحكي ويؤكد السارد على ذلك بقوله: "التي كنت أسمع عنها من أبي".

المشهد الأول: المنزل طلل (تدمير المنازل)

في هذا المشهد يمارس الاحتلال كل الأفعال أمام عيني السارد الذي يصور في خطابه ما رأته عيناه فعلا، وليس ما سمعته من أبيه أذناه، ، فيقول: "... رأيت أناسا كثيرين يتجمعون حول منزل صديقي... أصابتني صدمة شديدة، وذهلت من هول المنظر الذي رأيته. لم أجد بيت مصطفى، ولكني رأيت مكانه أكواما من الحجارة، وكان صديقي يجلس فوق أحجار المنزل وهو يبكي بحرقة، وأمه تصرخ. وهالني منظر إخوته وهم يبحثون عن بقايا ألعابهم وحاجياتهم بين أنقاض المنزل المهدم، فكم عانى والده وكم تعب في سبيل بناء هذا البيت لأسرته وأولاده، وفي لحظات هدم الصهاينة البيت، وضاع كل العناء والتعب، ولم يعد لهم مكان يأوون إليه". القاموس اللغوي ممتلئ بالمفردات الدالة على أفعال أو أسماء أو صفات أو الدالة على العلاقات الاجتماعية والإنسانية والنفسية والوظيفية والسياسية، وهذا يؤكد أن "ما يتعلمه الأطفال من مفردات يتوقف على ما يجلب انتباههم في البيئة التي يعيشون فيها، ففي وقت مبكر تجلب بعض الأشياء التي تحيط بهم انتباههم فيلاحظون أشكالها وحركاتها ونظيراتها ويلاحظون الملامح المميزة لها ويصفون في فئات". (13)

المشهد الثاني: المواجهات بين الضدين

في هذا المشهد يربط السارد بين قلة نوم الشخصية المركزية في قصته مصطفى وبين المواجهات الدائرة بين الضدين الاحتلال والانتفاضة، فيقول: "فأخبرني بأنه لا ينام طوال الليل بسبب المواجهات التي تحدث عند منزله وأنه أحيانا لا يستطيع الخروج من المنزل لأن جنود الاحتلال يطلقون الرصاص على كل شيء يتحرك في المنطقة المحيطة بمنزله الكائن عند بوابة صلاح الدين، على الحدود المصرية الفلسطينية." فالتأثر يبدو واضحا بثقافة الانتفاضة ومفرداتها وأزمنتها وأمكنتها التي يحاول السارد التأكيد عليها فيظهر الواقعية في السرد.

o التوسع في المفردات:

نلاحظ أن التطور اللغوي للطفلة لبنى طلح في قصة "مذكرات فتاة فلسطينية"(14) هو الأكثر توسعا في عدد المفردات واستعمالاتها فقد وظفت أسماء المستوطنات والمفردات الدالة على السلوك الاستيطاني وعلى السلوك الاحتلالي وأيضا المفردات ذات الدلالة السياسية والأمنية والعسكرية، فتكون لديها قاموس لغوي غني، ونسوق أمثلة على ذلك المفردات التالية:

(مستوطنة عطروت، حلميش، اقتلعوا أشجار الزيتون، استولوا على الأرض، أغلقوا الطرق المؤدية إلى بير زيت، صوت الرصاص، أسمع كل ليلة أزيز الرصاص، الجنود الإسرائيليون، بتفتيش كل ركن، سيقصفون هذه الليلة، ابتعدت عن الجحيم، أزيز الرصاص، القصف الوحشي، قصف بالدبابات، سيقصفون، توقف القصف، سمع بالقصف، قصف الليلة السابقة، قنابل مضيئة، والتجريف، هناك أرض تجرف، عدد القتلى الإسرائيليين، وقف إطلاق النار، خطة تنت، يمارس الفلسطينيون العنف، أي عنف، وأرى الحواجز التي تعيق حركة المرور، جرائم الإسرائيليين، صبرا وشاتيلا، المجازر، هل نسوا جريمة 1948، 1967؟!!)

أما فيما يتعلق بالمفردات الدالة على الانتفاضة أو الفعل الانتفاضي أو على الأمكنة، فكانت (أرض جدي، زراعة هذه الأرض، بير زيت، عطارة، الجلزون، جفنا، ولدت وأرضي محتلة، دخول القدس دون تصريح، هذه الانتفاضة، والانتفاضة ما زالت مستمرة، فالانتفاضة مستمرة والمزيد من الشهداء يسقطون، هناك المزيد من الشهداء..أسئلتي عن الشهداء، والأراضي الجميلة ما زالت تجرف، وكيف للإنسان أن ينسى أن بيته قصف أو دمر أو جرفت أرضه).

وفي قصة "انتفاضة الأقصى" للطفلة هالة الميناوي، نجد أن الانتفاضة والاحتلال قد أثرا تأثيرا كبيرا على اللغة الإبداعية، ولكن تأثير الاحتلال كان أكثر فظاعة وألما على اللغة وعلى أحلام الساردة. ويبدو ذلك بوضوح فتقول: "في ليلة من الليالي الجميلة كنت نائمة أحلم، وفجأة سمعت أصوات الطائرات تقصف البيوت"، وتتابع الساردة: "وعندما انتهى القصف...وجدنا البيوت مهدمة، وسيارات الإسعاف تنقل الجرحى...أصبحت الناس تنام في الشوارع لأن بيوتها هدمت، وأنا أصبحت أنام في خوف ورعب وأحلم الأحلام المخيفة".وفي مشهد للمواجهة تظهر اللغة في تقابلية صراعية لم تحسم بعد، فتقول: "في كل يوم يسقط الكثير من الشهداء والجرحى، فنحن نحارب الصهاينة بحجر صغير، ولكن الصهاينة يحاربوننا بالدبابات والصواريخ والرشاشات الثقيلة بعنف شديد". على الرغم من قصر النص إلا أنه مليء بالمفردات الدالة على الاحتلال والانتفاضة.

ب -الانتفاضة المرجعية الثقافية الثالثة:

فالانتفاضة أنتجت قاموسا لغويا خاصا وأصبح متداولا على جميع المستويات الرسمية والشعبية والدولية، لهذا لن يجد المبدع صعوبة في بناء الثقافة اللازمة لإنتاج خطاب أدبي خصوصا أن المبدع قد اعتمد على فعل الرؤيا أيضا في مشاهدة المنتفضين وهم: الشعب الفلسطيني وفئاته: الشباب والأطفال والنساء والأهل، وأما الأفعال المرتبطة بالانتفاضة فهي(هب، يقاومون). وتظهر الثقافة الدينية في الخطاب الذي تشكل في البيئة التي ينتمي إليها السارد فذكر المسجد الأقصى بوصفه موضوع الانتهاك الإسرائيلي الشاروني، وأكد على قدسية المكان عند الفلسطينيين وسائر المسلمين.

ومدت الانتفاضة السارد باللغة المعبرة عن القيم الوطنية والنضالية، كما عملت على تطوير المفاهيم المختزنة من المرجعية التاريخية المسرودة من والد السارد فيقول: "وعرفت حينها لماذا كان إخوتي الكبار يتأثرون لحديث والدي، وعرفت قيمة الأرض والبيت، وكم عزيز هو الوطن، الذي يجب على الإنسان أن يضحي للدفاع عنه بكل غال ونفيس". وهذا ما يؤكد "أن الطفل لا يتعلم معاني المفردات، أي ربط كلمة معينة بمفهوم معين، إلا إذا تكون المفهوم أولا. ولا يتكون هذا المفهوم إلا إذا استطاع أن يدرك الشيء الذي يراه مرة بعد مرة أو الحدث الذي يختبره مرة بعد مرة هو نفسه أو أحد أفراد فئة واحدة ذات خصائص معينة".

ولكن كيف وجدنا تأثير الانتفاضة على الذاكرة السردية عند الطفل مصطفى كمال بكير في قصة "الطفولة الضائعة"؟(16).

نلاحظ أن غياب المرجعية التاريخية وعدم معايشته للواقع الفلسطيني وللاحتلال، ولكونه لم يولد أصلا في فلسطين، بل ولد في المنافي بعيدا عنها، كل ذلك أثر على طريقة تعاطيه مع الانتفاضة فأحدث صراعا نفسيا داخليا.

المشهد الأول

على الرغم من حالة الصراع التي كان يعيشها السارد نتيجة عيشه بين طفولتين الأولى، هادئة في تونس والثانية، دموية في فلسطين، إلا أن مشاهد الانتفاضة استطاعت أن تتبطن ذاكرته وأن تسكنها رغما عنه، لذلك نراه يروي ما رأت عيناه: "... في طريقي رأيت أطفالا يحملون دمية على نعش رمزي، ويطوفون بها في شوارع المخيم وهم يهتفون بشعارات الانتفاضة... وأنا أتساءل لماذا يفعل الأطفال هذا؟... ومثل الكثير من العائلات الفلسطينية التي كانت تعيش خارج الوطن عدنا إلى فلسطين بعد قدوم السلطة الفلسطينية"، وينمو الصراع في جوانيته فتظهر صور أخرى من الانتفاضة أثرت على إيقاع حياته "فغزة... تعيش في حصار شبه دائم...ولم يكن سهلا على طفل مثلي عاش الطفولة الحقيقية في تونس أن يتكيف بسهولة مع حياة الحصار في غزة".

إن تغيير الفضاء الطفلي قد أوجد نمطين لغويين لدى السارد، النمط الأول الذي يتحدث فيه عن طفولته في تونس "...حيث كنت أعيش طفولتي على حقيقتها، فقد كان هناك اللعب وكان أبي يحضر لي كل جديد يظهر من الألعاب". ويتابع السارد حديثه عن هذه الطفولة:" وتمنيت في قرارة نفسي أن يعود والدي إلى تونس ثانية لنعيش فيها إلى أن يتغير الحال". والنمط اللغوي الثاني الذي يسرد فيه مشاهد من الانتفاضة، فيقول: "ومع بداية انتفاضة الأقصى ازداد الحصار... ثم أجلس أمام التلفاز ولا أخرج إلا للضرورة حتى يوم الإجازة كنت أقضيه في البيت".

نلاحظ أن السارد لم يتكيف بعد مع الفضاء الانتفاضي، لذلك جاءت اللغة مقتضبة في حين يسرف قليلا في استعمال اللغة عند رواية الجانب الشخصي والوجداني وتشكل مفرداتها حيزا كبيرا.

إن المتوالية الزمنية للانتفاضة دفعته إلى التوسع في استعمال اللغة المعبرة عن الانتفاضة، فيقول: "واستمرت الانتفاضة، فلا يكاد يمر يوم دون سماع صوت الرصاص والقصف الإسرائيلي للمنازل المجاورة، وكنت أرى الأطفال في الشوارع يهللون لدى سماع هذه الأصوات". ولكن السارد لم يتفاعل مع هذه الأحداث وهو يعيش حالة صراعية مع نفسه فيتساءل" هل هذه الطفولة في فلسطين؟". ثم يسير السارد نتيجة تطور الانتفاضة التي أصبحت حدثا يوميا لا يمكن تجاوزه أو إغفاله أو الهروب منه نحو إحداث توازن في اللغة بين النمطين آنفي الذكر، فيقول: "أصبحت الأمور مختلطة عندي، ففي الوقت الذي أحن فيه للرجوع إلى تونس لأمارس اللعب واللهو وأعيش طفولتي، أرى أطفال فلسطين يخرجون يوميا إلى الشوارع ليتفرجوا على المواجهات التي تحدث بين شباب المخيم وجنود الاحتلال..." .

ثم تبدأ اللغة تتطور باتجاه النمط اللغوي المعبر عن الانتفاضة، ولكن مع التركيز على مفردات متعلقة بالموقف الدولي بأطراف الصراع، لأنه إلى الآن لم يصبح جزءا منها، فيقول متسائلا: "لماذا يلعب أطفال العالم فيما يقتل أطفال فلسطين ويجرحون؟ لماذا تستنفر أوروبا وأمريكا كل جهودهما للدفاع عن طفل إسرائيلي ولا يتحرك العالم لمقتل عشرات الأطفال الفلسطينيين؟". وفي نهاية القصة يحسم السارد الصراع الدائر في نفسه ليصبح جزءا من الحالة الانتفاضية في السلوك المشارك وفي السلوك اللغوي فتصبح لغة الانتفاضة أكثر بروزا بعد تأنيب الذات والضمير فيقول: "وفي لحظة صدق مع نفسي اكتشفت أني كنت غريبا عن وطني، وعن أطفال وطني عندما تنكرت لهم وتمنيت العودة إلى تونس... عندها شعرت برغبة في تحطيم كل الألعاب التي تزين الغرفة وأن أخرج مسرعا إلى الشارع لأشارك أطفال- رجال وطني مقاومتهم للاحتلال". الانتفاضة هي الفعل الوطني ضد الاحتلال ولذلك غالبا ما تطغى المفردة أو الألفاظ المعبرة عنها في السرد كنوع من التأكيد على الفعل الذاتي الفلسطيني، وما يتلوها يكون بلغة معبرة عن ممارسات الاحتلال وانتهاكاته.

وفي قصة "حياتي والرصاصة" لكفاح محمد الأعرج(17) تسجل مثل هذه الممارسات: "بدأت الانتفاضة، كنا لا نسمع إلا أزيز طلقات الرصاص يلاحق الناس، وهدير الطائرات، التي تحلق في الجو، وقوافل من الجرحى والشهداء. فذاكرة الساردة محشوة بالصور العنفية للاحتلال، فما بالك بالعنف الاحتلالي الذي كاد يودي بحياة الساردة؟ فهل يمكن أن يمحى من الذاكرة الفردية أو الجمعية ؟ لذلك كانت "حياتي رصاصة" قصة تروي محاولة اغتيال الاحتلال لكل فلسطيني وإن كان في بيته آمنا، فتقول الساردة: "صحوت في يوم من الأيام باكرا وكان الجو هادئا لا رصاص ولا مواجهات، فقط طائرة تحلق في الجو. نظرت لمواقع الجنود الصهاينة...بدأت بجمع الملابس وفجأة ... شعرت بشيء يخترق ظهري... شعرت بعد دقائق بنار تحرق ظهري وتخترق صدري".

المرجعية الإعلامية:

تعد وسائل الإعلام المختلفة من أهم المرجعيات الثقافية التي تعمل على تشكيل وجدان الطفل وعلى تكوين لغته ومعرفته وتطوير ذوقه الفني وحسه الأدبي، وتنمية مداركه العقلية وتوسيع آفاق الخيال والتخييل عنده، مع العلم أن النماذج الإعلامية المقدمة من وسائل الإعلام المختلفة تعمل على تحديد المكونات الأولية لبناء المعايير السيكولوجية فهي تسمح للطفل المتلقي بالاحتفاظ بالخبر في ذاكرته، وتوجد في مقابل الملفوظات ذات الدلالات الموحدة التمثلات الدلالية نفسها، وتوضح التمثلات الدلالية الفروق في المعاني بين الألفاظ، والتمثل الدلالي في النماذج الإعلامية المقدم للمتلقين (كبارا وصغارا) لا يكون مطلقا، بل قابلا للربط بين تمثل دلالي وآخر. فتكرار الألفاظ والمفردات والجمل في وسائل الإعلام يؤدي إلى ترسيخها في الذاكرة الطفلية فتصبح مخزونا لغويا كبيرا يمكن الطفل من التعبير بسهولة عن الأشياء لأنه لا يستمع إلى الوسيلة فقط ، بل يشاهد ما تبثه من صور ولغة مصاحبة ومعبرة ودالة على هذه الصور. ومع ذلك لم يظهر تأثير وسائل الإعلام على الإبداع الطفلي صريحا إلا في مواقف وأمكنة قليلة عند بعض الأطفال، وهذا ناتج عن بروز ظاهرة الأنا عند الطفل وتمحوره وتمركزه عليها، فيقول: "سمعت، رأيت، شاهدت، أرى... ذهبت لأرى، نظرت فرأيت" إلى غير ذلك من الأفعال الدالة على المباشرة في الفعل وليس عبر استعمال الأفعال التي يقوم بها الآخرون، لأن هذا لا يجعل منهم محط اهتمام من الآخرين.

ويظهر الإعلان عن تأثير وسائل الإعلام عليهم في قصة الطفولة الضائعة للطفل مصطفى بكير حيث يقول: "ثم أجلس أمام التلفاز ولا أخرج إلا للضرورة" فهذا الاعتراف كاف ليدل على طول الفترة الزمنية التي يقضيها أمام التلفاز، بما يحمل من معان مختلفة منها هيمنة وسائل الإعلام على المتلقين في الأزمات والتعطش الدائم للحصول على المعلومات أو للهروب من الواقع إلى واقع متلفز. ولكن الطفلة لبنى طلح في قصتها مذكرات فتاة فلسطينية تعرف بمشاهدتها للتلفاز وتعترف بمدى تأثرها بما تشاهده فتقول: "خفت أن نصبح مثل الذين نشاهدهم على التلفاز، يرقدون على أسرة المستشفيات وكل منهم قد أصابه مكروه من القصف الوحشي". وتتابع قائلة: "لم أعد أهتم بألعابي ولم أعد أشاهد برامج الأطفال...وصرت أستمع إلى الأخبار كثيرا".

ئؤكد الساردة على عملية التحول في الاهتمام الناتج عن ضغط الواقع العنفي الذي دفع بها إلى التخصيص في نوعية المشاهدة، ويكشف هذا التخصيص مدى تأثير اللغة الإعلامية على عملها الإبداعي حيث تقول: "أعلن شارون موافقته على وقف إطلاق النار تبعا لخطة أسموها خطة تينت... هل التزم شارون بخطة تينت؟... هل يمارس الفلسطينيون العنف؟ وهل نسوا جريمة 1948 وجريمة 1967؟".

ومع ذلك فإن غياب الإعلان الصريح المباشر بعدم التأثر في كتاباتهم، لا ينفي تأثير وسائل الإعلام على المخزون الثقافي الطفلي، ومن ثم على العمل الإبداعي في قصصهم، لذلك يمكننا أن نجد مثل هذا التأثر في اللغة عبر تتبعنا للمفردات والألفاظ الشائعة الاستعمال في وسائل الإعلام وفي البيئة التي تأثرت بوسائل الإعلام.. وظهرت في إبداعات الأطفال القصصية.

ونسوق أمثلة على ذلك: "زيارة شارون إلى المسجد الأقصى، الشعب الفلسطيني بكل فئاته، الجرائم، الصهاينة، جنود الاحتلال، هدم المنازل، الوطن والأرض، شعارات الانتفاضة، السلطة الوطنية الفلسطينية، الحصار المفروض، انتفاضة الأقصى، القصف الإسرائيلي، المقدسات، المخيم، المواجهات، أوروبا وأمريكيا، ضمير العالم، مقاومة، العنف، الشهيد، الكوفية، الطائرة..تحلق في الجو لمواقع الجنود، مستوطنين، مستوطنة عطروت، الجنود الإسرائيليون، القصف الوحشي، الشهداء، القصف، التجريف، الجرحى، الرشاشات الثقيلة، سجون الاحتلال".

خلاصة :

نستنتج مما سبق، أن هناك فرقا واسعا بين أدب الكبار الموجه للأطفال الذي يطلقون عليه (أدب الأطفال) وبين الأدب الطفلي المنتج من الأطفال أنفسهم، الذي هو انعكاس لتطور اللغة الطفلية ومفاهيمها ودلالاتها عندهم، ولنظراتهم ورؤيتهم إلى الحياة والأمور والواقع والبيئة التي يعيشون فيها.

كما تبين لنا من خلال قراءة للنصوص مدى تأثرهم بالمرجعية التاريخية والثقافية وبمرجعية الثنائية الضدية الاحتلال والانتفاضة، والمرجعية الإعلامية التي تأثر بها الأطفال المبدعون بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال مشاهدتهم للتلفاز. حيث أدى كل ذلك إلى حدوث انفجار في المخزون الهائل في رحم الذاكرة لتتشظى منه الصور والأحداث التي عايشوها أو شاهدوها أو سمعوا بها من محيطهم الاجتماعي والتعليمي، والتي انبثقت منها ومعها اللغة المخضبة بالدم والنار والنور والألم والحزن والأمل والفرح المؤقت فظهرت في أعمالهم الأدبية كما هي، لأن الوقت لم يحن لاستبدالها بلغة أخرى، وسوف تبقى في ذاكرتهم يصوغون منها مشاهدهم وصورهم الأدبية. وكشفت الدراسة النصية لقصص الأطفال عن نمو اللغة وتطورها ومدى تأثير ذلك على البناء الحكائي.

فبرز تأثر الأطفال بعالمهم ومحيطهم الثقافي والاجتماعي والكفاحي والانتفاضي، وما يتخلل ذلك من مشاهد عنف الاحتلال (إطلاق الرصاص، والصواريخ والطائرات...الخ) الموجه إلى شعبهم، فيرون الجنازات وصور الشهداء والدمار والخراب. وهذا عمل على إقصاء اللغة الطفلية المرتبطة بالبيئة غير العنفية والتي تهتم باللعب والترفيه والتسلية والتعليم. وقد لاحظنا حالة الصراع التي عاشها مصطفى بكير بعد انتقاله من تونس إلى غزة، وكيف انتصرت لغة الواقع الجديد ودفعته إلى المشاركة بعد أن حسم الصراع النفسي، مع تبني لغة تفكير وخطاب ومحادثة جديدة تختلف عن تلك اللغة التي حملت ذكريات طفولته في تونس. والواقع يفرض لغته الخاصة بما فيها من دلالات ومعان وإيحاءات، من هنا جاءت اللغة التي استعملها الأطفال القاصون لغة تقريرية مسطحة نظرا لقدرتها على احتواء الموقف أو المعنى عند الطفل وكنتيجة للضغط العنفي عليه الذي يقتضي امتلاك مثل هذه اللغة.

وفي الختام نتمنى أن تكون هذه الورقة قد أدت الغرض المرجو من وضعها وأن تساعد الباحثين على فتح أفق جديد في مجال القراءة النصية للأدب المنتج من الأطفال لمعرفة ميولهم ورغباتهم واحتياجاتهم النفسية والفكرية والاجتماعية بهدف مساعدتهم من خلال أعمالهم الإبداعية وليس من خلال إسقاطاتنا النفسية والفكرية عليهم عبر النصوص الأدبية الموجهة إليهم، كترجمة لمنظومة الينبغيات (ينبغي).

المـــراجـــع:

  1. ميرايل، سيسيليا، مشكلات الأدب الطفلي، ترجمة، مها عرنوق، وزارة الثقافة، دمشق، 1977م، ص 26.
  2. د. الشماس عيسى، أدب الأطفال بين الثقافة والتربية، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، دمشق، 2004 ص 31.
  3. الهيتي، هادي نعمان، ثقافة الأطفال، عالم المعرفة"123" الكويت آذار 1988 ص17.
  4. إجابات عبد المجيد القاضي عن أسئلة عبد الله أبوهيف، الموقف الأدبي، دمشق ك/1984 ص123.
  5. أدب، فنون، تربية الأطفال، دراسات ومحاضرات، مؤتمر الطفولة الأول1994، الناصرة، إصدار مجلة الحياة للأطفال ص64.
  6. المرجع نفسه ص64.
  7. كتابي الأول، مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، ط1، 2002، حازم عفانة، قصة "صديقي مصطفى"، ص 12.
  8. الخلايلة عبد الكريم، اللبابيدي عفاف، تطور لغة الطفل، ص87.
  9. كتابي الأول، كفاح صياد، ص21.
  1. المرجع نفسه، عائدة إليك يا بيت نبالا، ص27.
  1. المرجع نفسه، خالي أحمد، ص41.
  1. المرجع نفسه، صديقي مصطفى، ص11.
  1. د. عبده داود، عبده سلوى خضر، في لغة الطفل، ج1، المفردات، دار الكرمل ص16.
  1. كتابي الأول، مذكرات فتاة فلسطينية، ص 35.
  1. المرجع نفسه، انتفاضة الأقصى، ص39.
  1. المرجع نفسه، الطفولة الضائعة، ص17

إن قيمة هذه الدراسة تنبع من استقراء صاحبها لواقع الطفل الفلسطيني في ظل ظروف لا تنسحب على أي طفولة في العالم وإنما هي طفولة عاشت أجيالا تحت نير الاستعمار الإسرايلي .فما يعيشه الطفل الفلسطيني اليوم من هواجس وانعدام الشعور بالأمن ...كان والداه قد عاشاه قبله لذلك فإن نفسية الطفل الفلسطيني تختلف عن نفسية أي طفل في العالم في الملامح الخاصة بكل شعب.لذلك فإن ما يوّجه إلى الطفل الفلسطيني من إنتاج لا بد أن تُراعى فيه خصوصية هذاالناشئ بما هو يعيش حربا متواصلة .وأن ينهض كل ما يُوّجه إليه من انتاج مقروء أو مرئي على مراعاة ما لنفسيته من خصوصية وأن يكون منتخبا على أساس دعم المشاعر الإيجابية وترسيخ الشعور بالأمان ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى